هذا الكتاب معلوم أنه من مصنفات حجة الإسلام أبي حامد الغزالي ، الأصولي الفقيه المتكلم ، المتوفى عام ٥٠٥ من الهجرة .
وقد انتهت صولات وجولات أبي حامد رحمه الله مع المتكلمين والفلاسفة بعدة كتب ، أبرزها : كتابه "تهافت الفلاسفة" وفيه - كما يبدو من عنوانه - أثبت الغزالي رحمه الله فشل المنهج الفلسفي في إيجاد جواب مقنع حول طبيعة الخالق سبحانه وتعالى ، كما أثبت تناقض الفلاسفة مع أنفسهم حين حاولوا الوصول إلى القضايا الغيبية ، ومالايدك بالحواس بدليل العقل فقط .
ثم كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " وفيه حاول الغزالي التقليل من أهمية علم الكلام ، وبيان عدم جدواه في خلق الإيمان في القلوب ، موجها نقده إلى المعتزلة من منطق أشعري جدلي نظري ، وكان لايزال محتفظا بطريقته الجدلية الأشعرية في معالجة القضايا الكلامية ، لنصل بعد ذلك إلى خاتمة رحلته الجدلية الكلامية بمؤلفه " إلجام العوام عن علم الكلام " مرورا بكتابيه "إحياء علوم الدين"و " المنقذ من الضلال "
فكتاب "إلجام العوام" هو خاتمة كتب الغزالي رحمه الله ، ويمثل نهاية تطوافه مع الفلاسفة والمتكلمين جميعا بكل طوائفهم وفرقهم ، بعد أن تمكن من الوصول إلى الحقيقة بل وعاينها ، ليس بطريق من طرق هؤلاء جميعا ، ولكن بنور قدفه الله في قلبه ، بعد طول عزلة ومجاهدة كبيرة مع النفس على النحو الذي أوضحه في كتابه المنقذ من الضلال .
وقد تصور الغزالي رحمه الله أنه بمؤلفه هذا " إلجام العوام " قد أسقط علم الكلام والفلسفة عن عروشهما ، وألجم علماءهما بمنهجه العرفاني ، وأنه قد حسم طريق الجدل الفلسفي العقيم في الوقوف على حقيقة الخالق والغيبيات ، بعد أن أثبت لهذه الطوائف كلها عدم جدوى مناهجهم وطرائقهم الاستدلالية في الوصول إلى شيء .
ولكن من هم هؤلاء العوام الذين ألجمهم الغزالي رحمه الله أو تصور أنه ألجمهم ؟
لقد كفانا الغزالي رحمه الله الإجابة عن هذا السؤال ، فقال في وضوح وتحديد:
" وفي معنى العوام : الأديب والنحوي والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم ، بل كل عالم سوى المتجردين لتعلم السباحة في علوم المعرفة ، القاصرين أعمارهم فيه ، الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات ، المخلصين لله تعالى في العلوم والأعمال ، العاملين بجميع حدود الشريعة وآدابها في القيام بالطاعات وترك المنكرات ، المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله تعالى ، المستحقرين للدنيا في جنب محبة الله ،فهؤلاء هم أهل الغوص في بحر المعرفة (إلجام العوام ص٦٤ ط دار الحكمة)
يعني كل من لم يسلك في طريق التعرف على الله غير طريق المعرفة القلبية بشرائطها ومجاهداتها فهو من العوام في رأي الغزالي ، وهؤلاء يجب عليهم الإمساك وعدم الخوض في هذه السبيل، لأن المعرفة سر في القلب بين العبد وربه ، لاتنال بهذه الطرق الكلامية كلها .
فالتوحيد في وعي الغزالي لا يتحقق بمجرد نفي الشرك ، أو نفي وتثبيت الصفات على النحو الذي خاض فيه المعتزلة والأشاعرة ومن نحا نحوهما ، لأن هذا هو توحيد العوام في رأي الغزالي ، أما حقيقة التوحيد فلا يتوصل إليها إلا بطريق المكاشفة ، لأن التوحيد من علم المكاشفة .
