آخر الموثقات

  • شبح عبدالله بن المبارك تعري أشباح النفوس
  • دعوة الرجل الطيب
  • بين غيم السماء وضجيج الأرض
  • العام 2050
  • يوم غريب في حياتي
  • المتحدثون عن الله ورسوله
  • قصة قصيرة/.المنتظر
  • قصتان قصيرتان جدا 
  • سأغير العالم
  • كيف تعلم أنك وقعت في الحب؟
  • التأجيل والتسويف
  • فأنا لا انسى
  • احترام التخصص
  • 2- البداية المتأخرة لرعاية الفنون والآداب
  • يعني إيه "الاحتواء"؟
  • يا عابرة..
  • رسائل خلف السحاب
  • صادقوا الرومانسيين
  • ربي عيالك ١٠
  • من بعدك، كلامي بقى شخابيط
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة سامح رشاد
  5. عصا بشخاليل - رواية - ج1

                 بَنسيون

كُلوت بِك

أن تجلس في شارعٍ ما على كرسي شاغر، وكأنك أحد المتسولين العظماء في انتظار أن تزحزح السماء قليلًا إلى اليمين أو الشمال، وتتمرغ في سخونة الفراغ، وتؤاخي بين الرمل والماء، وأن تضع يدك في جيبك لتتأكد من جاذبية الفراغ الذي يُملِئ جيب بنطلونك، وأن جميع المغامرات التي خُضتَها في حياتك لا تكفي بالكادِ لشراء تذكرة مرحاضٍ عمومي.

وكالعادة ستجلس ممددًا إحدى رجليك إلى السماء، والأخرى تلفها بيدك، وبعدها ستقول فليذهب العالم إلى الجحيم، وسترسم نفسك على أحد المقاعد العمومية في حديقة الزمن كأحد المتسولين العظماء، وترى مجموعةً من الفراشات تحوم حولك، فتتخيل نفسك بجناحين وتطير في محاولةٍ منك أن تضع السماء مكان الأرض، والأرض مكان السماء، وتنام نومةً ثملةً..

القاهرة - 15 ديسمبر 1798م

                                                                                                      

سأفتح عينيي المُغمضتين، وأرتب أمرًا ما، وأقفُ على كل خَليةٍ في جسمي، وأتخذ من الأرض شواهد لمقامات الموتى وبعض صلبان العذارى، لأقتفي أثر ما كان وما سيكون، أتلون بكل جسدٍ، وأحل بكل جسد ساندًا رأسي إلى كل ما يتداعى.

وأبتكر كلامًا، وأخرجُ من كل معناي إلى كلِ فوضاي، ومن كلِ فوضاي إلى كلِ معناي....

كنتُ أتلصصُ على الزمن، وهو يفركُ يديهِ الرخاميتين على وحدتي، وينامُ متواطئًا على وسادتي الخالية؛ الخالية حتى منِّي! ممدًا رجليه على فراش العتمة البالية.

كنتُ أحملُ فراغي على ظهري، وألقي بمتاعي في اليم، فلا أفتشُ لي عن رقدة، ولا أبحث عن حياة حتى يأخذ الزمن أبعاده ومسمياته، وأن تأذن لي إلهي؛ إلهي الذي في السماوات بيني وبينك كلامٌ لا يقدرُ على تأويله أصحاب العلوم والفلاسفة، ولا يقترب منه الصوفيون وأصحاب المقامات...

كيف أهيئ مفاتيح جسدي بيدي إلى أن تقوم الحياة وتوقظني من سُباتي إلى غَيَابة الجسد، وأُعلن في الملأ عن نبأٍ -هو للخيال أقرب منه إلى الحقيقة-، على واجهاتِ البيوت وشجر الحوائط، ونوافذ الأرقاء وقوائم الأسرى، أقول فيه: "أنا لا أنا الذي كنتُ!".

كنتُ دائمًا أتشبث بجنازتي، وأتمددُ كالياقوتة المزيفة بين أحضان الزمن المزيف، وأصبحت طاقتي مثل حبة الخردل، أو ربما أقل، فأين أذهب وحولي الحرس الطائف في المدينة يفتش وينقب عن كل هارب؟!

كنتُ أوسوس لنفسي بنفسي، نعم.. أوسوس لنفسي بنفسي، أراود الأمر عن الأمر، وأطرد الفكرة بالفكرة!

كل شيءٍ في الحياة يتغير، وهذا أمر لا شك فيه ولا موضع فيه للتأمل، ولكن الذي يدعو إلى العجب هو أن الإنسان يتغير ويتغير مصيره بسبب شهامته وإنسانيته؟

ولذلك فبعد سماعي هذا الخبر، فقد صرتُ أشعر بأن القائد ينوي فِعل ما أمره به الجنرال "ذوجا"، فقررتُ الهرب من المعسكر بعد أن خفت على الشمس أن تفر من مساكن الغيبة، فأسكن إلى الظلمة.

ذهبتُ إلى حيث لا أعلم، ووقفتُ في الشارع أرتجف كالشعرة المُعلقة في فراغ ذاتها.

وكانت الأرض سلحفاةً متحجرةً، والأشجار بلا ثمار، فإذا بي أتدلى في الفراغ، أرسم توافقاتي ودوائر محبتي.

وترجلتُ في أرضٍ وعرة، وسماوات بعيدة، وقلتُ لنفسي: من أتى بي إلى هنا؟!

وأنا مُسرعٌ في الخُطى، وأتصبب عرقًا، وظللتُ أضحك وأهذي كالمجانين، ولما خِفتُ على الشمس أن تضيع منّي؛ رسمتُ فوق كل خطوةٍ هلالًا ودمعةً، وكانت نخلةً وحيدةً في شارع وحيد، تطلُ على سماء وحيدة وأرض عنيدة، استرحتُ تحتها، ونمتُ نومةً عاصفةً مُشتعلةً...

وكنتُ إذا مررتُ بشارعٍ رجموني الصغار بالحجارة، وهتفوا: المجنون... المجنون..!  

قد هُيِّئ لهم أني مجنون بسبب ملابسي الرثَّة، وذقني التي غطَّت قميصي، وأخذوا يطلقون ورائي الكلاب الضالة، ويطردونني من شارعٍ إلى آخر، إلى أن دمىَ جسدي، وبُتِلت عروقي من فرط التعبِ؛ وأصبح جسدي متقيحًا، ومليئًا بالتقرحات، وهزلتُ فكنتُ فعلًا أشبه بالمجانين!

لا أملك ما أسدُّ به رمقي، وبالكاد كنت أختلس من القطط بعضًا من أكلها، وأوقاتٍ كنتُ لا أقدر على ذلك، علمًا بأنني أمتلك تمثالًا ذهبيًا يجعلني كالباشوات، أهداه لي قائدي في المعسكر، لكن كنتُ أخشى أن أعرضه للبيع...!

وحدث لي أن وجدتُ أحدهم وقد توقف أمامي، ويبدو أنه رأف بحالي فأمر حَارسه -قد تبين لي أنه حارسه من طريقة رده، وملابسه- أن يعطيني بعض النقود لكنني رفضتُ؛ مما اضطره لأن يأتيني بنفسه، وقال لي:

- أنت من سكان قرية القُبة؟

لم أجِبه، وكأنني لم أرَه؛ مما أزعجه، فقال حانقًا:

- أتدري مَن يحادثك؟!

فقلتُ له:

- لا.

- أنا إحسان باشا الدميري، أكيد سمعتَ عنِّي؟!

- أنا لا أسمع عن أحد.

- تبدو ليس مصريًا، ربما تكون إفرنجيًا!

 - أنا جوعان، أريد أن آكل..

فأمر الرجل الذي معه بإحضار طعامٍ لي، ثم قال لي:  - أين تسكن؟

حينها كنتُ أشتبك مع الريح في عراك وشفاعاتِ، وأفركُ الزمن كاللفافة بين أصابعي، وأطوي السماء كطيِّ السجل للكُتب.

قلتُ له:

- أسكن في الشارع، فتعجب، وقال لي:

- تعالَ معي..

وطلب من الحارس أن يصطحبني إليه، وفي الطريق علمتُ أنه من رجال الدولة، وأحد المقربين من إبراهيم بك، ومراد بك؛ مما زاد قلقي، فلو علم مَن أنا سيقتلني! وبعد أن دخلتُ معه القصر الذي يسكن فيه رأيتُ ما لم أرَ من قبل؛ ترف العيش، والتحف، واللوحات التي لا تُقدَّر بثمن.

كنتُ وقتها أتدثر بهاويتي، وأنزل إلى قيعان الوحدة، وأشدُّ أغطية الحلم المكتظة بالتخيلات.

بعد أن اعتبرني "إحسان باشا" أحد الخدم عنده، كانت زوجته "شوقية هانم" تعاملني برفقٍ، ومن قبل كانوا قد سألوني عن جنسيتي، لأنه واضح من شكلي أني غير مصري، فقلتُ لهم إنني من المغرب العربي، جئت زيارةً لأحد أقاربي، لكني لم أتمكن من الوصول إليه.

كانت "شوقية هانم" سيدةً جميلةً، كان الورد يتراقص بين ضفائرها المستخرجات من الليل والبحر، لكنها كانت لا تحب "إحسان باشا"، قد علمتُ هذا منها حين قالت لي أنا أريد التحدث معك، وطلبت منِّي أن أصطحبها إلى إسطبل الخيل في القصر، وقالت لي إن هذا الرجل -إحسان باشا- كان صديق والدها، وتزوجته دون رضًا منها.

كانت تحاول الاقتراب منِّي، وأنا مُمسكٌ بفرستها المُدلَّلة، حتى كادت أن تلتصق بي، ومدَّت يديها وهي تضمُّ شفاهيها وتغمض عينيها إلى يديَّ، ما أخافني كونها زوجة أحد رجال الدولة، لكنها قالت لي -بكل صراحة- إنها لا تحب "إحسان باشا"!

عند دخولي القصر في بادئ الأمر، كنت قد عرَفت أن القصر به حمَّام للتدليك، فطلبتُ في ذلك الوقت من "شوقية هانم" أن تأمر الخدم بدخولي إلى الحمام؛ فأمرت الخدم فأدخلوني إلى قاعةٍ ترتفع في هيئة بناء دائري، له قباب وبه فتحات عند القمة، تسمح بمرور الهواء، وقد أحاطت المكان دكةٌ كبيرةٌ مكسوَّةٌ بسجادةٍ. وضعت ملابسي، وبعد أن خلعت ثيابي أحطت خصري ببشكير كبير، وأدلفت في ممر ضيق؛ حيث بدأت أشعر بالحرارة، وقد أُغلق الباب أمامي ليُفتح بابٌ آخر، ثم سرت في مكانٍ ضيقٍ حتى دخلت إلى حمام البخار؛ وبدأ أحد الخدم بتدليك جسدي، وراح يقلبني بكل الجهات، وبعد أن أدخلوني غرفةً بها سرير؛ ألقيت نفسي عليه أستمتع بالراحة الجسدية، وغفتْ عيني.

وعلى غير استعداد، وجدت "شوقية هانم"، ويبدو أن الشوق قد أتى بها إليَّ وألقاها على السرير مستمتعةً بحكِّ جسدها بجسدي، كنت آنذاك في حالةٍ من الرعب، لو رآنا أحد الخدم سيبلغ زوجها "إحسان باشا".

كانت تعلم أنني أحظى بالقلق والخوف؛ فقالت لي بعد أن تمالت على جسدي بجسدها: "لا تقلق؛ فقد انصرف جميع الخدم، وإحسان باشا مشغولٌ في الديوان"، بدأت أطمئن، وجسدي يتبلل من عرقها الملهوف، واختلط شوقها بشغفي إلى أن تركنا الغرفة وخرجنا، بات الوضع يتكرر عدة مرات، ولا أعلم إن كان هذا حبًا أم مثولًا لرغبة؟!

كنا دائمًا نجلس في حديقة القصر....

