جلس متكورًا في إحدى أركان الغرفة مكبلة يديه ورجليه ،يضم ركبتيه إلى ذقنه في توجس بينما ترتعد أوصاله خوفًا وفزعًا عيناه زائغتين من الرعب ،يبكي تارة ويصرخ تارة أخرى ،تصعب عليه حالته التي هو عليها ،كانت الدموع تنهمر بكل حسرة وتأوه ،متهدج صوته من العليل الذي آلم جسده النحيل الذي لم يتعد من العمر خمس سنوات، يتصبب عرقا من الركض قبل أن يقيد ،حتى خارت مقاومته الهزيلة أمام يد أبيه ،يتمتم ببعض الكلمات وهو ينظر للأعلى ،كأنما يناجي ربه ويترجاه أن يخلصه من تلك القيود ،ليست قيود قوية لا يستطيع فكها ،ولكنها قيود نفسية حالت بينه وبين حكمة الأبوة ورحمتها ، وكأن لسان حاله يردد وهو ينظر للأعلى لماذا يفعل بي هذا ؟! ماذا فعلت له؟! ألست طفله الأوحد ؟! لماذا لم يدللني ويتجاوز عن بعض أخطائي ؟! ،يتذكره وهو يقترب منه كالوحش الكاسر ،أو كذئب يغرز أنيابه في لحم الحمل الوديع ،كانت نظراته كلها ساخطة ماقتة على ذلك الذي يعيش تحت درفه ،برغم عيناه التي تحمل من البراءة والطفولة فلم تشفعا له أمام عدوانيته ، وكلما سمع خطواته تقترب من الغرفة ارتجف ونظر إلى يد الباب وتحت العقب على ظله إلام يذهب ؟! ،كل هذا وأمه جالسه لا حيلة لها ،صامتة ولكن بداخلها صرخات تدوي بين عروقها المنتفضة نبضا يثير أوصالها غضبا وأسفا على حالته ،تنظرإليه في شفقة وحسرة عليه لما آل له ،فلذة كبدها وأول ما نبض رحمها وأول من نطق بأسم الأمومة على شفتيه في حالة يرثى لها ،كل نظرة منها كانت بمثابة أسف له على عجزها أمام جبروت والده ، وكل دمعة تسقط من مآقيها كانت تعزية لحالها على ذلك الزوج التي أساءت إختياره ،إن وجهه البرئ وهيئته ذات الوسامة يخدعان كل من يراه ،لكن قلبه القاسي وعقليته المتحجرة تصوره كشخص يعيش في زمن (سي السيد) الذي يأمر فيطاع ،متسلط ديكتاتور يظن أن التربية هي إحكام قبضته على أبنائه ، وأن من دواعي الخوف عليهم عدم السماح لهم بالخطأ ولو سهوا ، والعقاب هو وسيلة الردع الأولى لأي خطأ ، بدأ بهذه الطريقة منذ أن كان طفله بسن عام واحد ، نعم عام واحد – في هذا العمر أراد أن ينقش على ملامح طفله الرجولة من وجهة نظره ،فلما كان يحبو ويحاول أن يقف فيسقط لم يسمح لأحد أن يساعده على النهوض مرة ثانية ويتركه يبكي ،ثم يصرخ فيه أن إنهض بمفردك قم وقف دون مساعدة أريدك رجل تعتمد على نفسك ،تلك الكلمات التي لطالما رددها على مسامعه ليرسخها في عقله منذ نعومة أظفاره ، يا لتلك الحماقة أن يظن أن طفلا مازال يحبو يحتاج إلى الحنان والعطف والسند منذ اليوم الأول نعامله كما لو كان يستوعب كلماته !!
كانت تحدث نفسها بتلك الكلمات وهي تبرم شفتيها سخرية وأستنكار لتفكيره العقيم ،الذي ينم عن شخصية مريضة تربت على تلك الأفكار السلبية ،فتلك الأفكار ما تربى عليه وكان والده يعامله بها ،ورغم سخطه على طريقة والده في التعامل معه بهذا الأسلوب إلا أن عقله ونفسيته إصتبغت بها ونضحت على أسلوبه مع أولاده .
ولأن أمه كانت ملاذه ومخلصته من بطش أبيه نظر إليها نظرة توسل وٱستغاثة ،ولكنها لم تستطع ولم تحرك ساكنا ،ظلت ماكثة منكسة الرأس لا تقدر على فعل أي شئ ،لم تحاول حتى أن تفك وثاقه ،ولا حتى تضمه بين ذراعيها تواسيه ،قيدها مثله بتهديده لها وتحذيرها أن تقترب منه حتى ولا تفعل وإلا عوقبت هي الأخرى كما أعتاد أن يضربها وينكلها كلما حاولت أن تعترض ما يفعل أو تمنعه من ربط يده ورجله بالحبل وضربه بالعصا عليها .
