تكرم أستاذنا الدكتور أيمن الحندي بإثارة هذه القضية على صفحته ثم شاركني ماكتب للوقوف على رأيي الفقهي في هذه المسألة:
وبعد تقديم وافر الشكر والتقدير لسيادته أقول :
مثل هذه القضايا لايمكن الحكم فيها بقول واحد قاطع ، سواء بالحل أم بالحرمة .
ومحققو الأصوليين يقولون : مامن حكم شرعي إلا وتعتريه الأحكام التكليفية الخمسة حال تنزله على أفعال المكلفين.
فالصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام حكمها في الأصل هو الوجوب على كل مسلم بالغ عاقل، ولكنها تكون حراما في حال العذر الشرعي للمرأة ، وتكون مكروهة في أوقات معينة ، وتكون مندوبة إذا أديت الفرائض ، وتكون مباحة طوال وقت الأداء مالم يخرج .
وعليه : فالتجميل كذلك تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة ، فيكون حراما إذا لم تدع إليه حاجة و بقصد تغيير الخلقة ، كأن يكون تقليدا لأحد من المشاهير أو رغبة في أن يكون هو هو تماما ، كما يحدث تجاه بعض أهل الفن مثلا .
ويكون مكروها ، إذا لم يقصد التغيير ولكن لاتوجد حاجة تدعو ا إلى إجراء هذه العملية ، بأن يكون الوجه خاليا من العيوب المنفرة ، وهو طبيعي ومقبول بالنسبة لسن صاحبته مثلا ، ولكن ليس إلى الدرجة التي تنشدها من الجمال أو السن ، فالغرض من إجراء عملية التجميل هو الوصول بالوجه إلى هذه الدرجة التي تنشدها ليس إلا ، مع حرصها على الإبقاء على شكل وجهها كما هو دون تغيير لملامحه ، ولاتقصد شيئا من ذلك .
ويكون واجبا في حال تعرض الوجه لحادثة أو حريق مثلا أدى إلى تشوهه أو بعض ملامحه، هاهنا يكون إجراء عملية التجميل واجبة بحيث يعود الوجه إلى ماكان عليه في أصل خلقته وطبيعته أو بما يقترب من ذلك ، حتى لاتتأذى صاحبته ، ويتأذى الناس كذلك من رؤيته على هذه الصورة المشوهة . .
ويكون التجميل مباحا في حال مداراة بعض العيوب الخفيفة التي لاتحتاج إلى إجراء جراحات ولاتغيبر خلقة ، كالبوتكس والفيلر وماشابه ذلك ، ولكن مع تجنب قصد تضليل الناس بحقيقة السن بشيء فيه مبالغة ، كأن تكون المرأة في الستين وتريد أن تظهر بمظهر الثلاثين مثلا أو حتى الأربعين ، لاسيما وقد ثبت أن كثرة إجراء مثل هذه الإصلاحات بصفة مستمرة تقود في الغالب إلى أضرار قد تستدعي إجراء جراحات تدخل في باب تغيبر الخلقة المحظور شرعا . .
اما إذا كانت الراغبة في التجميل فتاة شابة أو امرأة غير طاعنة في السن ، ولكنها تبدو كذلك لمرض أو لإجهاد زائد في البيت أو العمل ، أو لتعرضها لإضاءات غير طبيعية بصفة مستمرة أو نحو ذلك مما يضر بالبشرة ويجعلها تبدو أكبر بكثير من عمرها ولدرجة تتأذى بها صاحبتها نفسيا ، هاهنا يباح إجراء تجميلات تعود بالوجه إلى مايفترض أن يكون عليه في الأحوال المعتادة ، بحيث تنتفي عنه أعراض مايجعله غير مريح لصاحبته .
ولاأرى جواز إجراء عمليات من قبيل تصغير الأنف المعتدل خلقة ، ونفخ الشفتين وتغيير شكل العينين ونحو ذلك ، لأن هذا من تغيير خلق الله المنهي عنه في النصوص الصريحة من قرآن وسنة .
وماذكرته هذا هو من اجتهادي الخاص في المسألة ، وبعض الاطلاع على عشرات الدراسات والبحوث وقرارات المجامع الفقهية والرسائل العلمية وغيرها .
ومن باب الأمانة العلمية أقول : هناك من الفقهاء المحدثين من منع التجميل قولا واحدا حتى بالمساحيق العادية ، وهناك من أباحه بكافة صوره وأشكاله مالم يصل إلى حد تغيير الخلقة ، وهناك من فصل فغاير في الحكم بين حالة وأخرى ، ولكن الجميع متفقون على حرمة التجميل إذا أدى إلى تغيير الخلقة حال القصد إلى ذلك .
