لم تتحسن الحياة عند السيدة أم عمرو عقب حادثة العجوز اياها
إن حالتها المرضية تتدهور وتزداد سوئاً ولا يبدو ثمة أثر لاستجابة مع الأدوية أو تحسن ولو طفيف
بعض الأطباء شخصوا حالتها تشخيصاً مختلفاً ..، هذا لا يجعل الحياة أفضل كما أن ترسانة العقاقير تزداد ..، أضف إلى ذلك تلك الحوادث المريبة التي لا يبدو أنها تنوي تركها ولم تنتهي بهجران شقتها في القاهرة
كعادة المنازل الريفية من الصعب أن يعيش فيها المرء وحيداً .، ان زوجة أحد أخواتها وابنة عمتها يقيمان معها بشكل شبه دائم للعناية بها خاصة مع حالتها الصحية المتأخرة
هنا قررت المرأة كعادة النساء أن تثرثر مع قريباتها .. أن تتكلم .. أن تحكي عن بسم الله الرحمن الرحيم الذي لاتراه ولكنها تشعر بمطاردته
كان حديثها يثير الذعر في نفوس النسوة .. لكنها ليست المرة الأولى التي يسمعن فيها مثل هذه الأقاصيص ..، إنهن بنات الريف حيث ولدت ونشأت أساطير النداهة وعجوز المقابر
تقول زوجة أخيها ويديها ملوثة بالفريك الذي تحشو به حمامة بائسة : استعيذي بالله يا أم عمرو .. إن الشيخ خميس شيخ الزاوية هنا يقول أن تلاوة القرآن في الدار والحفاظ على الصلوات وقاية من كل شر
تتنهد ام عمرو ثم تقرر أن تكتفي بما قالت .. إنها بحاجة لصحبة آدمية ليس مرضها الا أحد أسباب حاجتها تلك ورواياتها هذه قد تتسبب في إخافتهن فيبتعدا عنها شيئا فشيئا ..،
هكذا تقرر الصمت وتقرر مشاركة قريبتها في حشو الحمام فقد اقتربت عودة الأخ من عمله ،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
كانت نائمة في غرفتها وحيدة لكن على الأقل ليست وحيدة في البيت كله ..، إن الغرفة المقابلة يبيت بها الأخ وزوجته بينما يتناثر الأطفال حولهما أو في قاعة الضيوف
كانت نائمة على ظهرها تشعر باختناق شديد .. الكوابيس لا تفارقها وتشعر كما لو أن هناك من يعمد إلى إغراق رأسها في دلو مليء بالمياه
الهواء شحيح يزداد تنفسها ضيقاً
هنا فتحت عيناها لترى في ظلام الغرفة خيال عملاق جاثم فوقها ويبدو كما لو أنه يمتص الحياة منها ..
راحت تشهق بقوة بحثا عن الهواء .. لا يبدو ثمة إمكانية للفكاك من سيطرة هذا الشئ
أخيرا بعد لحظات بدت كالدهر استطاعت الصراخ .. ثم غابت عن الوعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
كانت ليلة طويلة قضاها الجميع عند السيدة أم إسراء .. مع الوقت راح كل منهم يتحرر من شيء من وقاره في مزيد من التباسط الذي أوجده الاجتماع مع صحبة في ظروف استثنائية طوال الليل
الحج صبحي مكث يقرأ القرآن في غرفة إسراء طويلاً ثم خرج وقد أعدت أم إسراء عدداً من الشطائر وأقداح الشاي
قال نبيل بفم مليء بالبيض والجبن وقد أمسك بيديه مذكرات إسراء يقرأها : تبدو لي حالة بارانويا متقدمة ولو لم تكن كذلك فالأمر شنيع !..، ماذا كانت تقصد بأن هناك حرباً غير متكافئة وأن لها جند مجهولين ؟؟ ومن هو هذا الذي تتكلم عنه ؟؟ إن مشاعرها متأرجحة بين الشفقة عليه والخوف منه
لم يبدو إيهاب في حالة تسمح له بالاستماع إلى المزيد بعدما رأى ما رآه من حالة حبيبته .. فقط قام بصب بعض الشاي الذي أصبح دافئاً وراح يرتشف الكوب في شرود
بينما تكلمت الأم : إن صورة إيهاب بدأت تذوب في ذاكرتها ببطء .. تتلاشى كأنما هناك من يسعى إلى محو كل ذكرى تخصه عندها
اشار نبيل باصبعه إلى السيدة وقال : هذا مفهوم .. إنه يعتبر نبيل خصمه فيها وهو يريدها خالصة لنفسه ربما لذلك أيضاً سعى للتخلص منه .. ولكن من هو ..؟؟ ولماذا إسراء تحديداً ؟
تبادل الحج صبحي وغادة نظرة ذات معنى ثم أطرقا أرضاً دون كلمة أخرى ..
هنا انفتح باب غرفة اسراء ..
- أمي .
