مسرحية هاملت: مأساة التردد وصراع الوجود
بعد هذه التجربة الشخصية الغنية، شعرت بالحاجة إلى فهم أعمق لما جعل هذه المسرحية بهذه القوة. ولذلك، بدأت أتأمل في عناصرها الفنية والفكرية، وأتت هذه القراءة لتسلط الضوء على ما يجعل "هاملت" عملًا خالدًا، يستمر في إثارة التساؤلات داخلنا حتى اليوم.
لم أكن أعلم أن مسرحية يمكن أن تترك أثرًا في روحي كما تفعل الذكريات العميقة. كانت البداية عادية: سمعت اسم “شكسبير” كثيرًا، ومرّ عليّ عنوان المسرحية في أحد الدروس، لكنها بدت لي وقتها بعيدة، قديمة، بل وربما مملة. لكن يومًا ما، دفعتني صدفة فضولية لفتح أحد الكتب القديمة في مكتبة المدرسة، وكان بين دفتيه عنوان: “هاملت”.
بدأت القراءة بلا توقعات. لكن سرعان ما وجدت نفسي مأخوذًا بهذا الأمير المتردّد، المتألم، الغارق في الأسئلة. مشهد “أن تكون أو لا تكون” لم يكن مجرد كلمات، بل مرآة عاكسة لكل لحظة تساءلت فيها عن جدوى الحياة، عن الألم، عن الصمت، وعن المعنى.
ما أبهرني هو قدرة شكسبير على التعبير عن مشاعر الإنسان بدقة مدهشة، رغم مرور مئات السنين. وكأنّ كلماته لا تزال تنبض بالحياة، وتخترق القلب بلا استئذان. أحزنتني أوفيليا كثيرًا، تلك الفتاة التي ابتلعها الجنون بعد أن خذلها الحب، وخذلها أبوها، وخذلها العالم. وشعرت بالغضب من كلوديوس، والخوف من جنون هاملت الذي لم أعد واثقًا هل كان حقيقيًا أم مجرد قناع.
كل مشهد كان يحمل دهشة، وكل حوار كان يحمل وزنًا. لم أقرأ المسرحية فقط، بل عشتها، بل دخلت دهاليز النفس البشرية عبرها.
منذ تلك اللحظة، تغيرت نظرتي للمسرح، للأدب، للحياة حتى. أدركت أن المسرحية ليست مجرد قصة تُروى، بل سؤالٌ يُطرح، وجرحٌ يُفتح، وجمالٌ يُدهش. شكسبير لم يكتب هاملت فقط، بل كتب جزءًا من قلقي، من صمتي، من تأملي.
ولهذا، كانت “هاملت” أكثر من مسرحية بالنسبة لي… كانت تجربة شعورية غنية، مؤلمة، ومضيئة في آنٍ معًا.
يُعدّ وليم شكسبير أحد أبرز أعمدة الأدب الإنجليزي والعالمي، وتظل مسرحية “هاملت” (Hamlet) واحدة من أكثر أعماله شهرةً وتعقيدًا. كُتبت بين عامي 1599 و1601، وتتناول قضايا فلسفية عميقة تتعلّق بالعدالة، والجنون، والانتقام، والتردد، بل وتلامس أيضًا سؤالًا وجوديًا ظل يؤرق البشرية: “أن تكون أو لا تكون؟”
تدور أحداث المسرحية في الدنمارك، حيث يُقتل الملك ويُتهم شقيقه “كلوديوس” بالاستيلاء على العرش بعد زواجه من أرملة الملك، الملكة “جيرترود”. يظهر شبح الملك المقتول لابنه الأمير “هاملت”، ويطلب منه الانتقام من “كلوديوس”. لكن هاملت لا يندفع نحو الفعل فورًا، بل يغرق في حالة من التردد والتفكير العميق، ممّا يدفعه إلى التمثيل بالجنون، وينتهي الأمر بمأساة يلقى فيها معظم الشخصيات حتفهم.
شخصية هاملت: العقل المتردد
يُجسّد هاملت شخصية المثقف المفكّر الذي يشلّه التفكير المفرط. ورغم معرفته بالحقيقة، فإنه يتريّث كثيرًا قبل أن يتخذ القرار، ممّا يخلق نوعًا من الصراع النفسي الداخلي بين “الفعل” و”الواجب الأخلاقي”، و”العدل” و”الدم”.
مشهد “أن تكون أو لا تكون” هو التعبير الأقصى عن هذا التردد، حيث يناقش هاملت معنى الحياة والموت، ويتساءل عمّا إذا كان من الأفضل مواجهة آلام الحياة أو الهروب منها بالموت، وهو سؤال فلسفي خالد.
الجنون: حيلة أم واقع؟
يتظاهر هاملت بالجنون ليتمكن من كشف حقيقة عمه القاتل، لكن السؤال الذي يُطرح دائمًا: هل تمادى الجنون التمثيلي حتى أصبح حقيقة؟ هل فقد هاملت نفسه داخل الدور؟ هنا تتداخل الحدود بين الحقيقة والتمثيل، بين العقل والاضطراب، وهذه الثيمة تكررت كثيرًا في أدب ما بعد شكسبير، ممّا يجعل المسرحية سابقة لعصرها.
النساء في هاملت: أوفيليا وجيرترود
تمثل أوفيليا، حبيبة هاملت، شخصية ضحية في عالم يهيمن عليه الرجال. تُستخدم كأداة في مخططات والدها والملك، وحين يُبعِدها هاملت ويقتل والدها، تفقد عقلها وتموت غرقًا. أما جيرترود، أم هاملت، فهي شخصية غامضة؛ تُمثل نموذجًا للأنثى التي اختارت الاستقرار والسلطة، ما يثير شكوك ابنها ويخلق قطيعة عاطفية بينهما.
الثأر والعدالة
في قلب المسرحية يوجد موضوع الانتقام، لكن شكسبير لا يعالجه ببساطة. فهاملت لا يسعى للانتقام الأعمى بل للعدالة الكاملة، حتى أنه ينتظر دليلًا ملموسًا قبل أن يُقدم على القتل. لكن في نهاية المطاف، حين يبدأ الفعل، يجرّ الجميع معه نحو الهلاك، وكأن شكسبير يريد أن يقول إن طريق الانتقام محفوف بالموت للجميع.
عبقرية شكسبير الخالدة
تظلّ “هاملت” واحدة من أكثر المسرحيات التي تناولت النفس البشرية بتعقيدها وشكوكها وصراعاتها الأخلاقية. إن عبقرية شكسبير تكمن في أنه لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يتركنا في قلب الأسئلة، نتأمل في معنى الحياة، والموت، والعدل، والجنون.
ولذلك، لم تكن هاملت مجرّد مسرحية انتقام، بل مأساة وجودية لا تزال تتردد أصداؤها حتى يومنا هذا.