وفجأةً سمعنا صوت مدافع، واشتد هبوب الريح، وانعقد الغبار، وأُظلمت الدنيا من دخان البارود، فقد علمنا أن الفرنسيين يقاتلون في "إمبابة" ضد جيش إبراهيم بك، وأدت هذه المعركة الدامية إلى هزيمة جيش المماليك؛ مما اضطر "إبراهيم بك" إلى الفرار إلى سوريا، ومن ثمّ جميع أعوانة فروا وراءه، خشية أن ينال منهم الفرنسيون، و"إحسان باشا" لاذ بالفرار وراء "إبراهيم بك"، دون حتى أن يصطحب زوجته "شوقية هانم" معه! الأمر الذي دعاها إلى أن تترك القصر، وتذهب للعيش في شارع شعبي عند إحدى خادماتها، وقالت لي: "عليك أن تأتي معي؛ فأنا أمتلك ثروةً تجعلنا نعيش ملوكًا"، لم يكن لديَّ اختيار آخر، وكنت لا أريد أن أرجع إلى النوم على الرصيف.

ذهبنا إلى "شارع كلوت بك" عند خادمتها، كانت تعيش بمفردها هي وثلاثة أولاد، كان الناس في هذا الشارع يتلصصون على النهار من فرج النوم الرجيم، ويفركون أعينهم بأوجاعهم، تحسبهم أيقاظًا وهم تائهون.

وبه نساء من كل لونٍ وجنسٍ، يقمن فيه، ويتشحن بالخلاخيل، والبنفسج، ويتزين بالكحل والإثمد.

 يرخين على صدورهن وبطونهن خصيلاتهن، والفم والشفتان اشتهاءات من لؤلؤٍ، يُتوجن بالأنوثة؛ الأنوثة المغموسة في وهج الماس.

عرضَت عليَّ "شوقية هانم" الزواج بها، بعد أن تأكدت أن "إحسان باشا" لن تقوم له صيحةٌ مجددًا في البلد، وقد مرَّ أكثر من ستة أشهر وهي لا تعلم عنه شيئًا، لكن جاء ردي بالرفض لكوني لا أمتلك أي أوراقٍ تُثبت هُويتي، وقد قلتُ لها من قبل إني من المغرب العربي، وهذا غير صحيح.

كانت "أم حميدة" أخت خادمة "شوقية هانم" كثيرًا ما تزور أختها، وكثيرًا ما تقوم بأعمالٍ مُريبةٍ تدعو إلى الشك، ودائمًا ما كانت تأخذها وتخرج، ويعُدن في الليل.

"شوقية هانم" لم تلاحظ هذا، لكني كنتُ متأكدًا أن وراءهن حدثًا مهمًا.

الأختان كانتا يذهبان إلى أحد البيوت القريبة منَّا، ويمكثان أكثر من ساعتين كل يوم، ومع مرور الوقت علمت أن هذا البيت أحد بيوت الدعارة المرخص، فصُدمت لهذا، خصوصًا أن خادمة "شوقية هانم" دائمًا كانت تصلي، وترفع يديها للدعاء.

لكن عند نزولي إلى الشارع علمتُ أنها وأختها يدعوهن الناس باسم "العايقة"، وكل فتاة يصطحبانها تُدعى "المقطورة"، كان الشارع بأَسْره يعلم أمرهم، وكان بعض بائعي الغلال والقمح ينظرون إليَّ نظرةً سيئةً، كوني أعيش معهم في البيت....

في شارع "كلوت بك" كل شيءٍ مُباح، ولهذا السبب كان الجنود الفرنسيون يأتونه لممارسة البغاء، والفاحشة.. الشارع عبارة عن مجموعةٍ من البيوت القديمة المتآكلة، وبعض الفنادق التي هي بالطبع مقرٌ لممارسة هذا الفعل، بالإضافة إلى بعض دكاكين العطارة وبيع الغلال، وبعض الحانات التي كانت أم حميدة وأختها يجلسان في إحداهن، لإيقاع الفتيات الصغيرات في فخ ممارسة البغاء بأجرٍ للضباط وأصحاب الأموال.

كنتُ أقف في شرفة البيت صباحًا، فرأيت "أم حميدة" وأختها خادمة "شوقية هانم"، يخرجان من إحدى الحانات، ومعهم فتاةٌ لا تتعدى الخامسة عشرة من العمر، ودخلن إحدى البيوت، وبعدها دخل بعض العساكر الفرنسيين، فأصابتني الريبة لرؤيتهم، وبعد فترةٍ رأيت تلك الفتاة تخرج من البيت مسرعةً، وهي تبكي وتصرخ، مما دفعني إلى النزول إلى الشارع، وإيقاف تلك الفتاة، وعرفتُ منها أنه حدثت مشاجرةٌ بين أحد الجنود والضابط أدت إلى قتل الثاني، وكانت هذه المشاجرة بسبب تلك الفتاة الصغيرة، فعندما رآها الجندي رفض أن يمارس معها الضابط الجنس؛ مما أدى إلى مشدات كلامية انتهت بقتل الضابط. كانت أم حميدة وأختها لا يعبآن بما حدث، فنزلا لاصطياد فتاةٍ أخرى، بعد أن وضعوا جثة الضابط بإحدى الدكاكين القديمة التي تآكل بابها!

وبعد فترةٍ قصيرةٍ، خرجت الأختان من حانة أخرى ومعهم فتاة صغيرة أخرى، لكن تشاء الأقدار أن الضابط لم يمت، وتحرَّك من الدكان، وأتى بقوةٍ من الجنود، ودخلوا البيت، وأمسكوا بكل من فيه، لكن تمكنت خادمة "شوقية هانم" من الفرار ورجعت إلى بيتها، ولم يمر أكثر من يومٍ إلا وقد تحولت شقة الخادمة إلى بيتٍ للدعارة؛ مما أزعج "شوقية هانم"، وقررت أن تترك البيت حفاظًا على نفسها.

كانت "شوقية هانم" متأكدةً أنني أُخفي شيئًا، لكن كونها كانت تحبني لم تضع لي العقدة في المنشار، واستمرت معي بكوني صديقًا، إلى حين أن ضاق بها المكان، بعد أن مالت الأفواه على الآذان همسًا، ثم ارتفع الهمس فصار حديثًا على شفاه ساكني الشارع، فقررتْ أن تشتري بيتًا في نفس الشارع، وعشنا بمفردنا إلى أن تزوجنا عرفيًا، وعشنا مدة سنة معًا، هي لا تعلم عنِّي أي شيءٍ سوى أنني من المغرب العربي.

في هذا الحين كانت أخبار تتردد في الشارع بأن "نابليون" رجع إلى فرنسا، وتولى مكانه القائد "كليبر"، وقد عقد الأخير اتفاقًا مع المماليك، وإبراهيم بك؛ فبهذا الاتفاق سيرجع إبراهيم بك إلى مصر؛ ومن ثمَّ سيعود إحسان باشا!

عند سمعنا هذه الأخبار ازداد القلق، خصوصًا لدى شوقية هانم.

فعلًا حدث ما كانت تخافه شوقية هانم، سمعت من خادمتها أن إحسان باشا يبحثُ عنها وعن الثروة التي تركها لها قبل مغادرة البلاد؛ مما أثار داخل شوقية هانم الرعب والفزع، واضطرها إلى بيع البيت، والذهاب إلى أهلها في الصالحية، لكن هذه المرة بمفردها، كانت تخشى عليَّ من إحسان باشا، وخشيت أن يعلم مدى العلاقة بينها وبيني.

أعطتني بعض النقود المصرية التي تكفي بضعة أيام، وذهبت هي إلى حال سبيلها.

أصبحتُ وحدي أتقاسم مع القطط أكلها، وأنام على الأرصفة؛ الأرصفة التي تآكلت من البارود، وأصبحت المدينة كلها مختبئةً تحت ركامٍ من الجُثث، والأرض واقفة بانتظار المواليد الميتة وغير الميتة، المحترقة وغير المحترقة، والطيور على أعتاب المدينة مصلوبة، وحدائق القهر متناثرة فوق البيوت وفي الشوارع، ولمَّا خشيت على نفسي العودة إلى ما كنتُ عليه، دخلت إحدى الخرابات المهجورة لأنام، كنتُ قد تبددتُ ووهنتُ، دخلت الخرابة المليئة بالخنازير المتعفنة ونمت  كالقتيل، لكن ما لبثتُ إلا صرختُ مسرعًا فالتقطني رجلٌ عجوز، وبعد أن هدأت حكيتُ له ما رأيت، ولا أعلم أن ما رأيته حلم أو حقيقة!

كنتُ قد انحرفتُ يسارًا، وغُشيَ عليَّ، ورأيت دمي سائلًا فوق صدري، ونارًا حولي كالمُهْل يشوي القلب، فأدلجتُ في الليل، وكنتُ أسير في الأرض مسيرة يومٍ وليلة، وعندما لم أجد أحدًا يكلمني أو يواسيني؛ تعريتُ بنفسي وخلوتُ إلى شياطيني، وجلستُ تحت ظل شمسٍ حمئةٍ؛ فإذا بي أصرخ وأصرخ إلى أن رميتُ نفسي في البحر، فوجدتني أغرق في بحرٍ لجيٍّ، تضربني الأمواج وتتقاتل عليَّ أسماك القرش نهمةً، فأسررتُ الفجيعة وخبَّأتها داخلي ونمت، وسمعتُ صوتًا يقول  لي: "كيف تنام، وأنت غريقٌ يغشاك الموج، وتضربك العواصف؟! تعالَ معي"؛ فإذا بسحابةٍ بيضاء تظلل المكان وتعتمه، فأخذتُ أسير ذات اليمين وذات الشِمال لعلي أجد مخرجًا، فاستويتُ قاعدًا تحت شجرةٍ وحيدةٍ، طولها سبعون ألف ذراعٍ، وبها أوراق تخرج منها رؤوسٌ كرؤوس الشياطين، فأخذتُ أصرخ، وأدقُ على جذعها فخرج منها شرَرٌ أحمر يلتوي كالماردة، وسقاني نقيع الوجع، فاحتميتُ بالخوف من الخوف.

هذا هو الحلم يا شيخ، فقال لي:

- لا تخف يا ابني، هذا حلم، لكن يبدو أنك غريب، ولست من أهل هذه البلد!

- أنا -يا شيخنا- غريب؛ لستُ من هنا، لكنني أريد مكانًا أبيت فيه إلى الصباح.

- تعالَ معي -يا ابني-، فذهبنا إلى بيته، ونمتُ عنده إلى شروق الشمس، وخرجتُ بعدها، لكنه ألحق بي، وقال تعالَ معي.

 ذهبنا إلى بنسيون "كلوت بك" في "شارع كلوت بك"، دخلت معه البنسيون، وكان الشيخ يعرف صاحبه الخواجة "بريان".

كان الخواجة "بريان" صاحب البنسيون رجلًا طيبًا، يعيش في البنسيون مع زبائنه، كأنه واحدٌ منهم، وبعد أن علم مَن أنا قرر أن يساعدني، كان رجلًا متفهِّمًا لوضعي، فمن الواضح أنه مسالم.

تركني الخواجة "بريان" وحدي في غرفتي، التي أعدَّها لي بعد أن ذكَّرني في كلمات قصيرة عن المزايا التي يتمتع بها بنسيون "كلوت بك".

توقفتُ منتصب القامة أمام المرآة، وسط هذه الحجرة التي سأسكنها؛ كانت الغرفة رمادية اللون، وكانت تمتلئ برائحة الأتربة. رأيت مقعدين ضمَّ أحدهما بعضًا من الكتب القديمة، والآخر ألقيت نفسي متهالكًا عليه، فشعرت بالهدوء والسكينة، فلقد كان اليوم مضنيًا؛ فالتعب الذي نلته جراء ما حدث لي كان كفيلًا أن يُجلسني بهذه الغرفة أيامًا وأيامًا، وفجأةً انتفضتُ غير مترددٍ من على الكرسي، ودقات قلبي تبدو كأنها خفقات أجنحة الطير.. ما هذا الصوت؟! نظرتُ من الشباك فثمة خناقات كثيرة في الشارع، وبحركةٍ لا إراديةٍ رفعت يدي المرتعشة ببطءٍ لأضعها على قلبي، وأخذتُ أفكر بغير رويَّةٍ كالمجنون؛ أفكر في كل ما مضى، وما فعلتُه بنفسي، وتمنيت أن يحدث لي شيء سرمدي، شيء غير مألوف يُخرجني من حياتي التي لا أعرف كيف ستمر؟!

