لم يكن زياد مجرد ابن فيروز. كان ضلعًا ثالثًا في صوتها. تلك المسافة التي تفصل بين “سألوني الناس” ودمعتها الصامتة. ذلك العناد الذي تمرّد على كل النوتات فصار مزيجًا من الحب والسياسة، من الجاز والبكاء، من بيروت المثقفة وبيروت المقهورة.
في السادس والعشرين من تموز، أسدل الغياب ستاره على المسرح الأخير. غاب زياد الرحباني.
وغابت معه آخر نغمة كانت تقاوم.
لم يقل الكثير حين كان حيًّا، لكنه قال بما يكفي:
– “أنا ابْن فيروز، بس مش تابع إلها.
أنا وِلِدِتْ منها، مش مِن غناها.”
قالها ذات مساء، وخرج يدخّن سيجارة تعب.
توفي زياد عن عمر التاسعة والستين. لم يكن غريبًا عن المرض، ولا عن الغربة. هو الذي عاش مريضًا بالأسئلة، غريبًا حتى بين أقرب المقربين، متشككًا في كل شيء… إلا في صوت أمه.
سألوا فيروز يومًا، لماذا لا تغني له؟
قالت: “هو لا يكتب ليسمعني، هو يكتب ليسمع العالم صوتي وأنا أقول وجعه.”
وغنت:
“سألوني الناس عنك يا حبيبي…”
وكان هو في عمر الخامسة عشرة حين لحّنها، وكانت أمه تبكيها على المسرح، لأن والده عاصي كان في المستشفى.
لا نعلم ما كتب زياد في أيامه الأخيرة.
ربما كتب شيئًا ثم مزّقه، أو قال بصمت: مش مهم تضل سهران، على ناس رحلوا من زمان… ثم رحل هو، دون أن يوقظ أحدًا.
فيروز…
التي غنّت الحب لكل الناس،
فقدت ابنها الذي كتب لها أجمل ما غنّت حين كانت تبكي ولم يكن أحد يعرف.
في عزائها لم تتكلم.
قالت سطرًا واحدًا بصوت مكتوم:
“أنا الأمّ الحزينة وما من يعزّيها…”
وبقيت تحدّق في شجرة السرو خلف نافذتها.
هناك، حيث مرّت طفولة زياد تركض بين أصص الزعتر، وتحلم بعالمٍ لا يصفق.
وداعًا زياد.
أنتَ لم تكن مجرد موسيقي.
كنتَ ضميرًا فنيًا يسير عكس الريح،
كنتَ غضبًا يُعزَف، وتمرّدًا يُلَحَّن،
كنتَ الابن الوحيد الذي استطاع أن يُبكي أمّه بصوتها هي.
وها هي الآن تبكيك… دون أن تغني.