(تجربة التدريس للطلبة الصينيين )
بمناسبة أجواء الاحتفالات باليوم العالمي للغتنا الجميلة - اللغة العربية - أنقل تجربة مهمة في حياتي تنبيء عن كثير مما نحن عنه ذاهلون ، فيما يختص بعملية دور التعليم في بناء الشعوب والوثوب بها إلى المستقبل -
هذه التجربة تتلخص في أنني قمت بتديس مادة الدراسات الإسلامية لمجموعة من الطلبة الصينيين لسنتين على التوالي بشعبة اللغة العربية لغير الناطقين بها ، التابعة لقسمنا الحبيب ، قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة طنطا .
والحقيقة أنني أعتز كثيرا بهذه التجربة ، تجربة أن أعايش طلابا صينيين يهاجرون من أقصى الشرق حبا في لغتنا الجميلة، ليس ذلك فقط ، بل ويرون تعلمها سبيلا لمستقبل مزهر ينتظرهم وإلا لما تكبدوا هذه المشاق في سبيلها ، فهذه الشعوب كما هو معلوم لديها استراتيجية تسير عليها ، ولاتخوض تجربة التعلم وهي منفصلة عن الهدف الذي لأجله كان هذا التعلم .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فقد ازددت يقينا بأن هذه الدولة ،التي ينتظر أن تكون القوة العظمي المهيمنة عالميا في المستقبل القريب ، تستحق أن تكون كذلك ، لأنها تعد أبناءها بشكل مختلف ، ويكفي أنها استطاعت أن تخلق فيهم هذا الدأب والنظام واحترام أنفسهم والأستاذ والكتاب والمحاضرة والجو العلمي الخ
وقد أخطأنا نحن المسلمين حين تصورنا أن مقاليد الكون سوف تسلم لنا فقط لكوننا مسلمين ، مع أننا جميعا نقر بأن واقعنا العلمي عبارة عن ظلمات بعضها فوق بعض من انعدام الرؤية والهدف والتخطيط والأمل ، فقط علمنا الأجيال فن تجميع الشهادات العلمية المفرغة من القيمة وتحصيل الألقاب المزيفة ، وتجاهلنا حقيقة أن الحق سبحانه وتعالى أقام كونه على مبدأ الحق والعدل " الميزان " فمفاتيح إعمار الكون لمن يملك مفاتيح هذا الإعمار ويأخذه بحقه، والله تعالى أجل من أن يحابي أحدا من خلقه على حساب الحق والعدل .
وقديما قالها ابن تيمية رحمه الله " إن الله ينصر الدولة العادلة حتى وإن كانت كافرة "
المهم أنني درست للطلبة الصينيين لعامين متتاليين ، في مواضيع أقرب إلى علوم القرآن الكريم والتفسير ، وفي البداية وجدت صعوبة شديدة في توصيل المعلومة لديهم لاسيما حال توصيل المفهوم أو المعنى الاصطلاحي ، وهم بالكاد يكادون يفكون الخط كما يقولون .
ولكن بكثير من الدأب والمثابرة منهم قبل أن يكون مني سرعان ماوجدتهم يقفزون خطوات إثر كل محاضرة ، وماانتهى التيرم إلا وقد حققت معهم وبهم الهدف الذي أملته فيهم، وربما أكثر بكثير مما أملت .
والأهم من ذلك : أنه برغم الجهد الكبير الذي كنت أبذله مع هؤلاء الطلاب إلا أنني كنت أستمتع بالتدريس لهم غاية الاستمتاع ، وتعلمت معهم فنونا أخرى في كيفية توصيل المعلومة لم أمارسها من قبل ، كالرسم مثلا حين لاتفلح الإشارات ونحوها في الإفهام .
كما كنت حريصة على التعرف على حضارتهم من خلالهم ، فكنت أراقب تفاصيل سلوكياتهم وإن لم ألفت انتباههم لذلك ، وأشهد بأنني مارابني منهم شيء يتصل بالأدب أو الالتزام ، وما أذكر أبدا أن طلبت من أحد منهم الانتباه أو الكف عن الكلام أو الضحك ، أو نحو ذلك مما هو مألوف أن نجده في سلوكيات الكثيرين من طلابنا المصريين .
ويكفي ماكنت أراه في أعينهم من حب واحترام كبيرين من بداية المحاضرة وإلى آخر دقيقة منها .
