راقدة هي في تابوت خشبي .. تسمع صوت الحفر الرتيب ..
تعرف مصيرها ولا تجد في نفسها القدرة حتى على تحريك أصابعها ..،،
أحست بالتابوت يحمل ثم يلقي في وأحست بالظلام يزداد وبالهواء يزداد ثقلاً ..
دفنت حية ! .. مشلولة عاجزة عن الحركة أو الصراخ
من الغريب أنه بعد دفنها استعادت القدرة على الحركة فصارت تدفع بغطاء التابوت وتخمش جانبيه ..
الهواء يتسرب منها ومعه وعيها .. مازالت غير قادرة على الصراخ ..
ال.هـ ..و..ا..ء .. إنـ ..ها ...تخت...نــــــــــــ
...............................
صوت خدش غير منتظم على جانبي الفراش الذي ترقد عليه إسراء ...
أفاقت من نومها لتصغي السمع .. يبدو أن صوت الخدش هذا تفاعل مع عقلها الباطن وتسلل إلى الحلم على شكل أحلام المنبه المعروفة في علم النفس
كان فراشها من ذلك النوع الذي يحوي (سحارة ) أسفل منه ..، بمعنى أنه مصمت من الأربع جهات لذا بدا الصوت كأنما هي ترقد على سحارة قد حبست فيها قطة تكاد تموت ..
إنحنت تتفحص الجوانب .. لا أثر لأي قطة .. ولكنها ترى خدوشاً رفيعة على الأخشاب بالفعل !
ربما لو أضاءت الكهرباء ... الكهرباء ..؟!!
هنا انتبهت لدهشتها إلى أنها ترى بوضوح نسبي في الغرفة المعتمة !
أزاحت الستائر لترى النجوم تلمع في السماء المظلمة ..، لقد أعلن الليل ملكوته ولكنها برغم الظلام قادرة على الرؤية كمن يرتدي مصباح رؤية ليلية ..
أو كبعض الكائنات .. مثل القطط ..!
عادت إلى فراشها في صمت مستسلم كعادتها ..، وجذبت الغطاء من دون أن تنام ثم راحت ترتجف تحته !
على صفحة المرآة الضخمة أمامها التي تعكس ظلام الغرفة كانت ترى شمعة تقترب ..
شمعة يحملها جسد آدمي يرتدي ثوب أبيض فضفاض ..
اقترب الجسد حتى صار مواجهاً لها من الجهة الأخرى من المرآة ..، ثم رفع الشمعة إلى جانب وجهه لتتبين ملامحه
ملامح باهتة وشفاه زرقاء .. لكنها عرفتها ..،،
فتحت شفاهها المتشققه وقالت بصوت واثق من الصعب أن تصدق أنه يصدر من هذا الجسد الضئيل المنكمش :
حذرتك يا أم عمرو من ترك شقتك .. ولكنك لم تستمعي لي !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
- هذه الفتاة بلهاء بالتأكيد .. مختلة عقلياً ..، ما كان لي أن أثق في كلامها من البداية !
نظر نبيل إلى إيهاب الذي كان يقود السيارة بسرعة تعكس فقدانه السيطرة على أعصابه ... كان يمسح بمنديل - للمره المئه - موضع العضة التي نالها من تلك الطفلة الصغيرة .،
- أنت أيضاً تصرفت بشكل عصبي أحرج والديها ..، تبقى طفلة لا تعي ما تفعل ربما ظنت أنها بامكانها اللعب معك !
زفر إيهاب وهو يدور بمقود السيارة إلى طريق جانبي ضيق .. وقال في صبر نافذ :
- ما رأيك فيما قال شقيق السيدة أم عمرو وابنته المسعورة هذه ؟؟
هز نبيل رأسه ثم أخرج مفكرة صغيرة من جيبه وقلم وراح يقراء ويشير الى موضع القراءة بالقلم :
- زوجة شقيقها تقول أنها كانت تحكي عن أشياء مرعبة تجدها في شقتها بالقاهرة ..، دماء تتساقط من السقف .. وأصوات تنبعث من الغرف المغلقة ..، كما انها حكت عن إسراء التي ما كانت إسراء !
يبدو كذلك أن الشيء الذي كانت تعاني منه لم يكتفي بملاحقتها في القاهرة وتبعها هنا إلى حيث هربت ..، كما أن موتها فجأة مريب .. يبلغ حد الرعب لو كانت الطفلة تحكي ما شاهدت بالفعل !
