المرأة المتصوفة… ذلك النور الذي سار على الأرض
في تاريخ التصوف، كما في تاريخ الروح، كانت المرأة حاضرة دائمًا… ولكن في صمت. لم تكن تسعى إلى المنابر، ولا تطرق أبواب الفقهاء، ولا تدخل ساحات الجدل، بل كانت تسلك الطريق على استحياء، كما تسير قطرة الندى على ورق الغصن… لا تُحدِث صوتًا، لكن أثرها يبقى.
المرأة في التصوف ليست ظلًا للرجل، ولا تابعًا في الطريق، بل كانت قلبًا ينبض بنور الله، وعينًا ترى بعين المحبة، وروحًا وُلدت منذ الأزل وفيها شوق لا ينطفئ. لم تكن التصوف حكراً على الرجال، وإن كُتبت أسماؤهم أكثر، بل كانت النساء حاضرات في الزوايا والخلوات، في الذكر والمناجاة، في الحُب والوجد، وكان لهن طريقهنّ، الصامت غالبًا، لكنه الأبلغ أثرًا.
المتصوفة لا تشبه الناس. هي لا تفرح بما يفرحون، ولا تبكي لما يبكون. قد تمر في السوق بثوبٍ ممزق، لكنها تُخفي في صدرها كنزًا من المحبة. وقد تراها تصمت طويلًا، لكنها تُحدّث الله دون انقطاع. هي امرأة، نعم، لكنها خرجت من حدود الجسد إلى رحابة المعنى، ومن صخب الحياة إلى سكينة الذكر.
في دروب التصوف، مشَت نساء لم تُكتب أسماؤهن، لكن الله علِم أسماءهن. نساء عشقن الله فذاب وجودهن في حضرته، منهن من تُلي اسمها في مجالس الذكر، ومنهن من بقيت سرًّا بين الله وعبده.
في هذا الفصل، لن نكتب عن النساء كفصل منفصل في التصوف، بل كصفحة مضيئة فيه، كالحرف الذي لا يكتمل المعنى بدونه، وكالنسمة التي تمر في حضرة الذكر، فتجعل الأرواح تهمس: “كانت هنا امرأة تحب الله.
رابعة العدوية: المرأة التي أحبت الله حتى الذوبان
في زمنٍ كان التصوف فيه يُروى على ألسنة الرجال، خرجت امرأة يتيمة، بسيطة، لكنها امتلأت بنورٍ لم تستطع الأرض أن تحتمله، فرفعتها إلى مقامٍ لم يبلغه إلا القليل. كانت رابعة لا تسعى إلى الجدل، ولا تبحث عن شهرة، ولا تشتكي من ألم، بل تمشي على الأرض كما تمشي الأرواح في السماء، لا تُحدث ضجيجًا، لكن أثرها يبقى طويلًا بعد أن تمر.
رابعة لم تتصوف لأنها درست التصوف، بل لأنها عاشت الفقد، وتيتّمت، وعرفت طعم الاحتياج، ثم وجدت في الله سدًّا لكل فراغ. هجرت الدنيا، لا لأنها تكرهها، بل لأنها رأت ما هو أجمل. وكانت صلاتها ليست طقوسًا، بل أنينًا، وكانت دعواتها لا تطلب شيئًا، سوى الله.
حين قالت:
“إني ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، ولكن عبدتك لأنك أهل للعبادة.”
غيّرت بذلك معنى العبادة، وأعادت تعريف الحب.
كانت تصوم لتشبع روحها، وتبكي لا لتُغفر ذنوبها، بل لأنها شعرت أن الله قريبٌ جدًا، فتكسّرت تحت حضرته. كانت أنثى، نعم، لكنها ما خضعت إلا لله، وما خافت إلا من فواته. كان الليل مجلسها، والدمع غذاءها، والله مقصدها، وبذلك صارت إمامة في الطريق، لا بسلطان الفقه، بل بصدق الوجد.
رابعة لم تثر في كتب التاريخ كقائدة أو فقيهة، بل تركت أثرًا أعمق: كانت امرأة تقول “الله”، وتبكي، ويكفي