بشغب علينا الكثيرون بل وبتهموننا بكل نفيصة حين نسفر عن موقفنا من التراث بوضوح شديد ، الذي ألخصه دائما في جملة واحدة ( التقدير وليس التقديس ) ومعنى أن التراث غير مقدس : أنه قابل للمراجعة والنقد بأدوات العلم ومناهجه . .
وكررت مرارا وتكرارا أن كلمة النقد ليست كلمة مستهجنة لغة ، وليس فيها مايشير إلى تطاول أو سوء أدب .
يقال نقد الداهم : يعني ميز جيدها من رديئها ، وهناك مادة النقد العربي التي تدرس لأقسام اللغة العربية ، وهي معشوقتي حقيقة ، طالما درسنا فيها تعقبات الأدباء والشعراء على بعضهم ، ووازنا ورجحنا بين أقوالهم وخلافه ، ولم يخطر على بالنا ونحن ندرس مايشير إلى انتقاص ، أو أن دراستنا هذه تؤهلنا لمنازلة الأكابر بما لايليق ، بل على العكس ، لطالما تعلمنا الأدب من خلال هذه الدراسة ، لأننا تعلمنا أن لانقدر إلا النقد البناء ، وأن الناقد حين ينعطف عن مساره ويذهب ليتناول من ينتقده بما لايليق ، نولي وجوهنا عنه مدبرين ، غبر آبهين بما يقول ولو ضمن كلامه فرائد الألفاظ اللغوية .
ودعونا من الأدباء والنقاد ، وتعالوا نطلع على طريقة الفقهاء الأثبات في نقد من يقدرون من سابقيهم ؟ وفي حق إمام بوزن الإمام النووي رحمه الله .
من ذلك مثلا : ماقرأته مؤخرا من تعقب الإمام الشعراني على النووي رحمه الله ، حين اختلف رأيه في قبول الحديث الوارد عن ابن عباس رضي الله عنه في صلاة التسابيح ، ، ومعلوم أن الشعراني رحمه ينتصر لهذا الحديث انتصارا كبيرا ، ولكون صلاة التسابيح سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم فهو يحكم بصحة هذا الحديث الذي اختلف رأي النووي فيه ، ثم راح يعقب على كلامه رحمه الله بقوله : لقد اضطرب كلام النووي في أدلتها - يعني صلاة التسابيح. لغيبة كتاب الترغيب والترهيب عنه ، فإن الكتاب لم يشتهر إلا أيام الحافظ بن حجر ، وجده في تركة إنسان مسودا فبيضه وأبرزه للناس ، ولو أن النووي كان رآه لنقل ذلك عن المنذري ، لكونه من الأئمة الحفاظ . ( لواقح الأنوار للشعراني )
لقد افترض الإمام الشعراني رحمه الله بكل احترام وتقدير أن النووي لم يطلع على كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ، هكذا بكل بساطة ، ويصف كلامه بالاضطراب لاختلاف رأيه في الحكم على الحديث ، ثم يعتذر له بكونه لم يصل إلبه كتاب المنذري ولو رآه لنقل عنه ، وهذا في حقيقته نقد. بل من صميم النقد .
صدقوني لو قالها أحد اليوم - مع أن العهد بيننا وبين الإمام الشعراني ليس ببعيد - ولو كان من أكابر الفقهاء ، بعد بحث انتصر فيه لرأي يخالف رأي أحد من الأسلاف ، ولو كان قدره في العلم دون قدر الإمام الإمام النووي بكثير ، لسب وقدف بما لايخطر له على ذهن ، إذ كيف يفترض محدث غر صغير أن أحدا من الأسلاف لم يطلع على شيء تبدى له هو ، ومما ينتظر قوله في هذه الحالة : وهل كل هذه الأجيال من العلماء لم يتبد لها هذا الذي ذكرت حتى هبط له الوحي عليك ؟ ثم لايبرح حتى تنهال عليه ألفاظ أقل ماتوصف به أنها تستلزم الحد.
حقا : إذا سكت الجاهل ارتفع الخلاف .