كل الناس الذين في البنسيون كانوا في حالهم؛ لا يحبون الكلام إلا قليلًا منهم.

كان أحدهم يُدعى "توفيق أفندي الشربيني"، رجل كبير في السن، وجهه عبارة عن مجموعةٍ من الألوان الزيتية والفحم، دخل عليَّ الغرفة دون استئذان، وقال لي: "أنا توفيق أفندي، أشهر رسام في العالم"، وأخذ يتحسس وجهي بيده، وتنهد ثم قال:

- أنت فرنسي، صحيح؟!

فقلتُ:

- لا.. لا، أنا من المغرب العربي.

فرفع حاجبيه لأعلى، وتبسم قائلًا:

- لا يهم، هل ستقيم معنا هنا دائمًا أم يومًا وتغادر؟

- أنا سأقيم معكم هنا، إذا لم يكن في ذلك مضايقة لحضرتك، يا توفيق أفندي.

- حسنًا، تعالَ معي إلى غرفتي.

دخلت غرفته، كانت أشبه بالمرسم؛ الحوائط عليها شخبطة، وملاءات السرير مُلطخة بالألوان، وكل شيء فيها فوضوي!

أحضَر لي بعض الكتب، ووضعها على الأرض، ثم قال:

- اقعد.

قال لي بعد أن قعدت على الكتب:

- أنت لم تسمع عني من قبل؟! أنا صاحب لوحة "الصرخة" التي سرقها منِّي "أدفارد مونش"، أكيد تعرفه.

- أنا -يا توفيق أفندي- لا أفهم في الرسم ولا اللوحات، فنظر إليَّ نظرةً هادئةً، وفجأةً صرخ في وجهي:

- اغرب عن وجهي، اخرج من غرفتي..

خرجتُ من الغرفة، وسمعته يكلم لوحاته، ويقول:

- حتى هذا... حتى هذا لا يعرفني، ناس جهلة!

وسمعت صوت خبط وتكسير في غرفته، فأسرعت ونزلت إلى الخواجة بريان، وقلت له ما حدث؛ فقال بعد أن تبسم:

- دعكَ منه، إنه مجنون!

فقلت في نفسي: "بداية جميلة جدًا! يبدو أنني سأرى العجب هنا! 

صعدتُ إلى غرفتي، فكان توفيق أفندي يجلس إلى باب غرفته ممسكًا فرشاة، يبدو أنه كان يرسم على الهواء، فقال لي بصوتٍ خافضٍ:

- لو سمحت، ممكن أن تمسك معي هذه؟

- ماذا أمسك معك؟

- هذه.. وأشار بيده إلى شيءٍ غير موجود!

أمسِكها جيدًا إلى حين أدخل أجلب أدوات الرسم..

فوضعتُ يدي كأني ممسكٌ بشيء، ودخل هو إلى الغرفة، ثم عاد ومعه الألوان، وأمسك منِّي الشيء الذي لا أعلم ما هو إلا أنه لا شيء سوى الفراغ.. ثم قال لي: - شكرًا، اذهب من أمامي!

فقلتُ في سريرتي: "رجل مجنون!"، ودخلت إلى غرفتي، ووجهي مليءٌ بالضحكات.

كان عليَّ الإقامة في البنسيون فترةً حتى أتمكن من الرجوع إلى بلادي، أو إيجاد عملٍ يعولني على العيش هنا.

 وعلى الرغم من طيبة أهل شارع "كلوت بك" فكلهم كانوا يخشون أن يتعاطفوا معي، لأنني غريبٌ عنهم.

الخواجة "بريان" رجل كبير في السن، عند دخول الليل يذهب للنوم، وأنا أظل في غرفتي لا أحدث إلا الحوائط والكراسي الخشبية، حتى القراءة التي أحبها أصبحتْ لا تُشغل فراغي، كنتُ أنتظر دخول النهار، واستيقاظ الخواجة كي أتحدث معه.

لقد ساءت حالتي وأنا أعيش وحيدًا؛ لا صديق أركن إليه ويؤنس وحدتي، تكتنفني أركان الغرفة التي أعيش فيها؛ تلك الغرفة التي يفِد إليها الكثيرون، ويتركونها كما جاؤوا إليها.

اليوم الثاني لوجودي في البنسيون، وكانت الشمس قد غابت، ولكن السماء لم تزل مصطبغةً بلون الشفق، حين نظرتُ من شباك الغرفة كان هناك سيدة ملثمة تختبئ في ثيابٍ فضفاضةٍ قد سترتها من قمة الرأس إلى أخمص القدم، فلا يبدو منها إلا عينان تنظران من البلكونة الخشبية التي أكلها السوس، وعشَّش عليها الجراد، وكانت تبدو من عينها أنها جميلة الطلعة، كان عم "إبراهيم" بائع البسبوسة واقفًا تحت البنسيون بعربته الخشبية، يحملق في تلك السيدة، ويبدو أنها تبادله النظرات، كان عم "إبراهيم" ينادي بصوتٍ عالٍ: "بسبوووسة"، وكان يقف معه رجلٌ ضخم الجثة، عريض الجبهة، أصلع، وعندما نادى عم "إبراهيم" بصوتٍ عالٍ على البسبوسة اختفت السيدة من وراء البلكونة، وبعد دقيقتين تقريبًا دخل الرجل الأصلع إلى منزل السيدة، كنتُ أُراقب هذا المشهد طيلة ساعةٍ كاملةٍ، وبعد أن خرج الرجل من البيت عادت السيدة مجددًا تحدق من وراء البلكونة، لم أشغل بالي كثيرًا إلى حين اليوم التالي حين سمعتُ عم "إبراهيم" ينادي على البسبوسة بصوتٍ عالٍ أسرعت ونظرتُ إلى الأسفل، كان يقف مع عم "إبراهيم" رجلٌ آخر يبدو عليه أنه من أصحاب الجاه والعزة، وبعد دقيقتين دخل الرجل البيت وخرج منه بعد ساعة، وحدث كذلك في اليوم الثالث والرابع، بدأت أشعر بشيءٍ غريب في هذا البيت، والسيدة الملثمة التي تقف خلف النافذة كل يوم؛ لا تقف إلا ساعة الغروب، ويتزامن هذا الوقت مع وقوف عم "إبراهيم"! وجرت هذه العادة يوميًا؛ كل يوم رجل مختلف يدخل البيت، ويخرج بعد فترة!

حتى سألتُ الخواجة "بريان" عن هذه السيدة، فقال:

- إنها زوجة "إبراهيم" بائع البسبوسة، وهي امرأةٌ سيئة السمعة، وزوجها كذلك!

- آآآه، فهمت لماذا ينادي على البسبوسة بصوتٍ عالٍ حتى تستعد زوجته!! يا لغبائي!

قلتُ في نفسي: "لا، لا بد أن آكل أنا أيضًا بسبوسةً!"؛ وقفت في الشباك، أشاور بيدي حتى انتبهت، وأشارت بأصابعها؛ أول مرةٍ بخمسة أصابع ثم بأربعة ثم بثلاثة أصابع، وفركت أصابع يدها الأخرى.. فهمتُ أنها تريد مالًا مقابل البسبوسة.. هه! 

هززت رأسي بالموافقة، وأنا لا أملك حتى ثمن رغيف عيش، نزلت من البنسيون ناويًا الذهاب إليها! لكن سرعان ما تراجعتُ، لم أطاوع نفسي في فعل هذا الشيء.

أخذتُ أجوب الطرقات متنقلًا من شارعٍ إلى آخر، الناس أمامي كالأغراب، وليس لهم عملٌ محددٌ مثلي، دخلت أحد المقاهي التي تبدو كغرفة الأموات، وطلبت من أحدهم كوب قهوة، (فكان الرجل الذي قابلته في الخرابة قد أعطاني بعض النقود البسيطة)، شربت القهوة، وعيني تدور في المكان، أتنقل ببصري بين الحاضرين، ومن وراء التكعيبة الأرابيسك رأيتُ فتاةً زيّنت وجهها بالأصباغ، واضعةً على صدرها المكشوف وشمًا! تتسلى بالنظرات التي يرميها المارة على هذا الوشم، وبدا لي من نظرتها أنها تعيرني شيئًا من الاهتمام! فهي تراني لا أنتظر أحدًا، وهي تبتسم بكل جسدها، وهذا ما يفعلنه كثيرٌ ممن رأيتهن في هذا الشارع، امتزج دخان السجائر مع بعض القهوة ونظرات تلك الفتاة، وفي الحال دعاها أحدهم: "صوفيا.. صوفيا"، -ولا أدري إن كان هذا اسمها حقًا- فذهبت إليه، وهي ترميني بنظراتها الحارقة؛ مما أصبغ على وجهي حُمرة الخجل! فتركت القهوة وذهبت إلى حال سبيلي، ومرت أمامي امرأةٌ أخرى، وبطريقةٍ لا إرادية تبعتها، كانت ترتدي ثوبًا يميل لونه إلى الزرقة الداكنة، وتضع على رأسها قبعةً كبيرةً زرقاء، كانت متميزةً بمشيتها المرتبكة، والثوب الذي ينحسر حول ساقيها الذي تُظهرهم بطريقةٍ بلهاء، وحذائها المكشوف.

وإذا قابلتني غيرها أنظر إليها مفترسًا.... وها هذه أخرى تكاد تنخلع من ملابسها الشفافة، تسير قريبةً منِّي، فتطلعت إليها وتخيلتها وهي عارية تمامًا، لها قدمان صغيرتان، لم أرَ مثلهما، وتتشحُ بوشاحٍ خفيفٍ وصغيرٍ، تسير مبطِئة كأنها تنتظر أحدًا! وتحت ظلها يكمن جسدٌ من نورٍ يشعُ، ثم اختفى في طيات الظلام، وكنت أفكر في خصلات شعرها اللامعة التي تنسدل من تحت قبعتها النحيفة.... ومن بعيد وقع نظري على الفتاة الأولى: أي التي تُدعَى "صوفيا" وهي مقبِلةٌ نحو تلك الفتاة ذات الشعر المنسدل، يبدو أنهن يعرفن بعضهما بعضًا. وجدت نفسي من جديد أسير بين الطرقات، تتخطفني نظرات النساء الجميلات في هذا الشارع.

رجعت البنسيون، وكان الناس يصطفون في الشارع، والخواجة ممسِكٌ بتوفيق أفندي يحاول تهدئته، وإبعاد عم "إبراهيم" بائع البسبوسة عنه، فكان عم "إبراهيم" قد طلب من توفيق أفندي رسم صورةٍ له وهو يبيع البسبوسة، فكان توفيق أفندي قد رسم الصورة، لكن وضع فوق رأس عم "إبراهيم" في الصورة قرنين! فغضب عم "إبراهيم" وتشاجر مع توفيق أفندي! فأخذتُ توفيق أفندي، وصعدنا إلى غرفتي.

وفي ليلةٍ من ليالي الصيف الحارة المُشبعة بالرطوبة اللزجة... كنتُ أفتح نافذتي على مصراعيها، وأستغرقُ في القراءة؛ لقد كانت المنطقة المحيطة بالبنسيون تعجُّ بالحشرات، فحين كان ينتصف الليل وتنطفئ الأنوار هنا وهناك كانت تملأ المكان حشراتٌ؛ مثل: الفراش والدبابير وقوارض الورق، تطير في مجموعات.

 وكان عليَّ التكيُّف مع هذه الحشرات، لكن ما لا أقدر عليه هو الاندماج مع الوحدة؛ تلك الوحدة القاتلة التي أصابتني بكافة أنواع الصلب والشنق، وكافة أنواع القهر المدونة، وغير المدونة.

