الحلاج: حين يصبح القتل حياة
“اقتلوني .. تؤجروا واستريحوا”
بهذه الكلمات المربكة، التي تشبه صرخة من قلب الغيب، خاطب الحسين بن منصور الحلاج جلّاديه. لم تكن تلك دعوة إلى الموت بالمعنى البسيط، بل كانت إعلانًا وجوديًا لحقيقة صوفية كبرى: أن الفناء في الله هو الحياة الحقة، وأن الخلاص لا يكون إلا بعبور الألم، بالحرق، بالصَّلب، بالتحوّل الكلي.
فمن هو الحلاج؟ وماذا كان يعني حين طلب الموت من خصومه وكأن في قتله خلاصًا له ولهم معًا؟ وكيف تحوّلت تجربته إلى أيقونة للثائرين، والشعراء، والمحبين؟
من هو الحلاج؟
وُلد الحسين بن منصور الحلاج عام 858م (244هـ)، في قرية تُدعى الطور قرب البيضاء في فارس (إيران الحالية). نشأ في بيئة متديّنة، ودرس الفقه والحديث، لكنه سرعان ما انجذب إلى طريق التصوف، وكان من أبرز شيوخه سهل التستري والجنيد البغدادي، وإن كان الأخير يتحفّظ عليه لاحقًا.
رحل الحلاج كثيرًا، إلى مكة، وخراسان، والهند، وخلال ترحاله تكوّنت شخصيته الصوفية والفكرية، التي جمعت بين الزهد والتأمل والفكر الثوري. لم يكن زاهدًا معتزلاً فقط، بل داعية إلى التغيير الروحي والاجتماعي. كتب، وعاش بين الناس، ووعظهم، حتى صار له أتباع كُثر.
أنا الحق… أم الله؟
أشهر عبارات الحلاج، والتي كانت ذروة محنته، هي:
“أنا الحق”
قالها وهو في غيبته الصوفية، حين فني عن ذاته وشعر بأنه لم يبقَ فيه شيء إلا الله. لم يقصد الألوهية – كما فسّرها خصومه – بل عبّر عن حالة من “الاندماج الروحي” مع الله، حيث لا يبقى من العبد إلا الله فيه، فلا يرى في نفسه إلا صفات الحبيب الأزلي.
هذه العبارة، وإن كانت مفهومة ضمن السياق الصوفي، اعتُبرت زندقة عند فقهاء السلطة العباسية، وذريعةً كافية لاتهامه بالكفر والهرطقة.
اقتلوني… سياق العبارة ورمزيتها
في قصيدة تُنسب إليه، قال الحلاج:
اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي
أنا من أهواه فافعل بي جميع ما ترونه
فبحبّي لا أبالي إن قتلت أو نجوتُ
يطلب الحلاج من خصومه أن يقتلوه، لأنه – في نظره – ميتٌ أصلاً عن ذاته، عن دنياه، عن أنانيته. هو حيّ فقط بما يحب، أي بالله. فكل قتل جسديّ يقربه من محبوبه، ويحقق الفناء الذي يسعى إليه.
وتعبيره “تؤجروا” ليس سخرية فقط، بل يحمل نبرة تحدٍّ: إن كنتم تعتبرونني زنديقًا، فاقتلوني لترضوا ربكم كما تزعمون، أما أنا، فسأكون في راحة، في لقاء.
محنة الحلاج ومقتله
حوكم الحلاج أمام القضاء العباسي في بغداد، بعد اتهامات بالزندقة، والتأثير على العامة، ومزج الدين بالسياسة. ظل في السجن سنوات، ثم صُلب يومًا كاملاً، ثم قُطع رأسه عام 922م، ومُزّق جسده، وأُحرقت بقاياه.
لكن من الغريب أن قتله لم يُنهِ وجوده، بل زاد حضوره. فقد أصبح رمزًا للحب المطلق، والمقاومة الروحية، والحرية الداخلية، وتحولت كلماته إلى طاقة حيّة في ضمير التصوف والفكر.
الفناء في التصوف: هل هو انتحار أم ولادة؟
ما قاله الحلاج لا يُفهم خارج سياق فكرة “الفناء في الله”، وهي ركن أصيل في التصوف الإسلامي. يرى الصوفي أن العبد ينبغي أن يفنى عن ذاته ليرى الله فقط.
يقول أبو يزيد البسطامي، أحد أقطاب التصوف الأوائل:
“سبحاني، ما أعظم شأني!”
وهو قول يشبه من حيث البنية “أنا الحق”، لكنه يُفهم ضمن لحظة غيبية، حين يتلاشى العبد تمامًا في حضور الله، فلا يعود يميز نفسه عن المطلق.
في هذا السياق، لم يكن الحلاج مبتدعًا، بل مجددًا صادمًا في صدقه وعلانيته. ما قاله سرًا، قاله جهارًا. وما همس به العارفون في الزوايا، صرخ به في الأسواق، وكتبه للناس جميعًا.
من هنا، كان فناء الحلاج ولادة جديدة، لا انتحارًا رمزيًا فقط، بل شهادةً تؤسس لفكرة أن الوجود الحق لا يُنال إلا بعد اختفاء الوجود المزيف.
الحلاج والشهادة الصوفية
لم يمت الحلاج كمذنب، بل كشهيد للحب. لقد اختار أن يُصلب كما صُلب المسيح، وأن يُمزق كما مزقت قلوب المحبين. بل قيل إنه سجد لله وهو على الخشبة، وابتسم في لحظة احتضاره.
وحين سُئل: “ما التصوف؟”، قال:
هو أن تكون مع الله بلا علاقة.
لم يكن يعني اللاعقلانية، بل التجرد. التجرد من كل مصلحة، من كل رجاء أو خوف، حتى من نعيم الجنة أو هول النار، والبقاء فقط في حالة محبة خالصة، تعبد الله لله، لا لأجل شيء.
الإرث الصوفي والفكري للحلاج
بعد مقتله، تردد ذكر الحلاج بين المتصوفة، والفلاسفة، وحتى الشعراء. جلال الدين الرومي استحضره أكثر من مرة في المثنوي، وكذلك ابن عربي، والسهروردي، والنفري.
في العصر الحديث، عاد الحلاج رمزًا في الشعر العربي الحديث، وخصوصًا في أعمال صلاح عبد الصبور في مسرحيته مأساة الحلاج، حيث جسّده شخصية تراجيدية تواجه السلطة، باسم الحب، والحق، والحلم.
خاتمة: هل قُتل الحلاج حقًا؟
الحلاج لم يُقتل. جسده اختفى، لكن فكرته حيّة، تطل برأسها كلما خنق الخوفُ الصوتَ الحر، وكلما صار الحب جريمة.
قال يومًا:
“أنا من أهوى، ومن أهوى أنا… نحن روحان حللنا بدنا”
عبارة تختزل جوهر التصوف: أن الحبيب لا ينفصل عن المحبوب، وأن الله لا يُرى في السماء، بل في القلب، في الحب، في القصيدة، في النار التي تضيء الطريق.
وإذا كان قد قال:
“اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي”
فلعل العالم لا يزال يقتله، كل يوم،
ولا يزال هو يولد… من رماده،
ليعلمنا أن من أحب… لا يموت.