نظر إيهاب إلى وجه نبيل في مرآة السيارة ثم قال بعد برهة من الصمت :
- ما نسبة احتمال المرض النفسي التي قد يدل عليها كلام السيدة أم عمرو ؟؟
- لست خبيراً نفسياً ولكنه إحتمال وارد ..، إن سيدة تعيش بمفردها في شقتها بعد وفاة زوجها وإنعدام الصحبة والأحباب هي فريسة سهلة لأمراض أبسطها "البارانويا "..، ولكن لاحظ أن المرض استمر حتى بعدما سافرت لتعيش مع أسرتها بالقرية ..، بالإضافة إلى أن المختل نفسياً من السهل أن يكتشف جيرانه ذلك وهي بشهادة الجيران سيدة عاقلة طيبة لم ير منها أحداً ما يريب
- هناك نقطة أخرى .. تلك الصورة التي ارتسمت على الحائط بعد إطفاء الحريق .. صورة جدي بشع متقنة بشكل يصعب أن تكون مرسومة !
- كذلك الخطوات التي تركتها المرأة العجوز التي لاحقت أم عمرو إلى قريتها .. كانت خطوات ماعز !
- ماذا يعني هذا ؟؟ ولماذا الماعز ؟؟
شرد نبيل ببصره قليلاً .. ثم قال كمن يحدث نفسه : لا أدري ولكن لي قراءات بحكم مهنتي في الأدب العالمي ..، وأعرف أن الشيطان في العصور الوسطى كان يتم الرمز إليه عند الرساميين برأس جدي أو تيس له قرون ..، وكذلك بالغربان أو بالقطط السوداء !
- هل يعني هذا أن أم عمرو ارتكبت أو كانت على وشك إرتكاب شيء أدخلها في دائرة غضب هذا الشيطان .. ؟
- هناك شيء آخر لم أقله .. إن الجار الذي يسـكـــ ....
هنا توقف محرك السيارة وتوقفت بهم فجأة في عرض الطريق !
حاول إيهاب إدارت المحرك من جديد .. دون جدوى !
أطلق سبة ثم نزل يتفقد المحرك بينما دار نبيل بعينيه في المكان ..،،
مكان مهجور ..مظلم وطريق مقفر ..،، وليل قد ساد الكون ..، ارتجف قليلاً ثم سمع إيهاب يينادي عليه بأن يحاول إدارة محرك السيارة من جديد ..،،
أدار نبيل المفتاح فارتجفت السيارة قليلاً ثم همدت مرة أخرى !
- اللعنة ..! من أين لي بميكانيكي في هذا المكان ؟
- ما الحل الآن ؟
- أحدنا يتعين عليه الذهاب للبحث عن النجدة في أي مكان قريب والآخر يبقى هنا لحين العودة
ابتلع نبيل ريقه .. الواقع أنه يخشى الافتراق عن صاحبه الآن .. ولكنه لن يصرح بذلك أبداً لما فيه من نواقص الرجولة .. خاصة وأنه يرى إيهاب جلمود صخر يوحي بالثقة ،،
مد إيهاب يده إلى " تابلوه " السيارة وأخرج مسدساً ناوله لنبيل ..:
- خذ هذا .. إنه جاهز للإستعمال في أي وقت ..، معي آخر في جيبي .. هل تعرف كيف تستعمله ؟
- أ .. أظن ذلك
- جيد .. هل تريد أن تبقى أنت وأذهب أنا أم العكس ؟
- سأبقى .. وانتبه لنفسك
- حسناً .. لن أتأخر ..،
قفز إيهاب من السيارة تاركاً صديقه غارقاً في القلق والذعر ..،، بينما راح نبيل يراقبه حتى اختفى في الأفق ..،
تلفت نبيل حوله .. لا صوت إلا صوت هسيس الحشرات الليلية المجهولة على جانبي الطريق ..،
أطفأ كشافات السيارة وأغلق نوافذها ثم أخذ يبحث عن إذاعة القرآن الكريم في مذياع السيارة حتى وجدها .،
صوت كلمات الله يبعث فيه الإحساس بالطمأنينة ..، استرخى في مقعده ولم يدر متى ولا كيف راح في نوم عميق ..،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