ولذا نجد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين يناقش قضية التوحيد في الربع الأخير من كتابه " ربع المنجيات "وذلك تحت عنوان حقيقة التوحيد فيجعله أصل التوكل ،
فهو يرى أن الموحد إذا وقف في توحيده عند حد تصديق القلب بلاإله إلا الله فهو من العوام ، مالم يتجاوز هذا النظر الضيق بطريق الكشف حتى يغمر قلبه نور الحق وهو مقام المقربين ، ثم يتجاوز ذلك إلى مقام أن لايرى في الوجود إلا واحدا وهو الله ، مستغرقا في بحار التوحيد ، حتى يفنى عن نفسه في توحيده ، وهذا مقام الصديقين .
المهم أنه وبعد كل هذا الشوط الطويل الذي قطعه الغزالي في الجدل مع الفلاسفة والمتكلمين ، يصل هذا الفليسوف الشافعي فقها الاشعري عقيدة إلى أن التوحيد لايجب أن يعالج نظريا لاعلى طريقة المعتزلة ، ولاعلى طريقة المتكلمين ، لأنه من عمل القلوب وكلما فاض القلب بالتوكل ، أفاض الله عليه بالتوحيد حتى يغرق في بحار أنواره،
لأن التوحيد يفضي بالموحد إلى اليقين بأنه لافاعل في الحقيقة إلا الله ، ومن هنا ينقطع التفاته تماما إلى الوسطاء ، وتسلب عن قلبه فاعلية العلل والأسباب ، سواء أكانت تتعلق بالطبيعة أم بالبشر ، وإن خاض فيها المتوكل بجوارحه ، ولم يترك سببا إلا ركبه وسار فيه حتى النهاية .
ففي تفسير قوله تعالى " فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " يرى الغزالي أن التفات هؤلاء المذكوربن في الآية إلى اعتدال الريح واعتقادهم كونها كانت سببا في نجاتهم ، يشبه حال مذنب أخذ لتقطع رقبته ، فكتب الملك توقيعا بالعفو عنه ، فإذا به يقول لولا القلم الذي كتب به الملك العفو عني لما نجوت ، حيث رأى نجاته بالقلم لاممن بيده القلم ، وهذا غاية الجهل كما يقول الغزالي ، لأن القلم لاحكم له في نفسه وانما هو مسخر بيد الكاتب ، وهكذا جميع الاشياء مسخرات في يد القدرة كتسخير القلم في يد الكاتب .
وهذا الذي انتهى إليه الغزالي غالبا ماينتهي إليه المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة، إذ غالبا مايكون التصوف والمسالك العرفانية هما المرفأ الذي يخلدون إليه في نهاية رحلتهم العقلانية .
نعم يلجأون إلى التصوف وربما التصوف العميق الذي يتجاوز عالم المحسوس والمعقول ، الذي أسرفوا فيه على أنفسهم فنهلوا منه حتى الثمالة، إلى حالة إشراقية لاتعتمد تلك الأدوات المعرفية المنطقية العقلانية ، وإنما يتركون للروح المجال لتتجاوز بهم هذه الأفق المعرفية الضيقة إلى عالم المكاشفة الفسيح ، والذي تضيق العبارة عن وصفه أو وصف أدواته وطرقه .
وختاما أقول : ماأراد الغزالي أن يؤصل له : هو مايلمسه كل واحد منا حين يجلس إلى العجائز من البسطاء ، تحادثهم فلا ترى في قلوبهم غير الله ولايرون لأنفسهم ولالغيرهم حولا ولاقوة ، فاذا ماقلت لأحدهم : ولماذا حدث كذا والمفروض أن تكون النتيجة كذا ، يقول لك و بكل ثقة : لقد أخذت بالأسباب وفعلت ولكن هو أراد : يعني الله ، وأمره تعالى بين الكاف والنون "كن فيكون "
فهؤلاء هم العارفون في رأي الغزالي ومن سواهم عوام ، حتى وإن تزيوا بزي الفلاسفة وأهل العلم والمنطق .
فاللهم إيمانا كإيمان العجائز ويقينا صادقا يقر في قلوبنا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ماكتبت لنا .