وأنوه إلى ضرورة التصالح مع النفس والسن ، فعلى كل واحد منا أن يحب خلفته التي أكرمه الله بها كما هي، وعليه كذلك أن يحب سنه إن كبر ،بل ويستمتع به ، وبالعلامات التي تدل عليه ، فهذا أفضل بكثير من الوقوع في فخ التجميل ولو البسيط كالفيلر والبوتكس ونحوهما ، تجنبا للتكرار الكثير المرهق للنفس ، المضيع للمال والجمال فيما بعد.
كما لايخفى أثر الطاعة والصلاة والتهجد وصفاء القلب والروح والرضى عن الله في القليل والكثير ، على جمال الوجه ونورانيته حتى تجعله أخاذا حتى وإن امتلأ بالأخاديد وليس بالتجاعيد ، وكم رأينا جدات جميلات آسرات للعيون والقلوب ، وشابات منفرات على الرغم من ازدحام وجوههن بألوان الطيف كلها ، لأن مافي القلوب يرتسم على صفحات الوجوه بلا ريب .
فالكبر له جماله المستمد من جلاله ووقاره ، وقد رأينا حديثا جميلات في هوليود يرفضن صبغ شعورهن بالأبيض ويرونه جمالا طبيعيا ، حتى أصبح موضة الآن ، بل ويقدم بعض من لم يصلن إلى سن الكبر على صبغ شعورهن باللون الأبيض تلمسا لإضاءة الوجه بهذا اللون الجذاب في نظرهن .
وهذا هو نفسه ماورد عن رسول الله عليه وسلم " الشيب نور المؤمن "
ومع ذلك وجدت بعض الروايات تفيد بأنه صلى الله عليه وسلم غير بعض شيب رأسه بالحناء ، ووجدت عددا من الروايات تفيد بأن هناك من الصحابة من غيروا شيب شعورهم بالحناء والكتم ، وهذا الأخير نبات يميل لونه إلى الصفرة ، وهذا كله لبيان أن الأمر على السعة لمن أراد تجديد مظهر كبره أو الارتداد به إلى سن أصغر في حدود المعقول والطبيعي ، وهذا مايفسر لنا في الوقت ذاته أحاديث النهي عن الصبغ بالسواد ، قال بعض الفقهاء إنما يكون النهي هنا على الكراهة في حق من طعنوا في الكبر ، لمنافاة ذلك للفطرة والطبيعة .
والخلاصة هي أنه لامانع من التجميل في حدود التجميل المعقول والمعتاد فقط ،وبالقدر الذي يخفي العيوب المنفرة الأصيلة والطارئة ، ويعود بأصحاب أو صاحبات السن الصغيرة والمتوسطة إلى مستوى أعمارهن إن طرأ على أشكالهن تغيرات لاتتناسب وسنهن الطبيعي، وقد تأزمن نفسيا من ذلك أو يخشى أن يتأزمن ، وكذلك بالنسبة لكبار أو كبيرات السن إن وصلت علامات الكبر لنحو يؤذيهن نفسيا ، وهناك من هم في مثل هذه السن يبدون أصغر وأكثر قبولا ، وبحيث يؤدي هذا التجميل إلى ظهور الوجه والشعر على نحو تأنس به النفس وتسعد وتبتهج ، مع توفر شرط عدم قصد تغيير الخلقة، أو المخادعة بالسن ، ولكل حالة حكمها .
وأكرر: مثل هذه القضايا لايفتى فيها بفتاوى عامة موحدة ، ولابقول واحد كما أوضحت سلفا، وتتعدد فيها الآراء وسوف تظل كذلك ، وهنا كذلك يحسن الأخذ بهذه الأحاديث في خاصة النفس "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " و " دع مايريبك إلى مالا يريبك "
ملاحظة
برجاء قراءة الكلام بكامله بتأن وتدقيق قبل كتابة أية تعليقات ، لأنه لوحظ في كثير من التعليقات عدم استيعاب ماأكتب استيعابا كاملا ، وتحميل الكلام مالا يحتمله ، ولاتثريب علي إن لم أرد في هذه الحالة .
ويمنع منعا باتا التجاوز في التعليق ، وأدمن الصفحة له الصلاحية في حجب كل متجاوز عن دخول هذه الصفحة .