قالتها الفتاة بصوت واهن وهي تسير بضعف محاولة بكثير من العسر ألا تقع أرضاً خاصة مع الرجفة الملحوظة لجسدها ..، لم يبدو أنها لاحظت أحداً من الحضور فقط ارتمت في حضن امها ترتجف وتنشج
لم يستطع إيهاب الصمت ..قام ليمسك بيديها ويربت على شعرها : اسراء .. انا هنا بجوارك أيضاً لا تخافي
ببطء استدارت الفتاة برأسها إلى حيث هو ونظرت إليه طويلاً ..، لحظات بدت كالدهر تأرجحت فيها معاني الخوف والاشتياق والعتاب والوهن والحزن ثم سرعان ما دمعت عيناها وعادت تدفن رأسها في صدر أمها
- لا بأس يا بني .. هي تتحمل أكثر من طاقتها .. يجدر بنا جميعاً الصبر ..، من الجيد أنها خرجت من غرفتها على كل حال
قطعت غادة الكلام مشيرة إلى دخان كثيف يتصاعد من نافذة المطبخ :- ما هذا .. رائحة شيء يحترق ودخان كثيف
هرول إيهاب إلى النافذة ثم عاد بسرعة وقد غطى أنفه بيديه .. : حريق ..! هناك شقة في العقار يتصاعد منها ألسنة اللهب
فتح الحج صبحي الباب وراح ينزل السلم جريا وورائه نبيل .. إن شقة السيدة أم عمرو بالفعل تحترق ! .. وقد تجمع الجيران وقاموا بكسر الباب وراحو يحاولون ملء كل وعاء يجدونه بالمياه في محاولة بائسة للسيطرة على الحريق ..، بينما طلب إيهاب المطافيء وقوة من الشرطة للحضور حالاً إلى مقر العقار
ساعات أحالت الليل جحيماً بكل هذا الذعر والجهد والصراخ والمياه .. الجميع مبتل والنساء تولول والفوضى في كل مكان
تمت السيطرة على الحريق مع الساعات الأولى للفجر ، لم يعد ثمة ما يذكر عن أي شيء لقد التهمت النيران محتوياتها بالكامل ..
دخل إيهاب مع ضابط شرطة وعدداً من العساكر إلى الشقة لتفقدها وتبين هل الحريق بفعل فاعل أم قضاء وقدراً.. وكان على الحج صبحي أن يجيب عن بعض الأسئلة بخصوص أصحاب الشقة وأين هم وهل يشتبه في أحد معين ؟
بينما انتبه نبيل إلى شيء ما على جدار الغرفة الداخلية ..
سارع بمناداة إيهاب واشار يريه ما أثار انتباهه ..
صحيح أن كل الشقة أحترقت .. ولكن على جدار الغرفة الداخلية ارتسم بالرماد المحترق صورة جدي ذي قرنيين كاشفاً عن جانب من أسنانه كما لو أنه يبتسم ..!
الحقيقة أن الرسمة متقنة للغاية بشكل لا يمكن أن تكون للصدفة دور فيها ..
- من يسكن في الشقة المقابلة ؟؟ هكذا سأل الضابط الحج صبحي ..
- رجل نوبي لا نعرف عنه شيئاً ..، غير متزوج ولا أعرف هل هو بالداخل الان ام لا
- يجدر بنا أن نحاول فهو الأقرب لمكان الحدث ..، كما أن كل الصراخ والفوضى هذه لم تثر توجسه فتدفعه لفتح الباب بافتراض كونه بالداخل
يتوجه الضابط إلى الشقة المقابلة ويطرق الباب عدة مرات .. لا أحد يجيب
يبدو أنه لا أحد هنا ربما أترك له استدعاء في وقت لاحق أو .. هنا ينفتح الباب
بالفعل هو أسود البشرة له عينان ناصعتان البياض ضخم الجثة بشكل مخيف ..بدا الارتباك للحظة على الضابط ثم بادر بالسؤال : ألم تلحظ كل ما حدث منذ تم الحريق لهذه الشقة ؟
اجاب العملاق بصوت عميق ذو نبرات واثقة : نعم لم الحظ .. عملي مرهق وكنت نائماً حتى طرقت الباب !
هنا وصل إيهاب ونبيل إلى حيث يقف الجميع ..، ما إن رأى نبيل العملاق حتى تجمد مكانه ! بينما اقترب إيهاب من الضابط وحاول إلقاء نظرة فضولية على شقة العملاق .. لا يبدو أن هناك أي أثاث فيها .. هذا غريب ! كما ان شخصاً ينام برغم احتراق الشقة المقابلة له مع كل الفوضى التي حدثت والدخان الذي انتشر من الغريب أن يصحو سليماً معافى وقد درأ عنه خطر الاختناق
تأمله الضابط في مزيج من الشك والرهبة ثم قرر أن يكون هذا الغريب هو المشتبه به رقم واحد في حالة أقر البحث الجنائي أن الحريق بفعل فاعل
قال له في لهجة حاول ألا تثير ريبته :- لا شيء إذاً عذراً على الازعاج .. ربما نحتاج سماع أقوالك لاحقاً
اجابه العملاق وهو يغلق الباب في وجهه بطريقة خالية من الذوق : فليكن !
نظر الضابط إلى الواقفين وهز رأسه بمعنى (اللي يعيش ياما يشوف ) !
ثم اشار بيديه لرجاله كي ينتهو من عملهم سريعاً
بينما نبيل ما زال واقفاً حيث هو وقد انتصب الشعر على ساعديه ومؤخرة عنقه ..
هذا العملاق في الشقة المقابله .. هذا العملاق الذي يراه منذ سكن العقار للمرة الأولى .. لا ليست الأولى ثمة مرة سابقة .. أين ؟
الإجابة في الحلم الذي رآه منذ ساعات .. عندما كان يقيد محروس الى المنضدة التي اختبأ تحتها .. قبل أن تنقطع رقبته !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي توفت السيدة أم عمرو ..
ربما من حسن حظها أنها لم تعلم بنبأ احتراق شقتها ..
وهكذا بعد يومين وصل الخبر لجيرانها الذين أقاموا لها على نفقتهم صوان للعزاء وتم إغلاق شقتها المحترقة حتى إشعار آخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما خرج أحد وعاد من جديد ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