الأندللس !!! آه ثم آه على ملكها التليد ،وحيا الله زمانها الخصيب …
أدب وشعر وموشحات وحضارة وظرف وحدائق غناء وفلسفة وحكمة وتشريع وفقه…..
ودعوني أعرفكم على شيء من تراث أندلسنا الخصيب ، حيا الله زمانه وهو كتاب " بداية المجتهد" لابن رشد الحفيد ، الفقيه والفليسوف القرطبي الأندلسي المتوفى عام ٥٩٥ من الهجرة .
ومعلوماتنا أن بداية المجتهد كتاب في الفقه المالكي ، لكون ابن رشد من أكابر فقهاء المذهب المالكي رضي الله عنهم وعن إمامهم .
ولكنه في الحقيقة من أهم الكتب التراثية التي اهتمت بذكر آراء المذاهب الأخرى في كل مسألة بعرض لها ، بحيث يمكن عده من أقدم مادون في علم الفقه المقارن .
يعني من خلال كتاب بداية المجتهد سوف يمكنك التعرف وبسلاسة على آراء جميع فقهاء المذاهب في المسألة التي تبحثها ، دون تعصب لمذهب ابن رشد المالكي في الأكثر .
وقد تعودت من حين لآخر أن أطالع كتاب بداية المجتهد وأنا شغوفة ، لأنني أحبه ككتاب ، وآنس به وبصاحبه وبعبق الحضارة الأندلسية الذي يشع من جنباته .
وتعجبني طريقة ابن رشد المنهجية في هذا المصنف ، وأكثر مايعجبني فيه اهتمامه رحمه الله بذكر أصل الخلاف في المسألة وكذا ذكر الأدلة ، فلا تكاد مسألة تمر إلا وتراه يقول : وسبب خلافهم هو كذا وكذا ثم يسوق الأدلة ، فتشعر أنك تزودت لابكم من الأدلة والآراء الفقهية فحسب ، ولكن بكثير من الرياضة الذهنية ، وأنت تتنقل بين المذاهب والآراء دون إيجاز مخل أو إطناب ممل ،أو خوض في تفصيلات لاأهمية لها في المجمل .
مما أعجبني كثيرا وأنا أطالع هذا الكتاب المنهجي الماتع ، أن أرى صاحبه يكرر في غير موضع ، وهو يتعرض لأصل من أصول المذاهب الأخرى في موطن الاستدلال ، أعجبني أن يقول هذه العبارة : ( لأنهم على ماأعلم يقولون .....) تواضع جم بقيمة عالم كابن رشد .
شيء آخر : أن هذه العبارة وأشباهها في الكتاب تشم منها رائحة الظرف الأندلسي - بتعبير الأدباء - يعني حضارة ورقي وتواضع …
والحقيقة أن هذا الظرف الأندلسي الذي تحلى به ابن رشد تغشى كتابه ، فبدا كتابا ظريفا ، يعني : غير ثقيل كحال كثير من التصانيف الفقهية التراثية ، بل هو ظريف ظرف أهل الأندلس الخصيب .
ومعلوم أن ابن رشد رحمه الله لقب عند الأوربيين بالشارح الأكبر لشرحه لمنطق أرسطو، ودفاعه عن الفلسفة باستماتة ، وله كتاب : "فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال " وفيه حاول جاهدا أن يفحص مابدا من توتر مزعوم بين الفلسفة والشريعة بمجهر خبير ، ليخلص إلى أن فلسفة أرسطو لاتعارض الفلسفة المستخلصة من الشريعة الإسلامية، بعد أن خلصها مما شابها على يد الشراح السابقين ، ليقرر أن مابدا بين الفلسفتين من تعارض إنما هو ظاهري فقط يحتاج إلى تأويل خبير ، بل ويخلص إلى أن الفلسفة عموما لاتعارض الشريعة في شيء ، لأنهما يعتمدان البرهان العقلي المنطقي ، ومن ثم يقرر مقولته الشهيرة " الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة …وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة "
والحكمة كلمة تتسع لكل ماهو معقول ومصلحة وتيسير ومواءمة للفطرة ، وهكذا هي الشريعة ، فالعقل مع الشرع نور على نور كما قرر حبر الشريعة وفليسوفها الأكبر : أبو حامد الغزالي رحمه الله.
ومن بعده يقرر ابن تيمية رحمه الله كذلك : أن صريح المعقول لايمكن أن يعارض صحيح المنقول.
والخلاصة هي أن الشريعة الصادرة عن رب العالمين ، والحكمة النابعة عن الفطرة السوية وفقه النفس والحياة والناس ، حسب رؤية ابن رشد : متلازمتان متوائمتان بل ومتحابتان وإن اختلف الموردان .
وفي القرآن الكريم " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"
قال الطبري : يعنى يعطى الإصابة في القول والفعل .
ويكفي أن وصف القرآن الكريم السنة المشرفة بالحكمة فقال " ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " وفسرت الحكمة كذلك بالنبوة وبالعلم بالقرآن الكريم ، وماالسنة إلا نبع هذين .
وبذا يتضح أنه ومن عنوان هذا الكتاب" فصل المقال وتقرير مابين الشريعة والحكمة من الاتصال " تتبدى لك عظمة ابن رشد الفليسوف كما تتبدى لك عظمته كفقيه ، يعني أنت أمام فقيه يكتب الفقه بوعي كبير بحكمة الشريعة وفلسفتها من وراء التشريع ، وخبرة جيدة بالنفس والناس والحياة والفكر الإنساني بشكل عام ، فهو فليسوف الفقهاء ، وفقيه الفلاسفة.
عظمة على عظمة .