لم تعد عبارة " ناقصات عقل ودين " مجرد كلمات تُقال، بل أصبحت أداة لإسكات المرأة وفرض حكم جاهز عليها، تُستعمل اليوم كخلاصة نهائية، كأنها نهاية التفكير لا بدايته، وكأنها جواب يُغني عن السؤال، تُرمى في وجه المرأة كلما حاولت أن تفهم أو تُفهم، لا بوصفها شرحًا دينيًا، بل بوصفها حدًّا أعلى لما يُسمح لها أن تكونه، وكأن حضورها الواعي يشكل تهديدًا لمنظومة اعتادت الطاعة بلا تساؤل.
المفارقة أن هذا الوصف، رغم ما يُفهم منه اليوم، لم يُطرح يومًا بوصفه ضعفًا، بل اعترف بقوة المرأة، ففي نفس الحديث الذي ذُكرت فيه العبارة، أُشير إلى أن المرأة قادرة على هزّ أعقل الرجال، وإرباك صلابة القرار لديهم، أي أننا لسنا أمام كائن ضعيف، بل أمام حضور إنساني مؤثر، قادر على تغيير أكثر العقول رسوخًا، وهذا وحده يكفي لنقض الفهم السطحي الذي يجعل من العبارة إهانة، بينما سياقها يكشف عن اعتراف ضمني بقوة المرأة لا بهشاشتها.
أما "نقص العقل" فلم يكن المقصود به الذكاء أو القدرة على التفكير، بل كان توصيفًا لوضع اجتماعي محدد، حيث كانت الخبرة في المعاملات المالية والقضايا القانونية محصورة بالرجال، فجاء الكلام مرتبطًا بنظام الشهادة القائم آنذاك، أي أنه وصف ظرف، لا تعريف جوهر، وحالة تاريخية، لا طبيعة أزلية.
أما " نقص الدين " فهو أكثر ما أُسيء فهمه. المقصود ليس ضعف الإيمان ولا خلل العلاقة بالله، بل توصيف لحالة مؤقتة تتعلق بالجسد، فالمرأة حين تحيض تُعفى من الصلاة والصيام، هذا الإعفاء ليس عقوبة، ولا دليل نقص روحي، بل رحمة وتشريع يراعي حدود الجسد، النقص هنا عددي، متعلق بعدد العبادات المؤداة، لا بقيمة الإيمان أو صدقه، ولو كان نقصًا في الجوهر، لما كان هذا الإعفاء نفسه جزءًا من التشريع، ولا كانت المرأة مطالبة بالعبادة حين تعود قادرة عليها.
المشكلة بدأت حين تحوّل هذا التفسير إلى وصمة، وتحولت الحالة المؤقتة إلى صفة دائمة، وتحول الشرح إلى أداة هيمنة. هنا لم نعد أمام فهم ديني، بل أمام عقل سلطوي يبحث عن نص يبرر تفوقه، لا عن معنى يوسع وعيه. العقل الذي يتمسك بالعبارة خارج سياقها لا يفعل ذلك دفاعًا عن الدين، بل خوفًا من السؤال، لأن السؤال يهدد البنية الجاهزة التي يستند إليها.
فلسفيًا، العقل لا يُقاس بالذاكرة أو بالحساب فقط، بل بالقدرة على الفهم، والتأويل، وربط المعنى بالواقع، والاعتراف بتغير السياقات، والدين، في جوهره، ليس عدًّا للطقوس، بل وعي بالعلاقة مع الله. الإيمان الذي يُختزل في الأرقام إيمان فقير، بينما التجربة الروحية الحقيقية لا تتوقف عند عدد الركعات، بل عند حضور القلب والمعنى.
لهذا، حين تُستخدم عبارة " ناقصات عقل ودين" اليوم كسلاح لغوي ضد المرأة، فهي لا تكشف نقصًا في المرأة، بل نقصًا في الفهم. تكشف عقلًا يرفض التاريخ، ويكره التأويل، ويبحث عن يقين سهل بدل حقيقة معقدة، المرأة لم تُنتقص يومًا لأنها أقل عقلًا، بل لأن حضورها الواعي وقدرتها على التأثير تهز أركان نظام اعتاد الطاعة بلا وعي.
النقص الحقيقي ليس في المرأة، ولا في جسدها، ولا في فترات انقطاعها عن بعض العبادات، بل في قراءة ترفض أن ترى أن النص أعمق من استعماله، وأن الدين أرحب من أن يُختزل في عبارة مبتورة عن سياقها.
ماذا تعني عبارة " ناقصات عقل ودين" ؟
تعني شيئًا واحدًا فقط: أن الفهم السطحي أخطر من النص نفسه..






































