جاءني السؤال : كيف يكون المسلم فاعلا في الحياة مع هذه الكثرة من الأحاديث التي تبشر المعتزلين للدنيا بأعلى المنازل في الجنة ، مثل حديث " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء "
أقول : هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة التي أفاضت كتب الشروح في تفسيره وتأويله على نواح شتى ، وكثير من الشراح يعتبرونه من أحاديث الفتن ، حيث آخر الزمان وقبض العلم بقبض العلماء، وانتشار الجهل والفتن ونحو ذلك.
ولكني أرى في الحديث بعدا آخر ربما لم أقف عليه عند من قرأت من الشراح الأوائل ، وهو أن الحديث لايتحدث عن ظرفية انتشار الفتن وفساد الزمان في فترة ما ، ولكنه يتحدث عن حالة الاغتراب التي يعيشها أصحاب القيم القابضون على الجمر في كل زمان ومكان .
فبدهي أن الغرباء -وهم في نظري أهل القيم المصرون على خوض معركة الحياة بشرف وترفع -لايعانون مايعانون وهم معتزلون ، بل على العكس من ذلك ، فهؤلاء دائما هم أهل الحفر بكلتا أيديهم في مناكب الأرض ، الإيجابيون الفاعلون ،أهل الدأب الحقيقي والعزيمة التي لاتلين ،الذين يصرون على التميز دون أن يسمحوا لأطراف أناملهم أن تقترب مما تنغمس فيه أيدي أقرانهم وأقدامهم وهم يعتركون على لعاعة من الدنيا .
حينئذ يعاني هؤلاء المتفردون الغربة والاغتراب ، لأنهم ببساطة لايتنازلون عن مبادئهم ولايميعون القيم ولايلبسونها غير لباسها، . فالكذب عندهم كذب لاتجملا ، والوصولية وصولية وليست منفعة،
والرشوة رشوة وليست هدية الخ
نعم يشعرون بالغربة لكنهم سعداء لأنهم يعظمون في عين أنفسهم ، وهم يرونها قادرة على أن تغرد وحدها في مكان لايقف فيه غيرها ، تصدع بالحق وتنطق بالصدق ولاتطأطيء ولاتنحني ولاتصفق زورا ولاحتى مجاملة ، مع يقين جازم بأن ماقسم الله لها من رزق سوف يأتيها ، وأن الشرف هو مجلبة الرزق والهناء والسعادة والبركة ، وإن بدا الأمر للسطحيين المتعجلين على خلاف ذلك .
فالشريف عزيز وملك ومالك ولو كان أدنى عامل في مكان ما ، و عبد الدنيا ذليل ومستعبد ومملوك ، ولو كان هو المدير أو العميد، فهو عبد لمنصبه يستذله حتى يبتز منه آخر نقطة من كرامته، ثم يتركه شبه رجل حتى في بيته ووسط أسرته .
ثم إنني لست مع تفسير قوله صلى الله عليه وسلم "طوبى للغرباء " على أنه التبشير بالجنة أو بدرجة فيها تسمى " طوبى"
حيث إن معنى " طوبى " في لغتنا الجميلة : الغبطة والسعادة والخير الدائم .
وأزكي أن هؤلاء الغرباء سعداء دنيا وأخرى ، نعم الجزاء الأوفى سيكون حتما في الآخرة لأنها هي العاقبة وهي دار الجزاء ، ولكن الله تعالى دائما يسعد قلب عبده المخلص بأن يذيقه شيئا من عاجل بشراه في الدنيا .
وليس بالضرورة أن يكون عاجل البشرى في شكل منصب أو ترق أو مال ، فعطاء الله لايقف عند حد وهو تعالى أعلى بما يفرح قلب عبده وأين ومتى يذيقه برد السعادة بعد الكد،.
فالإنسان بطبعه يحب أن يرى ثمرة لسعيه في الحياة الدنيا ، تعينه على مواصلة السير ، وتنبئه عن مؤازرة الرب له ، وأنه عنه راض ومبارك لسعيه وسوف يعينه في طريقه المتفرد ، الذي اختطه لنفسه قاصدا به وجهه الكريم .
أما العارفون فيغردون في مكان آخر ، إنهم أصحاب همة متجاوزة ، لاترى الدنيا بخزائنها وماعليها ومن عليها تصلح لأن تكون آية على رضا الله عن عبده المستطيب لرزقه ،حتى وإن جعلها في يده وتحت تصرفه وإمرته ، الجزاء الحقيقي للعبد الكادح المستطيب لرزقه ، لايكون بتمليكه مفاتيح الدنيا وخزائنها ، ولكن في أن ينعم عليه بنعمة الشهود الدائم، لايغيب ربه قط عن عين قلبه ، يرى ربه في كل شيء حتى يتساوى عنده المنع والعطاء فيفرح بكليهما ، وقد يرى في منعه العطاء كله .
ويرون كذلك أن مما يبارك به الله سعي عبده المستطيب لرزقه ، أن يوقظه سحرا في حضرته ليناجيه وكأنه يعاين الملأ الأعلى ، في الوقت الذي يضرب فيه على آذان وقلوب عبيد الدنيا ، فهم المحرومون مهما جمعوا المملوكون وإن ملكوا.
وأرى أن ماقدمت من تفسير لهذا الحديث هو المعنى العميق لما ورد في أحد روايات هذا الحديث وقد سئل صلى الله عليه وسلم ، ومن الغرباء يارسول الله ، قال : " الذين يصلحون إذا فسد الناس"
صلاح في الظاهر والباطن ، وفي القصد والتوجه ، وفي الهمة والإقبال، فيريهم الله الحق حقا والباطل باطلا، والقيمة قيمة بلا تزييف ولاتمييع .