ماذا أفعل الآن والغد وبعد الغد...؟!

رميتُ الكتاب من يدي، وأشعلتُ سيجارتي الوحيدة المتبقاة من العلبة التي اشتراها لي "بريان"، وخلعتُ قميصي المرقَّع البالي، وألقيته على الكرسي ذي ثلاثة أرجل، وأطللتُ من النافذةِ في محاولةٍ منّي للخروجِ من هذا الجو العطب، كان الناس في الشارع يتمايلون كأعجاز النخل الخاوية، كلٌّ مشغولٌ في همِّه، الأطفال تضحك وعلى وجوههم غشاوة الفقر، كل شيءٍ كان كئيبًا!

كل شيءٍ أسود.... كنتُ أرى ظلي في الشارع فأتحدث معه، وأوقات كثيرة كنا نلعب لعبة الحِجلة، وكنا نشرب الشاي معًا، ونتخانق ونهزر.

كان الشباك الوسيلة الوحيدة لي، التي أرى من خلالها أوجه أناس غير زبائن البنسيون، فكنتُ دائمًا أطيل النظر منه، وأسمع صوت البائعين الجوَّالة، وضاربي الودع وأصحاب المحال، والخمَّارات، وكنتُ كل صباح أنتظر بائعة اللبن والقشدة، وهي تجلس أمام البنسيون لتبيع للناس، كانت دائمًا تجلس على الرصيف المقابل رابطةً عباءتها السوداء حول خصرها، ومتدليةً ساقيها البيضاوين تحت الرصيف، وهما يلمعان كالفضة، وأنا أبتلعُ ريقي من أعلى الشباك وأظل محدقًا، حتى تنفض من بيعها وتنصرف.

كانت مسرحيةً، جميع أبطالها هؤلاء، والمتفرجون هم العارضون.

لم أجد ما يشغلني وقتها إلا الذهاب إلى غرفة توفيق أفندي، طرقتُ الباب، لكن يبدو أنه ليس بالغرفة، فتحت الباب ودخلت، وأخذت أتأمل رسوماته على الحوائط، يبدو أن هذا الرجل جِدٌّ موهوبٌ، على الرغم من أنه مجنون!

بعد فترةٍ دخل توفيق أفندي الغرفة، ويبدو أنه لم يرَني، وأخذ يبحث في الغرفة عن شيءٍ ما، وأنا أقول له:

- ممكن أن أساعدك في البحث عمَّا تريده؟

لم يرد لفترةٍ، حتى تحدث مع نفسه، وقال:

- لقد وضعته هنا، يا تُرى من أخذه؟!

فنظر إليَّ بعد أن شعر بوجودي، وقال:

- أنت مَن أخذته.. رده إليَّ.

- ماذا أخذتُ يا توفيق أفندي؟!

- أخذتَ غليوني، يا لص!

وتعلَّق برقبتي، فأسرعتُ خارج الغرفة وتركته، وهو ما زال يبحث عن غليونه.

وفجأةً ناداني بصوتٍ عالٍ:

- جان.. جان.. تعالَ.

دخلت إليه الغرفة، وبصوتٍ هامسٍ قال لي بعد أن أعطاني ورقةً مكتوبًا فيها:

"هذه وصيتي أنا توفيق أفندي الشربيني، أشهر فنان في العالم، أكتب وصيتي هذه وأنا في كامل قواي المُخيَّة والعقلية والفنية، أما بعد...

في حالة مماتي أو قتلي -وأقصد قتلي لأن لي أعداء ومنافسين كثيرين- تُباع جميع لوحاتي القيمة وبثمنها، ورجاءً إعطاء عم "إبراهيم" بائع البسبوسة ثلاثة جنيهات مقابل ثلاث مرات استضافتني فيهم زوجته الشريفة دون علمه -والله ستار حليم-، واثنان جنيه وربع تُعطى للخواجة "بريان" ليشتري نبيذًا نظيفًا بدل المغشوش الذي يبيعه -والله غفور رحيم-، وثلاثة جنيهات آخرون تُعطى لكلٍ من: "ماريا، وهند، وصوفيا"، موزعين بالتساوي بينهن لشراء أطقم داخلية -والله ستار حليم-، وجنيه واحد يُعطى لزينب بائعة اللبن والقشطة مقابل بحلقتي في رجليها البيضاء -والله غفار للذنوب-، واثنان من الجنيهات للسيدة "أم سنية" التي تسكن في الدور الثالث للبيت المقابل للبنسيون، وذلك مقابل سرقتي مشابك غسيلها -والله غفار للذنوب-، والمتبقَّى من الإرث يُشترى به أكلٌ لإطعام قطط الشارع الضالَّة -والله المعوض المخلف-، وبالنسبة لغليوني وساعتي البومرسية، فيأخذهما "جان" ذلك العبيط الذي يقطن بالغرفة المجاورة لي -والله يسامحنا جميعًا-، وبذلك أكون وفيْتُ حق كل إنسانٍ يعرفني، أما بالنسبة لملابسي، فبرجاء إرسالها إلى المتحف المصري تبرعًا له، كي يتهافت الزوار ليروها، والله شاهدٌ على كل إنسان، ولكم تحيتي جميعًا...".

إمضاء: توفيق أفندي الشربيني، الفنان العظيم... وشكرًا.

تركتُه وتركتُ الورقة، وذهبت إلى غرفتي وأعصابي تكاد تنهار من شدة الضحك.

كان من ضمن قاطني البنسيون ثلاث فتيات، كانت إحداهن تُدعى "ماريا"؛ تلك هي الفتاة ذات الشعر المنسدل، التي رأيتها حين كنتُ أتمشَّى، ولا أعلم إن كان هذا اسمها الحقيقي أم لا! لحسن حظي أنني أحظى برفقتها في البنسيون.

كان يفصلني عن غرفتها حائطٌ رقيق البنية، مليء بالتشققات.

عندما تتحدث -ولو بصوتٍ خافت- أسمعها جيدًا، وأسمع كل ما يدور بالغرفة، ودائمًا كنتُ أسمع ضحكاتِها الرنانة فتثير داخلي، كانت غرفتها أشبه بالمبولة! الداخل فيها أكثر من الخارج، وكلهم من الباشوات، وأصحاب الجاه، والأغنياء.

أكثر من مرة كنت أحاول التحدث معها، لكنها كانت دائمًا تصدني، وذلك لملابسي التي لم أبدلها لأكثر من أسبوع، وشكلي الأشبه بالمتسولين!

كانت عمليةً جدًا؛ الدقيقة محسوبةٌ عندها بالمال، في إحدى المرات وأنا أجلس على عتبة غرفتي كان باب غرفتها مواربًا، فرأيتها تتحسس باحثةً عن شيءٍ في الغرفة، وقد كان الظلام حلَّ على البنسيون، فشاهدتُ نورًا يخرج من بين أصابعها، كانت ممسكةً بعود ثقاب، فوضحت صورتها شيئًا فشيئًا، وبزغ بياض يديها الماستين، وجبينها ورقبتها، وبدا لي جسمها عاريًا كسحابةٍ متعددة الأشكال؛ كانت هذه الفتاة تروح وتجيء في الغرفة، أسمع حفيف خُطْواتها فتزيد من تأجج نار الشوق داخلي، حاولتُ بكل الطرق أن ألفت نظرها لكن لم يُجدِ نفعًا!

كان التمثال الذهب الذي أعطاه لي القائد هديةً لا يفارقني، لو تمكنتُ من بيعه فيمكنني العيش في هذه البلد كأحد الملوك، لكن كنتُ أخشى لو عرضته للبيع أُتهم بسرقته، ناهيك عن أنني لا أعرف أحدًا هنا؛ فنسيتُ أمره لفترةٍ حتى أجد من يشتريه.

كانت صوفيا إحدى صديقات ماريا؛ تلك التي تعرفني، وكانت قد أدامت النظر لي حين كنت أجلس في المقهى.

"يا لها من صدفةٍ جميلةٍ!"

دائمًا ما كانت تعطف عليَّ بنظراتها المليئة بالشهوة الخالصة، لكنها كانت تحظى بجمالٍ أقل من مثيلتها ماريا، وهذا ما جعلني أعاملها بغلظةٍ، على الرغم من طيبتها معي فهي أيضًا كانت تعلم أن الطريق بين الروح والجسد طويلة جدًا ومحفوفة بالآلام؛ لذا كان عليها أن تقطعها رغم كل ما يعترضها، في حين كانت ماريا الجميلة تضع جسدها تحت أول عابر سبيلٍ، وتصنع من جسدها أحذيةً تناسب جميع المقاسات لتقف أمام أول نافذةٍ مفتوحةٍ من نوافذ المال الواسعة، مثل راقصةٍ تنهي دور رقصها بسرعةٍ لتلحق بنافذةٍ أخرى

وفي هذا العالم القاسي الذي يخلو من الحب، أو ما يسمى بالحب إذا وُجِد فيه يكون بطابع المعاناة الناجمة عن اختراق المُحرَّم في الجانب الأكبر منها.

الخواجة "بريان" كان دائمًا يقول لي إن تلك الفتيات هن سبب إقبال الناس إلى البنسيون؛ وهذا ما دفعه لأن يتغاضى عن كل أفعالهن!

حاولت بكل الطرائق الاقتراب من "ماريا" حتى تمكنتُ من ذلك حين علمت أنني أمتلك تمثالًا ذهبيًا أنوي بيعه، وسوف أصبح غنيًا؛ ومن قبل كنتُ قد قلتُ للخواجة "بريان" عن موضوع التمثال، وكيف امتلكته، وحكيت له قصتي منذ دخولي المحروسة، وأنا كنتُ أقصد أن أُعرِّفه أمر التمثال حتى أتمكن من بيعه لأحد معارفه، ولأني أعرف أن "ماريا" قريبة من الخواجة، فبالضرورة سيخبرها عنِّي وعن التمثال.

عندما علمت ماريا أمر التمثال تبدَّلت معي، وأصبحتُ في نظرها غنيًا وأمتلك ثروةً، مما دفعها إلى الاقتراب منِّي، على عكس ما مضى! وكانت تحاول ألا تخرج من غرفتها، طالما أنا أمكث في غرفتي، وبدا بيننا ما هو أشبه بالحرب الباردة؛ هي تقترب كما أنا أريد، وأنا أقترب لكن بمقدار، وكانت "صوفيا" تلك الأقل جمالًا منها دائمًا ما تحاول تشويه صورة "ماريا" أمامي، على الرغم من أنهما تربطهما صداقة، أقصد صداقة عمل! فأحيانًا تقول لي إن ماريا تتحدث عنك بطريقةٍ سيئةٍ، وإنها تريدك أن ترحل من البنسيون، لأن ملابسك دائمًا رثَّة، وشكلك كالمجانين.

بدأت أشك أن "صوفيا" تحبني؛ عندما رأيتها ذات صباحٍ في صالة البنسيون، وطلبت منِّي أن أجالسها، ونشرب بعض النبيذ المتعفن المليء بمياه اللفت الذي يبيعه الخواجة "بريان"!

جلستُ معها وتحدثنا، وكما لو كانت تلقي نظراتها عليَّ ككلمات الأشعار الرومانسية، وهي تنزل بأقمارٍ هابطةٍ قرب عباءات الظلمة، تحاول أن تلتف حولي، تكاشفني وأكاشفها.

- أنت تعرف -يا جان- أنك تشبه حبيبي الأول؛ حبيبي الذي تركني بعد أفقدني عذريتي.

- حبيبك كان سيئ الطلعة مثلي؟!

- ومن قال إنك سيئ الطلعة! أنت تحتاج فقط لأن تهتم بنفسك قليلًا.

