رحيل إلى قلب الغراب
في مملكةٍ تذوب خرائطها كلما حاولت الأقلام رسمها، عاش في الجبال رجلٌ يُدعى دَريّان، قيل إنه ابن أنثى من البشر وأبٍ من طين الأحلام، وإنه يستطيع أن يسمع أصوات الطيور حين لا تغرّد، ويرى ما بعد النهايات. لم يكن نبيًا، ولا شاعرًا، بل حارسًا للغياب. وظيفته أن يرافق الذين نسوا أسماءهم، حتى يتذكّروا.
ذات مساء، وقفت أمام كوخه امرأة تُدعى ليلى بنت الرماد. كانت ترتدي عباءةً من خيوط الدخان، وصوتها يشبه الطبول التي تُقرَع من بعيد داخل القلب.
قالت له:
– “جئتُ أبحث عن نفسي.”
– “كم عمركِ؟”
– “سبعة وعشرون عاشقًا… وست خيبات.”
– “كافٍ لتكوني نَسيتِ وجهكِ. تعالي.”
قادهما الطريق عبر غابةٍ لا تنبت فيها الأشجار بل تنمو فيها الأسئلة.
كل شجرة كانت تسأل: “من تكونين؟”
وكل مرة، كانت ليلى تُجيب بجواب مختلف.
في اليوم الثالث، التقيا غرابًا أبيض، غريب اللون، شديد الهدوء، ينظر إلى ليلى وكأنها مرآته.
قال الغراب:
– “لقد عشتُ يومًا امرأةً مثلك. ثم طار قلبي خارج صدري، فتحولتُ إلى ما ترين.
الحب يا ليلى، إن لم يغيّركِ، قتل فيكِ الطفلة. وإن لم يقتلكِ، أبقاكِ نصف نجمة، نصف ليل.”
فهم دريّان أنها وصلت إلى مفترق الطرق.
قال لها:
– “إن شئتِ أن تتذكّري، عليكِ أن تموتي كما تموت النار في الغيم: بلا رماد.”
هزّت رأسها.
قالت:
– “وإن أنا خفت؟”
– “الخوف، هو الاسم الأول للمعرفة. لا أحد يعرف نفسه دون أن يلمس الظلام فيها.”
في الليلة السابعة، جلس الثلاثة أمام بحيرةٍ من زجاج. قال الغراب:
– “إن نظرتِ في هذا الماء، رأيتِ وجهكِ الحقيقي.”
– “وإن كرهته؟”
– “سوف يكرهكِ أيضًا. لكن الحقيقة لا تخجل، ولا تنتقم.”
نظرت ليلى.
رأت طفلة في الخامسة، تضحك فوق سريرٍ خشبي، تقرأ رسالة من أمّها المتوفاة، كُتبت قبل موتها بعشر سنوات.
رأت فتاةً تُغنّي للريح.
رأت امرأةً تُطفئ قلبها كي يحبها رجلٌ لا يشبه سوى الغياب.
ورأت نفسها، الآن، واقفةً بين الغراب والحطام، ولا شيء في جيبها سوى أغنيةٍ نسيتها.
بكت.
ثم ضحكت.
ثم سقطت على الأرض كمن رقص حتى الانهيار.
قال دريّان:
– “أنتِ الآن… بدأتِ تُولدين.”
في الصباح، رحل الغراب.
وفي يده ريشة سوداء، وفي قلبه امرأة اسمها ليلى، لن ينساها حتى لو عاد بشرًا.
أما هي، فركضت إلى الجبل، وكتبت اسمها على الصخر:
ليلى، ابنة النسيان السابقة.
ثم عادت إلى المدينة، لا لتروي حكايتها، بل لتصمت.
لأن من يعرف نفسه، لا يعود بحاجة أن يصرخ بها.
لكن يُقال، إن الريح في تلك البلاد ما زالت تهمس:
“كانت ليلى، التي أحبت غرابًا… فعادت بشرًا.