ليست الطفولة مجرد مرحلة عمرية نتجاوزها، بل هي قلبٌ حيّ يواصل النبض داخلنا مهما ابتعدنا عنها بالسنين. هي الحقيبة التي نحملها معنا دون أن ندري، فنعود إليها بلا وعي كلما لامستنا رائحة قديمة، أو تسللت إلى مسامعنا موسيقى مسلسل كرتوني، أو مرّت أمامنا لقطة من “توم وجيري”. هي ما تبقى حين يتقشّر كل شيء.
نحن الجيل الذي وُلد على حافة التحوّل، على حافة التكنولوجيا، على حافة الحرب والسلام، على حافة الحداثة والتقليد. جيل تشكّل وعيه على شاشاتٍ صغيرة، وعلى شخصياتٍ خيالية لكنها كانت أقرب إلينا من الجيران. نحن أبناء جيل “دايسكي”، “عدنان ولينا”، “كابتن ماجد”، “ماروكو”، و”سندباد”. أبناء جيل كانت ألعابنا فيه من التراب، وملابسنا غير متطابقة، وقلوبنا مليئة بالدهشة.
دايسكي: المهاجر الأبدي الذي يسكننا “دايسكي” لم يكن مجرّد شخصية أنمي، بل كان رمزًا للغربة والحب والوفاء. شابٌ من كوكبٍ آخر، جاء هاربًا من دمارٍ لم يختره، يسكن الأرض ويعيش فيها كواحد منّا، لكن نظرته الدائمة نحو السماء تقول شيئًا آخر: إنّه لا يزال يبحث عن شيء ما، وطن ما، أم ما، حلم ما.
كنا صغارًا جدًا لنفهم الرمزية السياسية في “جريندايزر”، لكننا بكينا حين حزن دايسكي، وقفزنا حين انتصر، وخفنا حين أصيب. لم تكن المعركة بين الآلي الشرير وجريندايزر مجرد تسلية، بل صراعًا بين الحق والباطل كما رسمته خيالات طفولتنا. دايسكي كان بطلاً، لكنه أيضًا إنسان، حنون، هادئ، وفيّ، وحزين. وحين ننظر الآن، ندرك أن كثيرًا من القيم التي نحملها، نحن، كبالغين، صاغها هذا البطل الصامت.
توم وجيري: المتعة في اللاجدوى ،من جهة أخرى، شكّل “توم وجيري” الوجه العبثي الجميل من طفولتنا. لا توجد دروس أخلاقية واضحة، لا خط زمني، لا تطوّر في الشخصيات. فقط مطاردة لا تنتهي، وذكاء لا يُهزم، وموسيقى مدهشة، وضحك لا يتعب. ولم نكن نسأل: لماذا لا يموت توم؟ ولماذا لا يُقبض على جيري؟ كنا نضحك، ببساطة.
اليوم، حين نعيد مشاهدة الحلقات، ندرك أن توم وجيري كانا درسًا في الصبر، في الإبداع، في الإصرار، وربما أيضًا في أن الحياة لا تُلزم أن تكون منطقية حتى تكون ممتعة. كل مطاردة كانت اختراعًا جديدًا، وكل فخ كان تحفة كوميدية. وربما، دون أن ندري، تعلمنا أن الفشل ليس نهاية، وأن الخسارة قد تكون ممتعة.
التلفاز: نوافذ صغيرة على عوالم سحرية تلك الشاشة الصغيرة في غرفة الجلوس كانت نافذتنا إلى الأكوان الأخرى. لم يكن لدينا خيارات كثيرة، ولكن ما كنا نراه كان يكفي لملء خيالنا لسنوات. “عدنان ولينا” مثلاً لم يكن مجرّد مسلسل عن نهاية العالم، بل كان قصة حب طاهرة ومقاومة وصداقة وشجاعة. أما “كابتن ماجد”، فقد علمنا أن الأهداف لا تأتي بسهولة، وأن الإصرار يمكن أن يجعل الكرة تدور حول القمر قبل أن تسكن الشباك.
في “ماروكو الصغيرة”، رأينا أنفسنا كأطفال: خجولون، فضوليون، نائمون في الحصص الدراسية، خائفون من العقاب، ونتخيل أشياء غير واقعية لننجو من مواقف الحياة. أما “سندباد”، فكان الرحالة الذي أخذنا معه إلى المجهول، إلى الجزر والعمالقة والمخلوقات الخرافية، وأيقظ فينا شهية المغامرة.
الألعاب: حين كان الحبل بطلاً، والعصا سيفًا خارج الشاشة، كانت حياتنا لا تقل دهشة. الألعاب كانت أشياء لا تُشترى، بل تُخلق. كنا نحول علبة حليب فارغة إلى صاروخ، ونستخدم الغطاء البلاستيكي كدولاب، ونسابق الريح في الشارع. لم تكن الألعاب تحمل تعليمات استخدام، بل كانت تنبع من خيالٍ حي لا يحتاج إلى تغذية إلكترونية.
“الغميضة”، “السبع حجارة”، “الدعابل”، “نط الحبل”، كلها كانت مشاريع صغيرة للفرح الجماعي. لم يكن أحد يلعب وحيدًا. اللعب كان جماعيًا، وهذا ما جعل الطفولة نفسها تجربة جماعية أيضًا. كنا نتعارك، نعم، ونبكي، لكننا كنا نعود للعب معًا، لأن الغفران يأتي بسرعة حين تكون طفلًا.
الذاكرة الجمعية: حين كان الكبار جزءًا من اللعبة ، كنا نعيش في أحياء يعرف فيها الجميع بعضهم البعض. كانت الأم تصرخ من النافذة فنعود، وكان الأب يشتري لنا المصاصة من البقال، وكان صوت “الأذان” يعني نهاية اللعب وبداية الغسل. لم تكن الحياة سهلة، لكنها كانت واضحة.
وكانت القصص تُروى في الليل، لا تُشاهد على اليوتيوب. وكان الجد يحكي عن الأفاعي في البساتين، والجدة تنفث الحكمة مع رائحة الشاي. وكان الليل مظلمًا، لكن القلوب كانت ممتلئة بالضوء. في كل لحظة، كان ثمة من يعتني بنا، وإن بصمت. وهذا ما افتقده أطفال اليوم: الرعاية غير المسجلة، الحُب غير المشروط، الحياة غير المؤرشفة.
الخاتمة: هل يمكن للطفولة أن تشيخ؟
ربما نكبر، وتتغير ملامحنا، وتتبدل المدن التي نسكنها، لكن طفولتنا تبقى هناك، قابعة في زاوية ما من القلب، لا تكبر، لا تتطلب تفسيرًا. نعود إليها حين نشتاق إلى نسخةٍ أبسط من أنفسنا، حين نختنق من الاستهلاك الرقمي، حين نشتاق إلى النقاء.
طفولتنا كانت حيّة، مشتعلة بالدهشة، مغموسة في تراب الحارات، مغسولة بماء الغدران، ومطعمة بمربى التين والخبز الطازج. كنا نرى الأبطال في المسلسلات ونتخيلهم معنا في الحارة، نحلم بالفضاء ونحن نركض حفاة، نحارب الوحوش ونحن نحمل عصيًّا من شجر السدر، ونحبّ بصمت ونحن نضحك مع زميلة الصف على طرافة “بندق” و”ميمونة”.
إن طفولتنا، تلك التي نسجتها رسوم الكرتون، وألعاب الأزقة، وموسيقى المسلسلات، ورائحة الحطب في الشتاء، ليست مجرد ذكرى… إنها وطنٌ لا يزول