- شكرًا -يا صوفيا-، أعدُكِ أنني سأهتم بنفسي، لكن ممكن تحدثينني عنكِ؟

- أنا صوفيا، أبي يعمل حارسًا ليليًا في إحدى الحانات، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، غير أنه يعرف بعض الكلمات الأجنبية التي يسمعها من الزبائن، كان صعب الطباع، وعنيفًا، وكثيرًا ما يتخاصم مع أمي، ويقلب علينا البيت، لم نكن لنرتاح أبدًا، ولم أكن أهتم بعملي في إحدى دكاكين بيع الغلال، وطُرِدتُ من العمل، وبعدها ذهبتُ لأتعلم الخياطة والأشغال اليدوية، كنتُ أرى أمي تعاني من العذاب والتعب، كانت امرأةً طيبةً جدًا، لا تفوه بالسوء وتكتفي بالبكاء، عندما وضعت أخي الصغير ضربها أبي في فترة النفاس، فأُصيبت بمرضٍ كادت تفقد جراءه حياتها، ولم يعد هناك من يعتني بالبيت، ولذلك اضطررتُ إلى البحث عن عملٍ إضافيٍّ لأزود دخْلي؛ فساقتني الصدفة إلى أن أقع بين يدي ماريا، وهي من أغوتني ورشدتني إلى هذا الطريق.

- لكن -يا صوفيا- يمكنك العدول عن هذا الطريق.

- حاولت كثيرًا -يا جان- وفي الأيام الأخيرة بدأت أخاف، وشرعت في توفير المال لمواجهة الظروف، لقد مللتُ فعلًا من هذه الحياة، ولكنني حين أرى عذاب أمي وإخوتي -خصوصًا البنات- أقول في نفسي: إن التضحية من أجلهم أفضل من تحمُّل عذابهم.

ممكن أطلب منك أن تأتي معي إلى السوق؟

- لماذا؟!

- أريدك أن تأتي معي فحسب، ولا أريد أن يعلم أحدٌ بذلك، وخصوصًا ماريا.

- حسنًا، عندما أشعر أنني بحاجةٍ إلى الخروج سآتي معكِ.

- لا، اليوم، في الليل سنذهب إلى السوق، سأنتظرك بعد ربع ساعةٍ، في ناصية الشارع.

قابلتُ "صوفيا"، وذهبنا إلى مكانٍ يكثر فيه بيع الملابس، ودخلنا أحد الممرات الضيقة، وطلبت منِّي الصعود معها إلى إحدى الشقق، كان هناك رجلٌ يصنع الملابس الرجالي، فطلبتْ منه صنع بعض الملابس لي، وأعطته مبلغًا كبيرًا من المال، وقالت له إنها تريد الملابس غدًا، على أكثر وقت.

ورجعنا إلى البنسيون في حين كانت ماريا تطلُ من غرفتها، وقد رأتنا معًا؛ مما أثار داخلها الغضب.

قالت لصوفيا، وكانت تقصد أن تُسمِعني:

- ثروت باشا أتى وسأل عنكِ، وسيأتي بالليل ليسهر معكِ في الغرفة.

ردت صوفيا:

- ولِمَ لا يسهر معكِ أنتِ؟! لقد كففتُ عن السهر مع الأغراب.

- كففتِ عن السهر! وكيف ستعيشين؟! أستبيعين غزل البنات، ههه؟!

- لا يا ماريا، أنا أريد أن أبتعد عن هذه الطريق المُحرَّمة.

- ههه.. عرَفتِ الآن أنه مُحرَّم بعد ما ادخرتِ منه المال أم حبيب القلب علَّمكِ التوبة؟!

- أنا ليس لدي حبيب، وأنتِ -يا ماريا- تعرفين هذا!

- نعم.. صحيح، بدليل أنك وافقة بجانبه، تخافين عليه أن يتوه منكِ!

بعد سماع هذا الكلام كان عليَّ التدخل للإصلاح بينهم؛ فقلتُ لماريا:

- صوفيا كانت تشتري لي ملابس، لأنكِ تعلمين أني لا أعرف أحدًا هنا، ولا أمتلك أموالًا.

- لكن -يا جان- ألم أقل لكَ إنني سأعطيك مالًا لتشتري به ملابس، وطلبتُ من الخواجة "بريان" أن يذهب معكَ إلى الخياط ليحيك لك عددًا من البدلات؟

- أنتِ قلتِ هذا فعلًا، لكني ظننتكِ تمزحين.

- لا يهمك -يا جان- حصل خير، تعالَ معي إلى غرفتي.

 بعد أن دخلنا الغرفة بدأتُ أتساقط كوريقات التوت الأصفر إبان خريفٍ مجنونٍ تعرَّى قلبًا وجسدًا، وتطاير عقلًا، وها هي ريح الشهوة تخايلني ثم تهبُ، وأنا أشبه الكهل، والمراكب واقفة والريح مواتية، وعصافير الحلم تلملم أذيال النوم.

كانت غرفتها كما تخيلتها بالظبط؛ الشراشف البيضاء على السرير، والشموع الهادئة، والملابس الشفافة.

 قالت لي:

- أنا سمعتُ أن صديق الخواجة جاء، وطلب رؤية التمثال، لكنك لم تكن موجودًا بالبنسيون.

- نعم، كنتُ غير موجود؛ فكان -لسوء الحظ- بالبنسيون مجموعةٌ من الجنود الفرنسين جاؤوا لشرب الخمر والمتعة، وكنت أخشى أن يراني أحدٌ منهم فيعرفني، فاضطررتُ لترك البنسيون في ذلك اليوم، ومن شجعني على هذا الخواجة "بريان"، وقال لي إنه سوف يعطي ميعادًا آخر لصديقه ليرى التمثال.

- إنك تريد أن تبيع تمثالًا ذهبيًا معك، أنا أعرف أحدهم ممكن أن يشتريه منك بثمنٍ كبيرٍ، فأين التمثال؟

كانت تتحدث بعد أن خلعت جميع ملابسها، وأصبحت كالوردة البيضاء، وكان جسدها الشفيف أحق بالنظر إليه من الحديث عن التمثال، ظلت عيني تضرب كل نتوءات جسدها، الذي أصبح لي كجناتٍ أُعدَّت للجوعى الذين يشبهونني، وأبناء السبيل مثلي، والمسافة بيني وبينها اشتهاءات من الذهب الخالص، فكانت أرضًا بالغة الخضرة، وكنتُ أنا من آكلي الثمار، فتماثلنا كما خمائر اللبن الفجري، وشراشف الشهوة تغوص بيننا، وبدأنا الحديث...

 كانت صوفيا تستمع إلى كل حديثنا المسموع وغير المسموع؛ فحين خرجتُ من عند "ماريا" سمعتُ صوت نحيبها يضرب كلَّ غرف البنسيون، دخلتُ غرفتها وقلتُ لها:

- ما الذي يبكيكِ يا صوفيا؟!

لم ترد، وباتت تضربني بنظرات اللوم والعِتاب!

 قالت لي بعد طيلة لوم:

أنا أعرف "ماريا" جيدًا -يا جان- إياك أن تقع في حبها؛ فهي إنسانة جميلة الشكل فقط، لكنها كالحيات؛ احترس من لدغتها!

- أنا أعلم -يا صوفيا- أن "ماريا" كالحيات، لكن لماذا تقولين عنها ذلك، وأنتم أصدقاء؟! 

- نحن أصدقاء داخل البنسيون فقط، لكن هي التي أغرتني للسير في هذا الطريق، الذي أنت تعلمه جيدًا.

كانت "صوفيا" تتحدث بعفويةٍ؛ مما أظهر جمالها الداخلي؛ فكانت وقتها كالبدر الطالع، فكان اجتلاء الوقت بالوقت، وانفلاق الحَب عن النوى، واعترتني رعشةٌ في بدني، والمطر الدفاق من عينيها يهلُ ويغرق أجران الملح النابت فوق لساني، وحبات العنب الأخضر تتساقط من فمها؛ إذ تتكوم فوق أعشاش صدري، فألقى بطفولتي فوق صدرها.

كان اليوم مليئًا بالسعادة، كوني حظيتُ بخضراء الدمنِ "ماريا"، و"صوفيا" التي تعشقني.

قال لي الخواجة "بريان":

- لقد علمتُ أنك كنتَ عند ماريا، ليلة أمس بغرفتها.

- أنا أخشى عليك منها -يا جان- غير أنها عرفت موضوع التمثال.

- أعلم -يا خواجة- أنها علمت موضوع التمثال، لكن مَن أخبرها بذلك، أليس أنتَ؟!

- نعم.. للأسف، سامحني يا ابني.

- ولا يهمك يا خواجة، المهم أنني نلتُ ماريا، ههه.

- أنت صرتَ نمسًا -يا جان- المهم أنا كلمت صديقًا آخر لي، ويريد أن يرى التمثال.

- أنت واثق به يا خواجة؟

- طبعًا -يا جان- هذا صديقي، وسيأتي إلينا غدًا.

- على خير يا خواجة، أتمنى ألا يحدث شيءٌ آخر.

كان توفيق أفندي يجلس بجوارنا، وينظر إلى الأرض ممسكًا بعصًا صغيرة، يرسم بها على الأرض خطوطًا مستقيمةً أمام مجموعةٍ من النمل، ويحاول تنظيم صفوفهم، ويضحك ضحكاتٍ عاليةً، ويقول: "ها هو العبيط"!

 دخلتُ غرفتي، وفكرتُ فيما دار بيني وبين ماريا، وصوفيا، وكانت المفاجأة أن صوفيا عاملتني بإحساس كما لو كنا نحب بعضنا بعضًا، بينما كانت الجميلة ماريا تؤدي عملًا لكن باحترافية!

 أصبحت صوفيا فيما بعد هي المُقربة لديَّ، مما جعل ماريا يشتدُ بها الغيظ، وبدأت تهددني بموضوع التمثال، وأنها ستبلغ السلطات المصرية، خصوصًا أنها كانت تشكُ دائمًا في أنني غير مصري!

كانت أيامي أشبه بالأرجوحة، وأنا أتفتت كالنباتات، وأتفحم كالصراصير، وأراود نفسي وأسألها: أرجع إلى بلادي، وأواجه مصيري أم أستمر هنا؛ أتنقل فوق شواطئ الماء الرائق وغير الرائق؟!

كانت تأخذني الفكرة إلى الفكرة...!

اليوم التالي باكرًا، ودون استعداد، دخلت "هند" الصديقة الثانية لماريا، وكالعادة كانت تحمل معها أكوابًا من فضة، وقوارير من ذهب خلاب للأبصار، وأخَّاذ للأنظار، وقطفات من ريح جسدها النفاذ، وضخت شمس العشق أشعتها، فهي امرأةٌ تعرف سر أنوثتها، جاءت تضحك وتلملم ملاءتها البيضاء حولها، وها هي ريحٌ من حنطتها تأتي وتهبُ فيتطاير غطائي الوحيد من فوقي، وأنهض وأدخل مسكنها الصيفي البارد، وأنفجر من خلف تلال السحب الداكنة، وفاضت كأس السكرة من شفتي وانشقت أرضي، وطاوعت شيطاني، فكنا كما كنتُ مع من قبلها.

 لُمتُ نفسي كثيرًا حتى كدتُ أترك البنسيون؛ فكل شيء فيه أصبح يجرني إلى الفحشاء.

قال لي الخواجة "بريان" -الذي كان يعاملني كابنه-:

- أنا أخشى عليك من تلك الملاعين، الأفضل لك أن تبتعد عنهن، وتفكر في مستقبلك، وتقرر إن كنتَ ستبقى هنا أم سترجع إلى بلادك.

 - لكن -يا خواجة- لو رجعت بلادي لن يتركوني، وأنت تعلم هذا؛ فهذا أمر عسكري واجب النفاذ، وأنا متأكد

 أنني لو عدتُ سيعلمون، وبعدها سأُعدَم، لكني أفكر أن أمكث هنا فترةً، وبعدها سأذهب إلى المغرب العربي عند أخوالي.

- مثلما تريد -يا ابني- لكن انتبه لهؤلاء الملاعين.

