من القواعد المقررة في جميع المذاهب الفقهية أن الفتوى تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص.
والجامدون الذين يدعون اتباع السلف لايعلمون أن السلف أنفسهم بدءا من الصحابة رضوان الله عليهم طبقوا هذه القاعدة ، التي هي في الأساس مقررة وفق أصولهم وتطبيقاتهم الفقهية .
بل إن من الصحابة رضوان الله عليهم -كسيدنا عمر تحديدا - من كان يرجع عن رأيه الذي أفتى به وأمضاه قضاء ، أي قضى به وحكم في حال الخصومات والنزاعات إلى رأي آخر جديد ، كما في المسألة المشهورة بالمسألة الحجرية.
ملخص هذه المسألة : أن توفيت امرأة عن زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء ، فقضى سيدنا عمر رضي الله عنه بتوريث الإخوة لأم دون الإخوة الأشقاء ، لكون الإخوة لأم أصحاب فرض بنص القرآن الكريم في قوله تعالى " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس … "
فالمراد بالأخ والأخت هنا في الآية : الإخوة والأخوات لأم ، وبذا يصبحون أصحاب فرض مقدر منصوص عليه في القرآن الكريم .
أما الإخوة الأشقاء فيرثون الباقي ، بعد أخذ أصحاب الفروض فرضهم أوحقهم ، وحين لايتبقى لهم شيء لايرثون كما في هذه المسألة .
وعليه فتكون هذه المسألة من ستة ، للزوج النصف =٣ وللأم السدس = ١ وللإخوة لأم الثلث = ٢ ولاشيء للإخوة الأشقاء .
هذا هو الأصل الذي على وفقه جاء اجتهاد عمر رضي عنه وقضاؤه في هذه المسألة ، وقد كان يفتي به عدد من أكابر الصحابة غير عمر ، ومنهم أبو بكر وعلى وابن عباس وأبو موسى الأشعري ، وأبي بن كعب رضي الله عنهم .
لكن حدث أن اعترض الإخوة الأشقاء على قضاء عمر رضي الله عنه ، وقالوا : هب أن أبانا كان حجرا ملقى في اليم ؟ يعني في البحر فماذا إذن ؟
يعني اعترض الإخوة الأشقاء على إسقاط حقهم في الميراث ، لكون رابطة النسب التي تجمعهم بأختهم الشقيقة المتوفاه من جهة الأب ،صارت عدما أو كالعدم .
فهم هنا يفترضون فرضا مؤداه : لو فرض وكان أبونا عدما أو كالعدم فأين ذهبت رابطتنا بأمنا ؟ فنحن وإخوتنا لأم الذين ورثوا الثلث من شقيقتنا المتوفاه في منزلة سواء ، لأن أمنا جميعا واحدة ، فيحق لنا أن نرث كما ورثوا .
ومع علم عمر رضي الله عنه بهذا الاعتراض إلا أنه ظل على قضائه في هذه المسألة ، ثم حدث أن جاءت مسألة شبيهة ، فقضى فيها بالتشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم في الميراث ،يعني أشركهم جميعا في الثلث ، أي إن عمر رضي الله عنه رجع عن اجتهاده الأول أو عن قضائه ، إلى اجتهاد آخر جديد ونفذه قضاء كذلك .
فلما سئل رضي الله عنه عن هذا التغير في موقفه أو في قضائه ، ماكان منه إلا أن أجاب بقوله : ذاك على ماقضينا وهذا على مانقضي .
فمن حكمة عمر رضي الله عنه في هذه الواقعة أنه لم يشأ أن ينقض قضاءه السابق فيها ، حتى لاتصير تلك سنة يتبعها القضاة بعده ، فتؤدي إلى اضطراب أحكام القضاة وزعزعة الثقة بأحكامهم ، وفي هذه مفسدة وأي مفسدة !!
وقد استقرت الفتوى في المذهب المالكي والشافعي وفق قضاء عمر رضي الله عنه الأخير ، بينما ذهب الحنفية والحنابلة إلى عدم توريث الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم في الثلث ، لكون الإخوة لأم أصحاب فرض ، وهؤلاء لافرض لهم .
يعني برغم قضاء عمر رضي الله عنه الأخير وتغير اجتهاده ، إلا أن مذهبين فقهيين عظيمين لم يتابعاه عليه ، وبقي قفهاؤه متمسكين بالرأي الأول الذي أمضاه عمر وعدد من الصحابة ، ولم ير أحد من أئمة المذهبين أو من فقهائهما في تغير موقف عمر رضي الله عنه مايلزمه بمتابعته .
وهذه هي أحكام الفقه الاجتهادية : نسبية متغيرة وسوف تظل كذلك .