عُدنا إلى زهرة تلك الأنثى الرقيقة،
خرجت من الدنيا لا تفقه منها إلا ما نشأت عليه: حبُّ والديها.
كانت زهرة، زهرةً بكل ما تحمله التسمية من صدق؛
طفلة لا تعرف من العالم إلا يد أبيها وابتسامة أمها،
وكان والدها رجلًا نادرًا، يُعامل صغيرته كأنها أعجوبة الدنيا،
يتودد إليها كل صباح كأنما يراها للمرّة الأولى.
هي صغيرته، مدللته، بنت قلبه ورفيقة أنفاسه،
وكنا نحن — أختي وأنا — زهرتي البيت، وأمّنا ثالثتنا،
وإن لم تكن الأولى في قلب أبي.
كبرت زهرة وهي تظن أن كل الرجال نسخٌ من أبيها،
يتقنون الرقة، ويدركون تفصيل التفاصيل،
يغدقون العطف في غير مناسبة، ويملؤون الغياب بلمسة حب.
لكن كمال... لم يكن نسخة.
كان ظلًا مائلًا، رجلًا يمرّ كنسمة لا تهزّ ستارة الشعور.
ومع كل مرة كانت زهرة تتذكّر طفولتها،
كانت تتمنى لو احتواها رجلٌ يشبه والدها.
حتى ذلك اليوم...
يوم أن نسِيَ والدها كيس القهوة المخصص لأمها،
وقد نفد منذ البارحة...
أوه، كيف نسي؟!
كيف يهمل تفصيلة عشقه البسيطة؟
يومها، انتحبت أمها كأن الكون خانها،
وكادت زهرة تكتم ضحكتها، بل تموت لتُطلق سراحها من الألم.
لكن كل شيء تغيّر...
حين أظلمت عيناها،
وكان كمال، ماثلًا أمامها لأكثر من ساعة،
ينظر في عينيها بارتباك، ثم قال ببطء:
"إني... أغار."
عندها توقفت دقات الساعة،
واستحت الشمس في كبد الغروب،
فرفعت عينيها إليه، وقالت بهدوء كاسر:
"تغار؟"
ضحكت بسخرية، قلبت مقلتيها، وردّدت:
"أنت... تغار؟!"
وظلّت تكررها زمنًا...
حتى أسكتها صوته الجاف:
"ما بكِ يا امرأة؟! نعم... أغار.
وهل في غيرتي ما يُستنكر؟!"
ابتسمت بوجع، وقالت:
"لا، عزيزي، غيرتك حقيقية...
لكنها ليست عليّ.
أنت تغار من نقودي."
بهت وجهه،
كأن جبلًا من حجارة سقط على رأسه،
وشجّ في داخله كل ما تبقى من حجج.
قال مذهولًا:
"أغار من نقودك؟ أنا؟!
كيف ذاك؟!
أنا من يدعمك،
ومن يشاركك بيتك،
وكنت أظن عوني كرمًا،
فإذا به اليوم فَرض عين.
فردّت زهرة، وهي تحدّق في فراغٍ لم يعد له ملامح:
"تقول إنك تدعمني؟
تُعلنها كمن يمنّ، لا كمن يُحب.
تُذكّرني دومًا بما قدّمت،
وتنسى ما تكفّلتُ به في غيابك،
في انشغالك،
في تقاعسك عن أشيائي الصغيرة."
ثم تابعت بنبرة مغلّفة بالخذلان:
"دعمني أبي ولم يُشعرني يومًا أنه يفعل.
أما أنت...
فكل عونٍ منك كان مشروطًا بذكرك،
وتفتيشك في دفاتري،
كأنني مدانة بك،
لا شريكة لك."
فقالت بنبرة لا تخلو من صدق الغصة:
"ولِمَ لا تغار من وقوفي في سوق العمل؟
من شرائي لمستلزمات البيت؟
من اهتمامي بتفاصيل لم تلمحها يومًا؟
سبحان من بسط رزقك طول العام،
ثم حين تحين مناسبة تخصّني —
عيد ميلادي، ذكرى زواجنا، أو حتى العيد —
ينفد منك المال فجأة،
وتبدأ سيرة العوز ومماطلات ما أنزل الله بها من سلطان."
كان يشرح، يعتذر، يؤكد أنه يغار حبًا...
لكن زهرة كانت في مكان آخر،
في زمن بعيد،
حيث نسي رجلٌ عظيم كيس قهوة بسيطًا،
فانهارت امرأة...
أما هذا، فخانها في قيمة الحب ذاته.
لم تكن الغيرة في عينيه سوى خوفٍ من استقلالها،
من أن يغدو وجوده ثانويًا في معادلةٍ ما عادت ترتكز عليه،
من أن يصبح اختيارًا بعد أن كان احتياجًا.
لكنه لم يفهم.
صمتت، ثم أضافت ببطء:
"أتدري؟ لا يليق بك أن تغار...
فقط عش، ودعها تمضي،
إنها أيام... وستنقضي."
ثم خفضت نظرها، وقالت:
"احمد الله أنها دنيا فانية،
فلا لقاء بيننا في الآخرة."
وختمت همسها بشهقة حاسمة:
"كفاك مني... أنني لم أعد أراك كما كنت أراك."
فلا جدال.