اليوم التالي، كنتُ أجلس في صالة البنسيون أنا والخواجة، وجاءنا صديق الخواجة وطلب رؤية التمثال؛ فاستأذنتُ من الخواجة وذهبتُ إلى غرفتي؛ حيث مكان التمثال، وإذ بي:

 "التمثال.. التمثال يا خواجة، التمثال ليس موجودًا!!". وصرخت كالمجانين، وكل زبائن البنسيون التفوا حولي، فأمسكني الخواجة وصديقه، وصعدنا إلى الغرفة، بحثنا كثيرًا فلم نجده، يبدو أنه سُرِق!

أنا عارف حظي يا خواجة! أنا فاشل، التمثال ضاع، وحياتي كلها أصبحت بلا هدف، حتى الرجوع إلى بلادي لا يمكن الآن.

- انتظر -يا جان- نبحث عنه مرةً أخرى.

- لا يا خواجة، أنا متأكد أنني كنتُ أخبئه هنا وراء شباك الغرفة، ولا أحد يعلم مكانه غيري، فكيف اختفى؟!

- اصبر -يا جان- سنجده، استرح أنت الآن، وبعدها سنبحث عنه ثانيةً.

خرج الخواجة وصديقه، وبقيت أنا أبحث في الغرفة كلها، لكن دون جدوى.

 فجأةً دخلت صوفيا الغرفة مُسرعةً، وكانت الصدمة حين قالت لي:

- ماريا، وهند ليسا لهما أثر في البنسيون، ولا لجميع أغراضهم وجود في الغرف!

تيقنتُ وقتها أن التمثال قد سُرِق!

فقلتُ لصوفيا:

- التمثال سرقته ماريا وصديقتها هند!

فقالت:

- أي تمثال؟!

فحكيت لها عنه.

- أنا كنتُ متأكدةً أن ماريا من ليلة أمس تنوي فعل شيء، لكن لا تقلق، سأحاول إرجاعه، أنا أعلم كل شيء عن ماريا، وأعلم جميع أماكن وجودها؛ لا تقلق.

كنتُ قد شككتُ أن صوفيا هي مَن سرقت التمثال، وهي التي سوف تعيده، وبعدها ستكون أدَّت لي خدمةً فيكون زواجي منها المقابل، لكن خاب ظني، فصوفيا لم تسرق التمثال!

علمتُ هذا في اليوم التالي عندما حضرت ماريا البنسيون، وهي تصرخ وتقول:

- سرقتني صوفيا، سرقتني صوفيا.

فسألها الخواجة:

- وما الذي سرقته صوفيا؟!

فقالت:

- التمثال الذهبي الذي أخذته لأبيعه، وأردَّ ثمنه إلى جان.

فقال لها الخواجة:

- أنتِ من سرقتِ التمثال.

- أنا لم أسرق! أنا أخذته لبيعه، وإرجاع ماله إلى جان.

- ولماذا تأخذين شيئًا ليس ملكًا لكِ، دون إذن صاحبه؟ 

- ألم تخبرني –يا خواجة- أن جان ينوي بيع التمثال؟!

- نعم يا ماريا، لكن لم أقل لكِ اسرقيه! أنتِ يا ماريا ليس لكِ أمان، من فضلك لا تأتي إلى هنا مرةً أخرى.

-  أنسيتَ نفسك –يا خواجة-؟! لو غادرت هذا المكان سيحدث لك ما لا تتوقعه!

- ماذا سيحدث؟! ستغلقين البنسيون؟! ههه!!

- أنت حر -يا خواجة- اجعل صوفيا تجلب لك الزبائن.

كنتُ أقف متلجمًا؛ لا أستطيع الكلام.

 تارةً أفكر في صوفيا والتمثال الذي معها، وتارةً أفكر في الخواجة وما حلَّ به منذ أن أتيت البنسيون، فأنا أعلم جيدًا أن ماريا هي التي تصطحب الزبائن الأغنياء إلى البنسيون، وبتركها البنسيون سينعم الخواجة بالفقر المدقع، لكن أنا سأعوضه عند بيعي التمثال.

أين التمثال؟! صوفيا من ليلة أمس لا وجود لها، يمكن أن تكون قد طمعت فيه وهربت؟! لا.. لا، صوفيا على الرغم من أنها فتاة ليل فإنها تحبني، ولا يمكن أن تهرب..

بعد خروج ماريا جلس الخواجة على كرسيه ينظر إلى السقف، لا يريد التحدث إلى أحدٍ حتى أنا، مما جعلني ألقي اللوم على نفسي، لكني لا أقصد فعل أي شيءٍ يضره.

استدار الخواجة وبرم شنبه الأبيض، ولبس قبعته السوداء، وقال لي:

- أنا أعلم أنك تلوم نفسك الآن، لكن لا عليك، هذا ليس نهاية المطاف، كثيرًا حدث لي وكعات، وبعدها أصبح أفضل، لكن علينا الآن البحث عن صوفيا.

- أنا صوفيا.. هل هناك أحد يسأل عني؟!

دخت صوفيا البنسيون، لم أصدق أن صوفيا أتت، ولا الخواجة كان مصدقًا!

- صوفيا، سامحيني، لأني ظننتُ بكِ سوءًا.

- لا عليك -يا جان-، المهم ماذا فعلتم مع ماريا؟!

 فقال الخواجة:

- طردتُها من البنسيون.

تبسمت صوفيا، ونظرت إليَّ ثم مدًّت يديها وأعطتني التمثال، أخذت منها التمثال واحتضنته وشكرتها.

فقال الخواجة لها:

أنتِ اليوم من المقربين إليَّ.

 ذهبتُ بعدها إلى غرفتي لأخبئ التمثال، وأخبرت الخواجة أنني سأترك البنسيون!

- لماذا -يا جان- تريد ترك البنسيون؟

- أنا -يا خواجة- لا أعلم رد فعل ماريا الآن، لكنني متأكد أنها ستنتقم منِّي؛ فمن الممكن أن تبلغ السلطات عنّي، وتحكي لهم أمر التمثال، وأنت تعلم -يا خواجة- أنني مطالبٌ من جهة الفرنسيين، ومن الممكن أن يحضر أحد الضباط هنا مع السلطات المصرية وبعدها.... فالأفضل لي أن أرحل.

- لا -يا جان- لن ترحل، أنا أعرف ماريا جيدًا، بعد قليلٍ ستأتي، لا تقلق، وفكِّر في أمر التمثال فقط.

 - لا -يا خواجة- سنترك أمر التمثال فترةً لحين ترتيب بيعةٍ جيدةٍ له، لأن كلما ننوي بيعه تحدث كارثة! فالأفضل أن نصبر بعض الوقت.

- معك حق يا جان....

 فجأةً دخل بعض الجنود الفرنسيين صالة البنسيون، وأخذوا يلفون حول الخواجة، وأنا أضع يدي على وجهي خشية أن يعرفني أحدهم.

وقال أحدهم:

- أين ماريا؟

فقال الخواجة:

- تزور أهلها، وسترجع بعد أسبوعٍ.

وأشار إليَّ أن أخرج إلى الشارع.

خرجتُ من البنسيون أتجول في الشوارع إلى حين خروج الجنود من البنسيون، كانت صوفيا قد سبقتني فجلسنا في أحد محلات الخمرة، وشربنا بعضًا منها، وقالت لي:

- أنا أعلم أنني لست جميلةً كجمال ماريا، وأعلم أنني في نظرك فتاة متعة لا أكثر، لكن لك أن تعطيني فرصة أن أكون صالحة، ممكن أن تتزوجني، وأنا أعدك ألا أكون إلا لك.

 - أنتِ جميلة يا صوفيا، وألف واحد يتمناكِ، لكنكِ لا تعلمين شيئًا عن ظروفي، ولا تعرفين مَن أكون.

- لا يهمني -يا جان- أنا أريد أن أتخلص من حياتي التي ليس لها معنى، فأنا أصبحتُ أكره نفسي.

كانت تقول هذا، وهي ترتعشُ كقصبةٍ في الريح، وتتذبذب كالقشَّة تحت مراوح الندم.

 فقلتُ لها:

- اعتبريني أخًا لكِ، وأنا أعدكِ أن أعطيكِ بعض الأموال التي تعينك على العيش بشرف، انتظري حتى أبيع التمثال فقط.

- سأحاول، علينا الذهاب إلى الخواجة، فالجنود خرجوا، لكن لماذا كلما دخلت الجنود البنسيون تخرج أنت كما لو أنهم أعداؤك؟! أتخبئ عني شيئًا؟!

 - لا، لكني لا أحب الجنود الفرنسيين!

- لا تحب الجنود الفرنسين وأنت واحدٌ منهم يا جان؟!

- واحد منهم!!

هكذا رددت، وكاد ينخلع قلبي من مكانه.

- نعم يا جان، أنت واحدٌ منهم، لقد سمعتك عند مجيئك إلى هنا، وأنت تتحدث مع الخواجة، لكن لا تقلق فأنا لن أبوح بما سمعته إلى أحد.  

بعد أن دخلتُ البنسيون، وقد علمت أن صوفيا عرَفت حقيقتي؛ كان عليَّ أن أحاول الخروج من البنسيون نهائيًا، حتى لا أعيش أيامي القادمة في قلق.

أخذت ألف سيجارةً، وأشرب بعض النبيذ المغشوش، حتى أتمكن من الخروج من جنس العادات المكرورة إلى جنس الليل المكرور، وأسبح فوق سخونة القمر، وأنظر إلى سماء الليل وأُملئ رئتيَّ من هواء الشارع الملوَّث، جلستُ فوق كُوَّة الشباك، ومددتُ رجلي عن آخرها، وأنا لا أترك سيجارتي من يدي حتى غلبني النوم فخلوت إلى شياطيني، وتوكأت على سلالم الفراغ، وصعدتُ إلى حصى الشهوة، وتسكعتُ على شواطئ الحلم الخربة، واستسلمتُ لغواية المادة، وزغب الأنوثة الأخَّاذ، واختيلتُ بماريا؛ تلك الأخاذة المأخوذة بالرغبة، وسألتها:

- لماذا تجّمع العالم بأسْره بين نهديكِ كالياقوتة؟! ولماذا تقوم المدن اللامرئية على خط مشيتك المرجانية، وحنطة بطنك الماسية؟! ولماذا تتوزع الغابات على جسدكِ بانتظام؟!

فجأةً سمعتُ صوت صراخٍ من غرفة صوفيا، فأسرعتُ ودخلتُ عليها، وجدتها تغوص في بحيرةٍ من الدم، أسرعتُ وأبلغتُ الخواجة، فتوجه معي مسرعًا إلى الغرفة، وتركني وذهب ثم عاد ومعه أحد رجال الحكيم باشا، ففحصها هذا الرجل ثم قال لنا:

- هي بخير، لكنها تحتاج إلى عنايةٍ بعد أن يطيب جرحها.

ظللتُ معها بغرفتها، حتى طابت، وقالت لي:

- إنها ملَّت من حياتها، وحاولت الانتحار!

- الانتحار ليس حلًا؛ حاولي أن تغيري من حياتكِ.

- لا جديد في حياتي، فهي بلا معنى.

- حاولي -يا صوفيا- أن تجدي عملًا آخر غير الذي تعملينه، فمن الممكن أن يغير حياتكِ.

كنتُ أقول لها هذا الكلام، وأنا أعلم أنها لن تصغي إليه، لكن كنتُ أحاول...

مرت أيام وأيام، وأنا كما أنا؛ في الصباح مع الخواجة، وبالليل مع الحشرات، كانت في البنسيون غرفةٌ مغلقةٌ منذ أن أتيتُ إلى البنسيون، ولم تأتِ فرصةٌ لأسأل الخواجة عنها، على الرغم من أن الخواجة كان دائمًا يقول للزبائن لا يوجد غرفٌ فارغةٌ، فنزلتُ إلى الخواجة، وسألته عن هذه الغرفة، فقال:

- إنها محجوزةٌ لأحد أقاربه، يسكن فيها هو وزوجته، لكنهما الآن مسافرون، وقبل سفرهم وعدتهم ألا يسكنها أحدٌ غيرهم، بعد أن دفعوا لي أجر سنةٍ كاملةٍ، وهما الآن على وصول قبل نهاية الشهر.

