ربما يسخر منا التيميون حين نثير هذه القضية لأن لابن تيمية رحمه الله كتابا ضخما بين فيه بنفسه موقفه ، أعني كتابه "درء تعارض النقل والعقل "يعني لايمكن أن يقع تعارض حقيقي في فكر ابن تيمية بين عقل ونقل ، وهذا باد من عنوان الكتاب ، وباد كذلك من العبارات الصريحة والشواهد الصحيحة التي حرص ابن تيمية رحمه الله على سوقها طوال رحلته في كتابه .
أقول : هذه حقيقة أعلمها جيدا ، ولكن ماالذي يعلمه أكثر الناس عن حقيقة موقف ابن تيمية من تلك العلاقة الجدلية بين العقل والنقل ؟ ألم يكن من الأجدى بكم أيها التيميون أن تعنوا بتسليط الضوء على فكر الشيخ ابن تيمية رحمه الله في هذا الكتاب توضحونه للخاصة وتبسطونه للعامة ؟ بدلا من شغل العقل المسلم بفقهه الفروعي الذي حوته موسوعة مجموع الفتاوى ، تلك الفتاوى التي تم جمعها من هنا وهناك ، دون دراسات كافية عن الظرف الوضعي الذي أنتج فيه عقل ابن تيمية هذه الفتاوى ، وهل جميعها قطعية النسبة إليه أم لا؟
فالفتوي في حقيقتها عبارة عن تنزيل الحكم الفقهي الاجتهادي على الواقع المعيش ، ومن ثم فهي متغيرة بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص كما هو معلوم ، ولايمكن أن تتسم الفتوى بالثبات في واقع الحياة الإنسانية الحي المتحرك ، ومن هنا جاءت المشكلة في التمسك بفتاوى ابن تيمية ونقلها للناس على أنها تمثل فكر الرجل وعقله.
وأسألكم ماذا تنتظرون من فقيه كابن تيمية قضى حياته يعاين واقعا مرا اكتسحت فيه غارات التتار بلدان العالم الإسلامي يهدمون الحضارات ويرتكبون الموبقات ؟ في الوقت الذى عانى فيه رحمه الله كذلك اضطهادا كبيرا وسجنا متكررا حتى مات في سجنه صابرا محتسبا ، وهل كان من المنتظر أن يقدم لنا ابن تيمية رحمه الله فقه السلم حال تلك الحرب المستعرة التي لم تعرف لها الإنسانية مثيلا في بربريتها ووحشيتها ؟ أم كان ينتظر منه أن يواجه هذا الإرهاب التتري بالدعوة إلى الحوار الحضاري وقيم المواطنة العالمية العابرة للقارات ؟ بالطبع كلا
…………………………………………..،…………
والخلاصة هي أنه يجب في نظري أن لا تقتصر دراسة فقه الفقيه على فتاواه ، لأن الفتوى لاتجسد حقيفة اجتهاده في فهم النص ولامنهجيته في فهمه ولكنها تمثل مرحلة أخرى تاليه ، أعني مرحلة تنزيل الحكم الاجتهادي على الواقع المعيش ، وهذه المرحلة لها اجتهاد من نوع آخر ، قد تقتضي العدول عن ماتوصل إليه اجتهاد الفقيه في استنباط الحكم إلى اجتهاد آخر بنظر جديد ، أو تقتضي هجر الدليل الذي اعتمده في اجتهاده إلى دليل آخر أنسب للظرف وللواقع ، أو تقتضي توقيف العمل بالحكم المستبط لمعارضته للمصلحة أو غير ذلك .
المهم أن نعلم أن الأصل في الفتوى أنها مرحلية وللظرفيات المشابههة ، ولاتجسد وحدها منهجية اجتهادالمجتهد في استنباط الحكم ، وإنما تجسد تصرفه في محاولة تنزيل هذا الحكم الاجتهادي على واقع الناس المعيش . ودون هذا الوعي سيظلم الفقيه ظلما بينا .