حول حديث " إذا أبق العبد من مواله فقد كفر" وحديث " أيما علام أبق ضربت رقبته " ومافي معناهما من الأحاديث .
أبدأ فأقول :
في مثل هذه المرويات المشكلة التي تبدو متناقضة مع حرية الإنسان وكرامته وحقوقه التي كفلتها له الشريعة الإسلامية ، فقط لكونه إنسانا دون النظر إلى أمر اعتقادة أو لونه أو نحو ذلك….
هذه المرويات لايمكن فهمها فهما صحيحا دون اتباع عدة خطوات منهجية علمية ،
أهمها:
١-الاستيثاق من صحة الرواية سندا ومتنا ، فقد يصح الحديث سندا ولا يصح متنا والعكس ، كما قرر المحققون من المحدثين .
٢-دراسة السياق المقامي والحالي للرواية ، أو الوقوف على سبب ورودها ودراسته .
٣-دراسة الرواية دراسة موضوعية مع مجموع الروايات الواردة في ذات الموضوع ، أو دراسة الرواية مع الروايات ذات العلاقة دراسة موضوعية .
٤-رد الرواية إلى مجموع نصوص القرآن الكريم المتعلقة بموضوعها ، وإلى كليات الشريعة وقواعدها العامة ومقاصدها المقررة .
وقد قدمت في كتابي " قضية التوارث بين المسلمين وغير المسلمين " منهجا علميا ضابطا في دراسة مثل هذه المرويات، للوقوف على الحكم الصحيح في كل القضايا النظيرة ، يمكن الرجوع إليه لمزيد من الاطلاع على هذا المنهج .
وبالرجوع إلى رواية " أيما عبد أبق فقد كفر " ونحوها من الروايات محل السؤال ، أقول :
لم أجد في كتب الشروح وغيرها أسباب ورود لهذه الرواية أو نظرائها ، ولكن بدراسة السياق الحالي ومجموع الروايات الواردة ، وتبويب بعض المحدثين لبعض هذه الروايات ، وأيضا ماقاله الشراح والمحققون ، أمكن استنتاج مايلي :
اولا : هذا الحديث ورد في حق هروب العبد مرتدا إلى أهل الشرك المحاربين خاصة ، بدليل هذا القيد الذى ورد في إحدى الروايات " أيما عبد أبق إلى الشرك فقد حل دمه "
وقد بوب أبو داوود لهذه الرواية بقوله " الحكم فيمن ارتد "
وفي رواية النسائي " أيما عبد أبق من مواليه ولحق بالعدو فقد أحل بنفسه "
ومعنى " أحل بنفسه " أي : أخرجها من التبعة أو العهد ، فكأنه أباح دمه أوسمح بإهداره دون دية ، هذا فضلا عن ارتداده إن كان قد ارتد . .
ومن مجموع الروايتين وبموجب مفهوم المخالفة يتضح : أن هروب العبد من ظلم أو اضطهاد أو قهر إنساني الى بلد يأمن فيه على دينه أو على نفسه ، أو يعلم أنه سوف ينال فيه حريته ، هذا التصرف لايجعله أهلا لاستحقاق هذا الوعيد الذي جاء في الحديث .
لأن الإسلام لايشرع لنظام العبودية في الظروف العادية ولايبيحه ابتداء ، ولكنه فقط أقر به في ظروفه الاستثنائية التي فرضت نفسها على المجتمع المسلم في ذلك الوقت باعتباره نظاما تعامليا عالميا ، و إلى أن يتم التخلص الآمن منه في أقرب وقت ممكن ، وقد كان .
والآن بعد الاستقرار على حرمة نظام الاسترقاق وحظره عالميا ، تصبح مساعدة العبيد في سبيل نيل حريتهم ومساندتهم في قضيتهم ، من أعظم القربات إلى الله ، حتى وإن كانوا غير مسلمين.
ذلك لأن القرآن الكريم جعل الأمر في تحرير الرقاب عاما ، ولم يخصصه الا في أمر الدية فقط ، فاشترط الرقبة المؤمنة ، وهذا هو ماذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله ، فالكفارة عنده تتحقق بتحرير رقبة مؤمنة أو غير مؤمنة ، إلا في دية القتل الخطأ لنص الآية .
ثانيا : مما يلاحظ في هذا الحديث" أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله حتما في المدينة المنورة ، لأنه لم يكن في الفترة المكية تشريع لمثل هذه الأحكام على الإطلاق ، وهذا معناه أن العبد إذا هرب لحق حتما بالأعداء المتربصين بالنبي صلى الله علبه وسلم والمسلمين ، يعني بالمشركين المحاربين
، إذ لم يكن وقتها إيمان في غير المدينة المنورة .
وهذا معناه أن هذا العبد ، إما أن يكون قد ارتد فعلا وبردته سوف يصبح عينا أو جاسوسا على المسلمين ، وإما أن يكون قد هرب لمجرد التخلص من عبوديته ، ولكنه متمسك بدينه وحينئذ سوف يقتل حتما ، وسيكون دمه هدرا ، لأنه لم يكن ثمة اتفاق بين المسلمين والأعداء المتربصين وقتها بشأن الدية ولاغيرها .
وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم "فقد برأت ذمته " يعني لايتحمل المسلمون ديته ، ولاأية تبعات أخرى ، لأن هذه الدور وقتها كانت كلها دور حرب وليست بدور عهد وموادعة تصان فيها الحقوق .
وعلى كل : فهذ العبد هو الذي قرر مصيره إما بالفرار مرتدا ، وإما بالفرار إلى حيث يهدر دمه ، وكلاهما يجعله أهلا لاستحقاق هذا الوعيد الوارد في الروايات ، لاسيما وأنه من المفترض أنه مقيم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحت حكمه ، يعني سوف ينتصف له صلى الله عليه وسلم إن تعرض لأدنى مظلمة ، و إن آذاه سيده فسوف تكون كفارة هذا الذنب هي عتقه ، فلم يهرب إذن ؟ وكيف يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرحل إلى غيره ؟ اللهم إلا إذا كان الإيمان لم يمس شغاف قلبه .
والخلاصة هي أن هذه الروايات لاتتحدث عن قضية هروب العبد في سبيل حريته إلى حيث يأمن ، ولكنها تتحدث عن هروبه حال ارتداده أو إلى حيث لايأمن يقينا ، لما يتوقع من إلقاء نفسه إلى التهلكة .
ولايستبعد في رأيي أن يكون الوعيد في هذه الروايات خاصا بمن يهرب من العبيد من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حال حياته صلى الله عليه وسلم ، لاستحالة هروب عبد من مدينة يحكمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمظلمة ، أو طلبا للأمان أو نحو ذلك ، في ظل نظام ساوى بين الحر والعبد في القيمة الإنسانية والكرامة المجتمعية، بل وارتفع العبد فيه إلى مقام لم يطمح إليه الحر ، ولقب فيه بالسيد .
ورضي الله عن سيدنا بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجمعنا به على حوض نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومتع آذاننا بصوته الندي . آمين يارب العالمين .
وفي النهاية وبعد تقديم الشكر للأستاذة الباحثة في جامعة كندا -صاحبة السؤال- أذكرها بأن ماقدمته في منشوري هذا عبارة عن إضاءات تفيدها في بحثها ، ولكن الأمر أعمق وأدق من أن يستوفى هاهنا ، فألتمس المعذرة من سيادتها ومن المتابعين الأفاضل الذين أتشرف كثيرا بمتابعتهم وتعليقاتهم.