ظلا كل منهما ينظرا إلى الأخر هو يترجى وهي تعتذر ،حتى فتح باب الغرفة فجأة ودخل مستطردا بعض نصائحه التي أملاها عليه أثناء عقابه ، إقترب منه وفك الحبل وهو يردد أنه ما فعل ذلك إلا خوفا عليه وتربيتة له ،وأنه يحبه ويريد أن يراه رجلا لا يخطأ ،وكأن الرجولة عنده مقترنة بالسير على الدروب دون الوقوع بالخطأ ، عالرغم أنه يخطأ كثيرا دون إكتراث لعواقب أخطائه تلك ، أخطأ بحق ولده عندما تعامل بقسوة شديدة معه ،أخطأ بحق زوجته حينما جعلها كالدمية يحركها كما يشاء ، ولكنه أعور لا يرى الأمور إلا بعين واحده ، بعد أن فك الحبل عنه وأملى عليه نصائحه ومسح على رأسه وضمه بين ذراعيه بفتور ثم نظر إلى أمه وهمس بأذنيها أن إقتربي وتحدثي معه أني أحبه وأريد مصلحته ثم تركها وخرج، تنهدت بضيق وقامت تضم طفلها الصغير تستسمحه على تقصيرها وضعفها ، إنهالت على رأسه بالتقبيل والبكاء وأخذت تضمه بحنان وعطف تبثه إليه لتعود إليه ثقته بقلبها الرؤوم ، الذي لم يعتاد القسوة ولم تسكنه ولكنها الإختيارات الخاطئة تتحمل نتائجها ويناله منها البعض، ساعدته على النهوض ومسحت على وجهه وهي تجفف دموعه ، وأربتت على كتفه ومسحت بيدها على صدره وكأنها تنتزع منه سخطه وغضبه على والديه .
مرت الأيام وكبر الطفل بعمر العاشرة وكبرت معه ذاكرته المليئة بالقسوة والعدوانية ، ولم يتخل أباه عن تفكيره ولم تتخل أمه عن ضعفها ، وتلك إخوته الأصغر منه لم يسلموا من طريقة أبوهم في التفكير والعقاب ، ما كان يواسيهم هو وجود أمهم بجوارهم بعد كل مرة ، وذلك ما كان يواسيها أيضا على ما ترى ، كانت أسعد لحظاتها عندما تراهم يمرحون ويلعبون حولها ثلاث نسمات تستنشق عبير طفولتهم لتنعم ببعض البراءة والعفوية ، تتركهم يختلوا بتلقائيتهم لينعموا ببعض الحرية دون وجود رقيب يتسلط و يمقت كل أفعالهم العشوائية وتنخرط هي بأعمال المنزل ؛
وذات مساء كانوا الثلاثة بغرفتهم يلعبون ويمرحون ، تعلو أصوات ضحكاتهم ، يجرون بكل غرف المنزل ، يتقازفزون أشيائهم هنا وهناك ، ثم أستكانت حركاتهم وهدأت أصواتهم فلم تبالي وٱستكملت أعمالها ، وفجأة _ هرع إليها طفلها الأوسط يصرخ بهلع : يا أمي ..يا أمي ! ..ساعدي أخي يا أمي
هرولت إلى غرفتهم وفتحت الباب بسرعة وإذا بها تقف مشدوهة وقد فغر فمها لم تنطق ببنت شفة ووضعت يدها على صدرها وتسمرت مكانها للحظات ثم صرخت صرخة مدوية نبهت كل جوارحها للولوج بمنتصف الغرفة التي ينزل من سقفها حبل وإبنها الأكبر يتدلى منه وقد أفضت روحه بعد أن شنق نفسه ، حاولت أن تحل عقدة الحبل ولكن لا جدوى وقفت بجواره تبكي وتصرخ وتهزه بحسرة وألم : لماذا فعلت هذا يا ولدي ؟! لماذا ؟! فذكر أخوه أنه كان يلعب ويريد أن يريهم كيف يربطه أباه بالحبل؟ ، وأن أباه سيربطه المرة القادمة من عنقه كما هدده ، فأراد أن يجرب هل ستألمه كما تؤلمه يداه ورجله أم أنها أخف ألمًا منهما ؟!...