طلبتُ من الخواجة أن أذهب إلى بيت ماريا، وأحاول إرجاعها إلى البنسيون، فقال لي:

- أنت تحبها -يا جان-رغم كل ما فعلتْه معك..

لم أرد على الخواجة، وذهبنا إلى بيتها وقابلناها، وأصغتْ إلى كلامي، ورجعت البنسيون مُجددًا؛ الأمر الذي أفرح الخواجة، كونها كانت ضلع الربح عنده.

 بعد رجوع ماريا وبعدما علمت بأمر محاولة انتحار صوفيا، قالت للخواجة:

- سوف أبيت مع صوفيا في غرفتها بضعة أيام، حتى تتمكن من استعادة حياتها كما كانت....

 قبل نهاية الشهر جاء الخواجة "بنيامين" قريب الخواجة بريان مع زوجته "سيلان" هانم إلى البنسيون مُجددًا، وامتلأ البنسيون بالناس، لكن بالنسبة لي كان الامتلاء كالخلاء، ولا جديد تحت وطأة الشمس، ففي الليل لا أكلم إلا قوارض الورق، والنمل الذي اعتاد منِّي مضايقته، وفي النهار مع الخواجة ومع جنون توفيق أفندي!

زوجة الخواجة بنيامين امرأةٌ مُثقفةٌ جدًا، بالإضافة إلى الخواجة بنيامين فهو من معلمي الموسيقى، كنتُ قد تعرفتُ إليه في وقتٍ قصيرٍ وأصبحنا أصدقاء، وكانت السهرات عنده في الغرفة؛ نشرب النبيذ، ونلعب بالورق ونضحك.

في حين كانت ماريا وصوفيا ورافقتهم هند ثانيةً، قد عادوا إلى عملهم الماضي، والخواجة بريان يجلس إلى مكتبه لعد الفلوس فقط، كنتُ أنا أحاول إيجاد عملٍ داخل البنسيون حفاظًا على ماء وجهي، فقررتُ أن أعمل نادلًا وقد رحب الخواجة بهذه الفكرة، وأصبحتُ فيما بعد نادل البنسيون، وكما لو كنتُ نسيتُ أمر التمثال نهائيًا.

كانت "سيلان" هانم مهتمةً بالفلك والنجوم، وبعض الخرافات، وكان الناس يأتون إلى البنسيون لمعرفة المجهول والمستقبل، حتى الجنود الفرنسيون كانوا يأتون إليها لتقرأ لهم الكف، وهذا الأمر أزعجني كثيرًا، لكن لا شيء في يدي لأفعله!

ذات يومٍ طلب أحد الجنود من "سيلان" هانم أن تأتي معه إلى المعسكر في "إمبابة" لتقرأ الكف للقائد "برني"، لكنها رفضت وطلبت منه أن يأتي هو إلى البنسيون!

كانت صدمةً؛ لو رآني سيبلغ عنِّي! فكان عليَّ الابتعاد عن البنسيون مدة يومٍ كاملٍ.

خرجتُ من البنسيون إلى الشارع، لا أعلم أين أضع قدمي؛ الشارع كله بيوت دعارة، وحانات، وكل شيء فيه يمارس البغاء حتى قطط الشارع، تمارس الفحشاء في الشارع، وهذا أمر مزعج لأن الجنود الفرنسيين بعضهم مقيم بالشارع لفعل هذا؛ فأي مكانٍ أكون فيه سيصبح خطرًا عليَّ.

في منتصف الشارع يوجد شارعٌ متفرعٌ من "كلوت بك" اسمه "درب الجامع"، شارع طويل يسكنه بعض الناس الفقراء، وبه محلات لبيع الغلال، ويتوسط الشارع مبنى عبادة إسلامي، دخلت هذا الشارع لكن كان الأهالي ينظرون إليَّ بطريقةٍ غير مريحة، لكوني غريبًا عنهم! فمن الواضح أن كل أهالي الشارع يعرفون بعضهم بعضًا، جلست أمام أحد البيوت القديمة، وكان على يميني هذا المبنى الإسلامي، الذي اتضح لي بعد ذلك أن اسمه "جامع المتوكل"، كنتُ أرى الناس بعدما ينادي المنادي ويقول: "حي على الفلاح" يدخلون إليه، وبعد فترةٍ يخرجون وعلى وجوههم طاقات نورانية، الأمر الذي استدعى انتباهي!

فبعد مرور اليوم بأكمله رجعتُ إلى البنسيون، لكن بتُ أفكر في أمر الجامع والناس الذي تخرج منه، كان مشهدًا أراح نفسيتي؛ فقررتُ الذهاب إلى هذا الشارع كل يومٍ، وفي أحد الأيام اقتربت من أحدهم، كان رجلًا ذا لحيةٍ بيضاء، وجهه يشعُ بالنور، مفرود القامة، غليظ المنكبين، يرتدي جلبابًا أبيض، وممسكًا بمسبحةٍ خضراء، وعندما اقترب منِّي جلس بجواري، وهو مبتسم، وقال لي: "السلام عليكم"، فأومأتُ برأسي كردٍ لتحيته، لكن تحولت ابتسامته إلى تكشيرة، وقال:

- أنا أقول لك "السلام عليكم"، فتقول لي "وعليكم السلام"!

فقلتُ له:

- لا تؤاخذني يا شيخ.

- يبدو أنك غريبٌ عن هذا الشارع؟

- نعم، أنا غريب، أنا لستُ من سكان هذا الشارع.

- أهلًا يا ابني..

وأخرج من جيبه قطعةً من الحلوى، واستأذن منِّي، وذهب إلى حال سبيله.

وأنا رجعتُ البنسيون، وكان الخواجة بريان مُجتمِعًا مع "سيلان" هانم وزوجها الخواجة "بنيامين" إلى طاولةٍ مستديرةٍ، كما لو كانوا يجتمعون على تغيير العالم! وتوفيق أفندي يجلس فوق المنضدة، ومعه مسبحة خضراء ويرتدي فوق رأسه عمَّةً خضراء؛ كلٌّ منهم يجلس في صمتٍ وينظر إلى الآخر، فجلستُ معهم دون أن يأذنوا ليٍ، وفعلتُ مثلما يفعلون؛ الصمت، والنظر إلى الآخرين، والتنهد، وشرب الدخان، مرَّ وقتٌ على هذا الوضع، وأنا لا أفهم شيئًا، حتى تكلمت "سيلان" هانم وقالت:

- وجدتُ من يفعلها.

فنظر إليها كل الجالسين إلى الطاولة حتى أنا، ثم أشارت إليَّ، وقالت:

- أنتَ -يا جان- من ستفعل!

- ماذا تريدين أن أفعل يا هانم؟!

فقال توفيق أفندي بعد ضحكةٍ كبيرةٍ:

- هذا!! إنه عبيط، ههه!!

- أنتَ ستكون الوسيط.

- وسيط؟!

- أنت من ستدلنا إلى مكان الكتاب.

- أي كتاب؟!

- كتاب البحث عن الحقيقة بقوى الذات.

- أنا لا أفهم شيئًا -يا خواجة-، فهِّمني؟!

- سيلان هانم -يا ابني- حلمت أن البنسيون كان مكانه مقبرة لأحد الملوك الفراعنة، وهذه المقبرة تحتوي على كتابٍ من أهم كتب السحر، وهو كتاب "التاو"، فهي تريد أن تعرف أين مكانه بالضبط.

- حسنًا يا خواجة، وما علاقتي أنا بهذا الأمر؟!

 - لا يا جان، هي تريد أن تحضر روح المَلِك كي تعرف مكان الكتاب.

ضحكتُ، وقلتُ له:

- كيف؟! فراعنة يعني آلاف السنين! فكيف ستأتي روح المَلِك؟!

قالت سيلان:

- عن طريق تحضير الروح من خلالك.

- من خلالي؟! موافق أن ألعب معكم، فأنتم تلعبون، صحيح؟!

- لا يا جان، نحن لا نلعب، نحن نتحدث بجِدٍ.

- كيف ستحضرون روحي؟! سأناديها فتأتي أم ماذا؟!

- اسمعنا يا جان، أنت مهمتك أن تغمض عينيك، وتردد اسم المَلِك، وبعدها تقول ماذا رأيت.

- حاضر، موافق.. أريد أن أرى نهاية هذا الهُراء!

فقال توفيق أفندي:

- بدلًا من هذا التعب كله، أنا سأرسم لكم صورة الملك، واسألوه أنتم.

 بدؤوا جلسة تحضير الروح، ومرَّ أكثر من ساعةٍ، وأنا مغمضٌ عيني حتى كدتُ أنام، وبدأ خيالي يذهب بي إلى حيث وجدتُ هذا الرجل ذا اللحية البيضاء، والنور الذي يشعُ من وجهه.

 وهم حولي منتظرين أن أتفوه بكلمةٍ واحدةٍ، لكن...

 أفاقتني "سيلان" هانم، وقالت:

- ماذا رأيت.

- لم أرَ أي شيءٍ.

- أنت متأكد؟!

- نعم، متأكد...

فرد توفيق أفندي:

- ألم أقل لكم إنه عبيط؟!!

 قالت سيلان هانم:

- إذا لم تنجح الجلسة هذه المرة، سنحاول يومًا آخر.

سأل الخواجة بريان "سيلان" هانم بهمسٍ:

- أيوجد كتاب أو تحضير أرواح في الحقيقة؟!

- نعم، يوجد يا خواجة.

استأذنت منهم، وتركتهم مع العفاريت والخرف، وصعدتُ إلى غرفتي، فكانت صوفيا تنتظرني هناك.

- أهلًا صوفيا.

- أهلًا جان، أنا أريد الحديث معك.

- تفضَّلي.

- جان، أنا أحبك، ولا أستطيع الحياة دونك.

- قلتُ لك من قبل -يا صوفيا- إننا إخوة، ولا شيء  فيما بيننا سيحدث كالذي حدث.

- لكن، أنا أحبك

- فلنكن إخوة يا صوفيا، هذا أفضل لكلينا.

- حاضر يا جان.

كان عليَّ النوم مبكرًا كي أصحو مبكرًا، لأذهب إلى شارع "درب الجامع" لأرى الناس الخارجين من الجامع، وأرى ذلك الرجل ذا اللحية البيضاء حتى تستريح نفسيتي، وقبل ذهابي إلى هناك قابلتُ ماريا على عتبة الغرفة، وكنتُ أحاول أن ألف جسمي بالرغبات المطمورة، وأختبئ وراء جلدي خشية أن أقع في جسدها ذي الرائحة العطِرة؛ فأمسكتُ شجرة جسمي لئلا تنهار على شجرة جسمها، لكن اشتبكت شجرة جسمي بسترة جسدها ودخلنا الغرفة، وبعد أن أطلقت سفائن الجسد آخر صيحاتها...

كنتُ غير ما كنتُ.. أنا لست أنا.. ماذا حدث؟!

تساءلتُ مع نفسي كثيرًا، وبدأت أتصبب عرقًا، وحُمرة وجهي انفضحت، ونفضت جمرات وجمرات.

قالت لي ماريا بعد أن تعبتُ من كثرة المحاولات، وكانت ترمينني بنظراتها كالحيات الميتة:

- ممكن أن تكون متعبًا، أو تحتاج النوم!

- لا يا ماريا، أنا في صحيةٍ جيدةٍ، لكن لا أعرف ماذا حصل لي اليوم؟ من الممكن أن أحاول مرةً أخرى، وبعد محاولات ومحاولات لم تجدِ أي محاولةٍ نفعًا.

الأمر الذي جعلني أخشى أن أكون أُصَبتُ بالعجز الجنسي!