وكان يشتد بي العجب حين أشاهد فرحتهم الغامرة حين يفهمون معنى لآية أو تفسيرا لحديث أو قيمة جديدة من قيم الدين الإسلامي الحنيف ، وهم في الأغلب والأعم لادينيين ، وإنما لديهم دأب وهم يدرسون لغتنا على التعرف على ديننا عن قرب ، لما يدركونه من دور الدين في تشكيل عقولنا وقناعتنا وسلوكياتنا ،وهم ماجاءوا من بلادهم إلا لهذا الهدف تحديدا.
فهذه شعوب تقف وراءها حكومات تخطط للمستقبل بشكل مثير !!!
وقد مر الآن ثلاث سنوات على اعتذاري عن التدريس في هذه الشعبة ، ومع ذلك لايكاد هؤلاء الطلاب يفوتون مناسبة دون الاتصال بي ، وتوصيل مشاعر الامتنان والتقدير لجهدي معهم في التدريس ، كما يحرصون على تهنئتي بكافة المناسبات الدينية كرمضان والعيدين مثلا .
هذا التواصل العاطفي الإنساني الدافيء لم أجده حقيقة من أجيال من طلابنا المصريين إلا ماندر ،وللأسف الشديد.
والآن ودعوني أنتقل بكم في لمحة سريعة إلى تجربة تعليم اللغة العرببة وثقافتها للناطقين بها من أبنائنا وبناتنا المصريين ..
مأساة وأي مأساة !!
أكثر الملتحقين بالقسم مرغمون ، فلو كان مجموعهم في الثانوية العامة قد بلغ بهم الطب أو الهندسة أو مادونهما ، ماتكرموا علينا بالالتحاق بهذا القسم .
ولذا فكثيرا ما يتخرج الطالب في قسم اللغة العربية ، وهو لايعرف الفاعل من المفعول إلا بالشبه ، لا لسبب من الأساتذة ، ولكن لأن الذائقة اللغوية لم ترب فيه قط ، فقد درس اللغة في مراحل التعليم قبل الجامعي عن طريق ملاحظة الشبه وليس التذوق ، فهو يعلم الفاعل بعلامة معينه وكذا المفعول ومثلهما المضاف والصفة ونحوهما ، فإذا ماوجد اسمين متتالين مثلا أحدهما دون "ال " والثاني به " ال " كانا مضافين ، وإذا وجد"ال" في اسمين متتاليين فهما صفة وموصوف ، وهكذا ، دون أن يدري أو يتذوق ماالإضافة أو الصفة وما وظيفتهما اللغوية والبيانية الخ .
حقيقة ، لاتذوق ولافهم ولا رغبة حقيقية في التعلم ، هذا بالإضافة إلى افتقاد الثقة كاملة في المستقبل .
باختصار ، نحن ندرس لحطام من البشر ، لالشباب يحلم بمستقبل مزهر ، يسشعر قيمة هويته ولغته ومكتسباته المعرفية والحضارية .
لقد هزمت العربية بين أهلها هزيمة منكرة ، لأنهم أصيبوا بعمق في هويتهم العربية والإسلامية ، ومن ثم افتقدوا الشغف لتعلم هذه اللغة الشريفة التي هي لغة القرآن الكريم ، فالتعلم لأجل الوظيفة ، وبما أنه لاوظيفة فلا تعلم.
لك الله يالغتنا الجميلة !!
لقد قدرك العالم أجمع ، وخصصت اليونسكو يوما للاحتفاء بك -١٨ ديسمبر من كل عام تحت عنوان : العربية لغة الشعر والفنون - ولازلت غريبة في دارك ، يتيمة بين أصولك ، بتراء بين فروعك ، ولكنك أبدا لن تموتي وقد شرفك الله تعالى بالقرآن الكريم فوسعتيه معنى ومغزى ، وهو ماسما بك على كل لغات العالمين !!!
لي عظيم الشرف أنني ابنة قسم اللغة العربية بآداب طنطا، وبأنني درست علوم الشريعة من مدخل هذه اللغة الشريفة، التي اعتبرها الأصوليون شرطا للاجتهاد في علوم الشريعة وهذه حقيقة لاريب فيها ، وأختم بقول الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله
" لايجوز لمن لايعرف العربية أن يفتي " .