كان الطقس بمصر في واربعينات القرن الماضي شديد التباين مابين فصل الصيف وفصل الشتاء فالصيف قائظ الحراره والشتاء قارس البروده والصيف قصير المده والشتاء طويل المده وما بينهما سريع المرور وفصول المدرسه لابد أن تكون شبابيكها مفتوحه بصفه دائمه طبقا لتعليمات الاداره الصحيه لوزاره المعارف العموميه وتعليمات ناظره المدرسه وكان فصلي في جميع سنوات الدراسه للمرحله الابتدائيه في الجهه البحريه للمدرسه فكنت دائما أشعر بالبرد الشديد للجزء الاسفل من جسمي وانا ارتدي الشورت الصوف وكنت دائما افكر هل يعقل ان ارتدي شورت في الشتاء ومن وافق على ذلك المهم اشتكيت لوالدتي طوال سنه اولى وسنه ثانيه ابتدائي وكانت اجابتها الدائمه لي لازم تستحمل انت راجل....!!!!!

وكنت اجلس في الفصل ملخوما في نفسي من شده مااشعر من البرد في الجزء الاسفل من جسمي ولا أستطيع التركيز بكامل انتباهي في حصه الدرس الي ان وصلت إلى السنه الثالثه الابتدائيه وفي منتصف شتائها قررت التمرد على هذا الوضع المؤلم لي ففي احد الايام دخلت والدتي غرفتي لتوقظني من النوم وفي يدها بطرمان زيت كبد الحوت التي كانت تصر على أن تناوله لي كل صباح وتناولته وبعده قالب السكر وقالت لي قوم ادخل الحمام والبس علشان المدرسه بهدوء شديد وبطريقه مستفزه مني دار هذا الحوار بيننا.....

انا: مش هاروح المدرسه

هي: ليه انت تعبان ولا ايه

انا:لا انا زي الفل بس بعد النهارده مش رايح المدرسه

هي: ايه السبب

انا: انا بقالي سنتين باشتكيلك من البرد اللي بحس بيه وانتي عماله تقوليلي استحمل انت راجل ومش عارف احلها ازاي

هي: بلاش استعباط وقوم فز ادخل الحمام والبس هدومك

انا: مش هاقوم ومش هالبس هدومي

هي:انت باين عليك مش بتاع تعليم وواخد البرد حجه انا هاقول لابوك يدور لك على ورشه وتروح تتنيل فيها على الاقل تتعلملك صنعه تفيدك

انا: ياريت على الاقل هابقى حر نفسي بس انتي اللي هاتتعبي

هي:هاتعب من ايه يامنيل

على عينك

انا:ماانا هارجع كل يوم هدومي متوسخه من شغل الورشه وانتي هاتقعدي تغسلي الهدوم دي كل يوم

هي: انت واد ملاوع ومش عارفه اتعامل معاك انا هنادي ابوك يتصرف معاك

ثم نادت على والدي والذي حضر قائلا فيه ايه على الصبح

هي: شوف ابنك مش عايز يروح المدرسه انا زي ماقلتلك الواد ده مش بتاع تعليم شوفله اي ورشه من اللي تعرف اصحابهم ينزل يشتغل فيها على الاقل يعمل بلقمته

لاحت ابتسامه على وجه والدي وقال لي مضايق امك ليه على الصبح ياابني..؟

انا: انا بشتكي لها من سنتين انني ببقى بردان علشان لابس شورت بقعد طول النهار ملخوم في نفسي ومش فاهم حاجه من الحصص وكل مااقول لها تقولي استحمل انت راحل

والدي: ياابني ده اللبس الرسمي للمدرسه مانقدرش نغيره وانا معاك في اللي قولته بس هانعمل ايه

انا: انا مش هاروح المدرسه بالشورت

والدي: يابني بلاش عناد لان الناظره ممكن تعاقبك

انا: وانا مستعد للعقاب والاذيه منها

والدي: بأن عليه الاقتناع بكلامي فقال طيب قوم البس هدومك وان شاء الله انا هاتصرف والاسبوع الجاي هاتروح بلبس جديد

وكانت هذه المحادثه يوم ثلاثاء فقمت وارتديت ملابسي وذهبت الي المدرسه وفي مساء نفس اليوم عاد والدي مساءا ومعه عم سيد المرشدي ترزيه الخاص واخذ مقاساتي لعمل بنطلونات طويله بنفس لون الشورت ومن الصوف لي واعدا والدي بأنها ستكون جاهزه مساء يوم الخميس. وفعلا احضر لي اربعه بنطلونات صوف طويله على مقاسي في الميعاد الذي حدده وكان والدي قد اشتري لي أيضا كلسونات طويله من القطن ارتديها تحت البنطلون وطوال اليوم التالي الجمعه قضيته في التفكير لكافه السناريوهات التي يمكن حدوثها معي من جراء تغير زي المدرسه المعتمد وكيف سأواجهها والردود التي سأقولها دفاعا عن موقفي وكذا تهيئه نفسي لأي عقوبه سأتعرض لها مع عدم التنازل مطلقا عن الزي الجديد الذي ارتديه...

وفي صباح يوم السبت ذهبت للمدرسه مرتديا الزي الجديد وسط دهشه من باقي التلاميذ وكذا من المدرسات اللاتي كن متواجدين في حوش المدرسه وبدأ طابور التفتيش الصباحي ولاحظت ان ابله زهيره مدرسه فصلي كانت أكثرهم فرحا بي ولكنها كانت خائفه بعض الشيئ من عقابي والتي همست في اذني بأن لا أخاف من احد وانها سوف تساندني.....

