عيناك
عيناك هيئة الله حين يُفكّر بالنور،
حين يتجسّد السرُّ في المدى،
وحين يتدلّى الخفاءُ من صُلب الجمال.
كلُّ من تجرّأ على النظر إليهما،
سقطَ من اسمه،
ذابت حدودُه كملحٍ في نهرٍ من يقين،
وتاهَ في مداراتٍ لا يُمسكها الزمان،
مداراتٍ تدورُ فيها الأرواح عاريةً من ذاكرة الجسد،
تحملُ أجنحتها من صمتٍ وارتعاش،
وتعودُ مثل نجمٍ فقدَ طريقه إلى العتمة.
عيناك تُعلّمان الماءَ كيف يكونُ شفافًا،
وتعلّمان النارَ كيف لا تحرقُ إلّا لتُنقّي،
وفيهما تتواطأ العناصرُ الأربعة:
هواءٌ من دعاء،
وترابٌ من حنين،
ونارٌ من عشق،
وماءٌ من يقينٍ أزليّ.
فيهما تتكاثرُ الأنهارُ،
وتُعادُ صياغةُ الطوفان،
ليس طوفانَ نوح،
بل طوفانُ الأرواح حين تغتسل من خوفها،
وحين تُقرّ بأنها وُلدت من قطرة ضوءٍ لا من طين.
إنّ من ينظرُ إليك لا يعود كما كان،
يُخلع عنه لحمُه الأول،
ويُكسى بثوبٍ من معنى،
ويظلُّ طويلاً يحاولُ أن يشرحَ للعالم
كيف يمكن لعينيك أن تُعيداه إلى فجره البدائي.
في يسراك يكمن السرّ الأول:
سكينةٌ تشتعل،
وشهوةٌ تصلي واقفةً على أطراف الضوء،
شهوةٌ لا تُطفئها النارُ بل تباركها،
ولا يُخمدها الخوفُ بل يزكيها،
فتمتدُّ منها سحابةٌ من لهفةٍ طاهرة،
تغمرُ الوجودَ كما يغمرُ البحرُ صدى الطيور.
وفي يمناك السرُّ الآخر:
غيبٌ يختبئ،
ونورٌ يهمسُ للظلمةِ أن تُطيلَ صمتها،
لأنّ النظرَ إليهما ذنبٌ يُغفرُ بالدهشة،
دهشةٌ تُشبه الوحيَ الأوّل حين رأى جبريلُ وجهَ المعنى،
فسجدت الملائكةُ في صميم الضوء.
كلُّ من رآك،
عادَ مثقوبَ القلب،
يُنزفُ معنى لا يعرفُ له شفاء،
ويحملُ في روحهِ وردةً لا تذبل،
سُقيت من لُبِّ النور،
وسكنت في مدارِ الوجد،
كأنها عرشٌ صغيرٌ نُقشت عليه حروفُ السرّ،
ونبضٌ يتهجّى في صمتٍ كلَّ اسمٍ سريٍّ للهوى.
عيناك مصيدتان من ضوء،
يُصطادُ فيهما الغيم،
وتتدلّى أسرارُ الكونِ مثلَ خرزاتٍ على جبينِ العارف،
فيهما يتقاطعُ الليلُ بالنهار،
ويولدُ الفجرُ من بينِ هدبَيكِ كطفلٍ خرجَ من رحمِ الغيب.
من دخلهما فقدَ ظله،
ونسيَ طريقَ العودة،
ومن خرجَ عادَ أكثر امتلاءً من الله،
وأكثر عطشًا إليه،
يمشي كمن نسي جسده،
ويتنفّسُ كمن شربَ من نهرِ الرؤية.
وحينَ أغمضتُ بصري عنك
ظننتُ أنني أهربُ من الوهج،
فإذا بالنورِ يفيضُ من داخلي،
وإذا بي أكتشفُ أن المصيدتينِ ليستا في وجهك فقط،
بل في الوجود كلّه،
في كلّ عينٍ تُحسنُ النظر إلى الغيب،
وفي كلّ قلبٍ يعرفُ أن اللهَ يُرى إذا أحبّ.
حينها أدركتُ:
أنّك لستَ شخصًا، بل صلاة،
ولستَ حضورًا، بل طريقًا إليه،
فكلُّ من تأمّل عينيك مرةً
عادَ نبيًّا صغيرًا
يبحثُ عن معنى الضوء
في عتمة نفسه






































