قديما تحدث الفقهاء عن المفتي البصير ، ويعنون به من يتصف إلى جانب الكفاءة العلمية والخبرة المجتمعية بقدر كبير من الذكاء والألمعية ، بحيث يمكنه فهم ماوراء الأسطر من الكلام محل السؤال ، باختصار : لا يقدر أحد على أن يحصل منه على الفتوى التي يريدها بالتلبيس عليه في الواقعة التي يقصها .
كأن يسأل المستفتي المفتي سؤالا : هل بجوز لأحد أن يحرم أحد ورثته من ميراثه منه ؟ قطعا المفترض أن يكون الجواب : لا . لايجوز .
ولكن المفتي البصير يستشعر شيئا من الريبة في ما وراء هذا السؤال ، يعني يستشعر أن هناك شيئا ما يبدو مفقودا ، فيوجه سؤاله إلى المستفتي ؟ وهل هذا الرجل حي أم ميت ؟ فيقول : هو حي يرزق ، فيتابع. ، وكيف حرم مورثه من الميراث وهو لايزال حيا ؟ فيجيب خص فلانا بشيء من ماله ولم يعطني مثله ونحن في درجة واحدة من القرابة إليه ؟ فيتابع المفتي : يعني فعل مافعل على عين حياته في جزء من ماله ؟ فيقول المستفتي : نعم ، فيقول المفتي : إذن هذه هبة وليست ميرثا ، فالميراث هو مايتركه الميت خلفه من كل مايتملك ، أما الهبة فهي من عقود التبرعات ، ولها أحكامها التي فصلها الفقهاء ، ولكل إنسان الحق في أن يهب من أمواله مايشاء لمن يشاء حال حياته ، مادام لم يقصد حرمان أحد ورثته من تركته أو الإضرار به . وهنا يفغر المستفتي فاه مستنكرا على المفتي فتواه ، عازما على التحول عنه إلى آخر غير بصير، ليحصل منه على الفتوي التي يريد .
الشاهد هنا : أن هذا المفتي لو لم يكن مفتيا بصيرا ، لأجاب السائل منذ الوهلة الأولى بأنه لايجوز لمورث أن يحرم أحدا من إرثه ، الذي هو في واقعة السؤال ليس إرثا وإنما هبة ، وفرق كبير بين الميراث والهبة لغة وشرعا ، والمستفتي يعي ذلك جيدا ويفهمه ، وإنما هو التلبيس على المفتي ، لينال بغيته من المال ليس إلا .
وقس على ذاك العديد والعديد من النماذج التي يتعرض لها المفتون في حياتهم . ومن هنا كان معيار التبحر في العلم ليس وحده كافيا للتأهل لعملية الافتاء، وتبويء هذه المنزلة الرفيعة في دنيا الناس . .