ولما كنت قصيرا عن باقي التلاميذ فكان مكاني في الصف الاول وكانت ناظره المدرسه تقف في شباك مكتبها تتابع التفتيش علينا ثم نزلت من المكتب قاصده اياي مباشره ووقفت أمامي تهز الخرزانه التي في يدها وقالت لي انت لابس كده ليه ياولد... ؟

فرددت بتحدي حضرتك انا ببقى بردان في الفصل وملخوم في نفسي طول اليوم من شده البرد وفي نفس الوقت شبابيك الفصل مفتوحه على طول ومش قادر اركز في الحصه وفي نفس الوقت ازاي نبقى في الشتا ونلبس شورت اي نعم هو من الصوف بس نصف جسمي التحتاني عريان....

والحقيقه انها نظرت لي نظره طويله وكانت هذه النظره تحمل معاني كثيره شعرت بها مابين الإعجاب بجرائتي في الرد عليها علاوه عل قوه المنطق الذي تكلمت به..

بعد نظرتها الطويله هذه امرت احد فراشي المدرسه بأحضار كرسي ووضعه أمام طابور المدرسه ثم امرتني بالوقوف فوق الكرسي ليراني كل الموجودين في حوش المدرسه من تلاميذ مدرسات ونفذت ماارادت ووقفت فوق الكرسي والحقيقه كان الموقف بالنسبه لي رهيبا مع توقعي بأن العقاب سيكون رادعا وشديدا....

وتقدمت ناظره المدرسه نحو الكرسي الذي اقف عليه ثم قالت لي اسمك ايه ياولد فرددت بتحدي وبصوت عالي اسمي طلبه رضوان فقالت مين مدرستك فرددت بنفس النبره ابله زهيره حسن عارف....

فوجهت نظرها الي الطابور وقالت الاتي....

اولا: انا بشكر ابله زهيره على نجاحها في بناء شخصيه تلاميذها بحيث يدفعوا عن وجهه نظرهم بهذه الجراءه وهذا المنطق السليم اللي التلميذ ده (تقصدني) اتكلم بيه معايا.... وبطلب منكم التصفيق لابله زهيره.... فدوت في المدرسه عاصفه عاتيه من التصفيق المستمر الي ان أشارت الناظره بالتوقف

ثانيا: انا نزلت من مكتبي وفي نيتي معاقبه هذا التلميذ على تغيره لزي المدرسه ولكن عندما تكلم معي شعرت بما كان يشعر به ولذلك اعتبارا من السبت القادم كل تلاميذ المدرسه من الاولاد ترتدي بنطلون طويل من الصوف ومن نفس لون الجاكت وبالنسبه للبنات يرتدن كولون ابيض تحت الجيبه وبالنسبه للمدرسات يسمح لهن بأرتداء البنطلون على أن يكون لونه اسود.....وسأقوم بمخاطبه الوزاره بشأن تغير زي المدرسه المعتمد طرفهم..... 

بعدما انتهت ناظره المدرسه من كلمتها حتى دوت عاصفه من التصفيق لها ثم امرتني بالنزول من فوق الكرسي وما ان نزلت حتى جرت ابله زهيره في اتجاهي واحتضنتي وتلتها داده نفيسه....

وبعد هذا الموقف أصبحت اول تلميذ في وزاره المعارف العمومي للمملكه المصريه يكون سببا في تغير زي احد مدارسها.. وفي نفس الوقت حققت مثل قديم يقول الدفا عفا.......

موقف جانبي :

عندما تخرجت من الكليه الحربيه كنت من اشد المتفهمين جيدا لبند دراسه الطقس وهو احد البنود الرئيسيه لتقدير الموقف عند القيام بأي عمليه او مشروع عسكري وكنت حريصا بشده على توفير كل الظروف لهذا البند لجنودي عند تنفيذ اي مشروع او أعمال قتاليه تحت سيف الطقس ولا أنسى مطلقا احد المواقف التي مررت بها ففي احد ايام شتاء عام ١٩٧٥ كنت اخدم في عمق القطاع الأوسط لسيناء وكان موقعي يقع على أعلى تبه موجوده تسمى ابو وقفه واه والف مليون اه على برد سيناء وعلى هذه التبه فلقد كانت الرياح فوقها مثل الامواس الطائره تجرح العينان وجلدالوجه وفي أحد ايام هذا الشتاء انضم على قوه وحدتي ضابط احتياط من الخريجين الجدد والذي وصل إلى الموقع في الثامنه مساءا وعند استقباله كان يرتعد ويرتعش من البرد وشفتاه زرقاوتان ولا يستطيع تكمله كلمه واحده من شده شعوره بالبرد فهدأته وامرت بعمل كوب من الشاي الساخن له ثم قمت بأعطاءه طقم تدفئه من اطقمي الخاصه وكان جديدا لم ارتديه من قبل وامرته بارتدائه على الفور بداخل ملجئي (طاقم التدفئه عباره عن فانله بكم من الصوف وكلسون طويل من الصوف أيضا كان يصرف للوحدات التي تخدم في سيناء) ثم خلعت الزنط الذي ارتديه وقدمته له لارتدائه وبعد ممانعه منه شخطت فيه واعدا اياه بانني سوف اقوم بصرف واحد جديد له في الصباح من مخزن مهمات الكتيبه فأخذه وارتداه وبعد ارتداؤه فوجئت به يبكي بحراره بعدما شعر بالدفء فلما سألته عن سبب بكاءه كان رده يافندم الدفا عفا.....

انتظروني للموقف الدامي.