ذهبت ماريا إلى غرفتها، وبقيتُ أنا على سريري أتدحرج كالياقوتة العطبة، تدبُ في عقلي أفكار وأفكار، إلى أن قمتُ من مقامي وارتديتُ ملابسي، ونزلتُ إلى الخواجة بريان، وكان وجهي يملؤه الخجل، ولما حكيتُ له عمَّا حدث ضحك، ومدَّد ظهره إلى الوراء بعد أن وضع إحدى رجليه على الأخرى ثم قال:

- يا جان، أنت فكرتني بأيام شبابي؛ كنت متزوجًا جديدًا، وكانت حياتي سعيدةً مع زوجتي إلى أن ظهرت في حياتي فتاة كانت جميلةً جدًا، وكنت أحبها وهي أيضًا أحبتني، لدرجة أننا كنا نتعامل كالمتزوجين. علمت زوجتي هذه العلاقة، لكن كان تصرفها عاديًا جدًا؛ لم تبدِ لي أي شيء، كنت قد اعتدتُ أن أقابل هذه الفتاة مرتين أسبوعيًا في بيتها، ذهبتُ إليها وأنا كلي شوق، ودخلنا إلى غرفة النوم، وحدث ما لا يُتوقَّع؛ لم أحرك ساكنًا، داومتُ المحاولات لأكثر من مرة، ولأكثر من لقاء، لكن لا فائدة، وكأنني أصبحتُ عاجزًا جنسيًا!

انتهت علاقتي بهذه الفتاة ونسيتها، وفي لحظة صفو بيني وبين زوجتي، قالت لي إنها كانت تعلم مدى علاقتي بتلك الفتاة، وإنها قامت بربطي، وعمل بعض الأحجبة التي تجعلني لا أقدر على هذه الممارسة مع غيرها!

- وماذا فعلتَ يا خواجة عندما عرفتَ ذلك؟!

- ذهبتُ إلى أحد العرَّافين وفكَّ الربط، وأعطاني حِجابًا، وبعدها أصبحتُ وحشًا، ههه!

- أنت تقصد -يا خواجة- أنني ممكن أن أكون مربوطًا أو مسحورًا؟

- نعم يا جان.

- والحل يا خواجة؟ أذهب إلى عرَّاف أيضًا؟!

- اسمع -يا جان- لو تكرر معك نفس الأمر عليك الذهاب إلى العرّاف، لكن عليك أن تجرب مع أخرى، وبعدها قرِّر..

 صعدتُ إلى غرفتي، وفكرت في كلام الخواجة، وبعدها ذهبت إلى غرفة صوفيا، وكأنها كانت تنتظرني، كانت تجلس بأبهى صورة لها، وكأنها وردة اكتملت أنوثتها، وصار جسمها كزبد البحر..

حدث ما حدث وكنت في أفضل حال، بدأت نفسيتي تهدأ، ورجعتُ إلى غرفتي وأنا مسرور، وبعدها نزلت لأذهب إلى "درب الجامع" لأرى الرجل ذا اللحية البيضاء، وبعد أن رأيته -وقد كان يعرفني- جلستُ معه على الرصيف، وبدأنا نتحدث حتى كدتُ أن أعترف له مَن أكون، لكن كنتُ أخشى أن يخاف منِّي أو يبلغ عنِّي.

تعددت اللقاءات بيني وبين هذا الرجل الذي يُدعى الشيخ "حسن"؛ كان دائمًا يتكلم في أمور دينية، على الرغم من أنه لم يسألني عن ديني، وفي إحدى المرات كان مُمسكًا ببعض الأوراق، وحين سلَّم عليَّ بعد أن مدَّ يده سقطت ورقةٌ على الأرض فأسرعت والتقطها من على الأرض وأعطيتها له، ووقعت عيني على بعض الكلمات فاستأذنت منه وأكملت قراءة الورقة، وبعدها شعرتُ أنني هادئ النفس؛ كانت الورقة عبارة عن مجموعةٍ من آيات القرآن.

 رجعتُ إلى البنسيون، وكانت صوفيا تنتظرني عند باب الغرفة، وهي متشوقةٌ إليَّ، لكني كنت أفكر في الورقة والكلام المكتوب فيها، فدخلتُ إلى غرفتي بعد أن قلتُ لها: "أريد أن أنام!".

بعد فترةٍ دخلت ماريا وكانت كما تكون كل مرة؛ همساتها تنبت في دمي مثل اليمام والزهرات، كنطفة بيضاء ذاهلة، غير أن دمي كان يعبرها كشريطٍ من الفرح والسرور، لا أقدر وقتها على مقاومة حُسن جمالها..

 استراحت بجانبي على السرير، وبعد أن تمددنا في رحم الرغبة المخبوءة، وجدتُ نفسي لم أقدر على فعل شيء! ورجعتُ كما كنت، فأسرعت هي وارتدت ملابسها، ونظرت نحوي وعيناها كما لو كانت تقول: "ما زلتَ كما أنتَ!".

خرجتُ إلى الخارج بعد أن ارتديتُ ملابسي، ودخلت إلى غرفة صوفيا، واقتربتُ منها حتى التصقتُ بها، وحدث ما حدث وكنت طبيعيًا جدًا، أنا هو أنا! الأمر الذي استرعى انتباهي؛ فأنا مع صوفيا رجل، وأما مع ماريا فأنا....! كان عليَّ التأكد من أنني سليم، ففي اليوم التالي تلصصتُ ودخلت إلى غرفة ماريا؛ حيث سرير هند وكنت أعلم أن ماريا ليست بالغرفة، وبدأت بمداعبة هند حتى تركت نفسها لي، لكن كما سبق مع ماريا، لست أنا! مما جعلني أشك أن صوفيا -بعد أن تذكرت كلام الخواجة- هي التي قامت بربطي، وربما سحرتني أيضًا!

نزلت إلى الخواجة وأنا مفزوع، وحكيت له، وقلت:

- أنا لا بد أن أذهب إلى عرَّاف يفك العمل!

كان توفيق أفندي يجلس إلى باب البنسيون ويهز رأسه، كما لو كان يحاول تنظيم المارة في الشارع!

قال لي الخواجة:

- أنا أعرف شخصًا اسمه عم "مرجان" معروفًا بخبرته في فك الأعمال وفك الربط.

ذهبنا إلى بيت عم "مرجان"، وعندما دخلت من الباب اصطدمت بشيءٍ خفيٍّ، لا أعلم ما هو! أُغشيَ عليَّ ولم أشعر بأي شيءٍ إلا عندما رجعتُ إلى البنسيون.

بعد أن أفقتُ نظرتُ حولي يمينًا وشمالًا، فوقًا وتحتًا، لم أرَ مصدر الصوت الذي أسمعه؛ كنت أسمع صوت عصافير وصوت رفرفة أجنحتها، لكن لم أرَ شيئًا، والأغرب أن كل من يجيء إلى غرفتي أسأله:

أتسمع صوت عصافير؟! يقول: لا!

إلا توفيق أفندي، فكان يقول لي: نعم، أنا اسمع أصوات قطط!!

علمت "سيلان" هانم هذا الأمر، ولأنها تفهم في أمور الفلك، وأمور تحضير الأرواح قالت لي:

- أنت ممسوس! عليك جن أو جنيِّة، لا بد أن نخرجه من داخلك وإلا سيؤذيك.

فقلت لسيلان هانم:

- كيف نُخرجه، سنصفق له أم نطبل؟!

- لا يا جان، بعد جلسة تحضير الأرواح سنرى ماذا سنفعل!

- ماذا تقولين؟! جلسة تحضير أرواح ثانيةً؟ أنتِ تعيشين في وَهم، يا "سيلان" هانم!

- هيا يا جان، ارتدِ ملابسك وانزل؛ الجلسة منعقدة، لا تتأخر.

يا ربي!! ماذا أفعل مع هؤلاء الناس المجانين الذين أعيش معهم؛ منهم من يقول عم مرجان، وآخرى تحضير أرواح، وبالنهاية أصبحت ممسوسًا وعليَّ جن!

نزلت إليهم، وكانوا قد أعدوا كل شيء، وبعد ساعةٍ لم تنجح هذه الجلسة مرةً أخرى.

وفجأةً شعرت بصداعٍ قويٍ أفقدني وعيي، ولم تنجح معي أي طريقةٍ لإفاقتي؛ فنظر كل الحاضرين إليَّ بشفقة.

 وقالت لي سيلان هانم:

- أعطِني أي ملابس من ملابسك يكون فيها عرق جسمك!

وبعد أن أعطيتها قميصي الأبيض، ودخلت هي به إلى غرفتها خرجت وقالت:

- عليك جن، مثلما قلتُ لكَ!

 - عليَّ جن! وكيف جاءني؟!

وبدأ القلق ينتابني.. مربوط ومسحور، وعليَّ جن، يا للهول...!!

كان الخواجة "بنيامين" زوج سيلان هانم مشغولًا دائمًا بالموسيقى، لدرجة أنه كان ينسى ميعاد دوائه بسببها! طلبتُ منه أن يُعلِّمني الموسيقى؛ أريد أن أخرج من هذا الجو المليء بالعفاريت.

كان الدرس الأول لي في غرفتي؛ بدأ في العزف على العود، وأنا أنصت إليه جيدًا، وأحاول سماع ما يعزف إلى أن قلتُ له:

- جميل صوت العصافير الذي تعزفه.

- أنا لا أعزف صوت عصافير، أنا أدندن بالعود فقط! - لكني -يا خواجة- أسمع صوت عصافير!

- لا يا جان، لا يوجد صوت عصافير!

- أنت متأكد يا خواجة؟!

- نعم، متأكد.

 تذكرت صوت العصافير الذي سمعتُه منذ فترةٍ في غرفتي، فخرجت أنادي سيلان هانم وأدخلتها الغرفة، وطلبتُ من بنيامين أن يعزف، وقلت لسيلان:

- ماذا سمعتِ؟

- سمعتُ صوت دندنة.

- ألا تسمعين صوت عصافير؟!

- لا، لا أسمع!

أخرجتهم من الغرفة، وجلست القرفصاء على السرير، أتبدد من الخوف، وأضع يدي على أذني حتى لا أسمع أي صوت، فجأةً أتت حمامة بيضاء بجناحين مشتعلين وحمحمت حولي، وعلت علوًا كبيرًا، وفي منقارها وردةٌ بيضاء، وفي كل رفرفةٍ من جناحيها تسقط ورقة من الوردة فوق رأسي، وأنفاسي تتعجلها لأن تبتعد عنِّي فلا تبتعد! ففزعتُ وقصدت الباب، منعتني من الوصول، وها أنا ذا كالمغشي عليه تتخبطه شدة الخوف، فرجعت إلى السرير، وحاولت الصراخ، لكن صوتي حُشِر، وأغميَ عليَّ فإذا بي غارقٌ في ظلمة الليل، ورأيت قططًا تتقافز هنا وهناك، وأقمارًا تصطدم بالكواكب، الشمس تنفجر انفجارًا عظيمًا، وإذا بيد تلك الحمامة البيضاء تنتشلني من الظُلمة، وتأخذ بيميني، وبعد أن هدأت وفتَّحتُ عيني وجدتني بلا ملابس، ورأيت تلك الحمامة تتحول إلى امرأةٍ لا مثيل لها، أول مرة أرى امرأةً بطعم السماوات والأرض؛ لها عريشة من الأرجوان الناعم، والحجر الكريم.

أصبحت تلك المرأة على قيد ذراعٍ منِّي، واقتربت هي واقتربتُ أنا فكانت كقاب قوسين أو أدنى! فانكشفت لي كاللآلئ ثم فكّت مئزرها المغسول بالرغبات، والتصق جسدانا لصقًا، وأنا أتشمم كل خليةٍ في جسدها البض الذي لا مثيل له، وهي تشرب نقيع ريقي، وتقول في صوتٍ هامسٍ: "أنت ولا غيرك"، ورفعت الغطاء، وتحولت إلى حمامة مرةً أخرى، وحمحمت حولي ثم طارت.

 دعكتُ عينيَّ عساي أكون بحلم، وقرصت يدي حتى تبين لي أنني كنت مع امرأة حقيقية!

دخل توفيق أفندي الغرفة، وقال لي:

- لقد سمعتُ أنك مريض؟

- نعم -يا توفيق أفندي- أعاني من صداع.

- حسنًا، هل يمكنني رسمك قبل أن تموت؟

 كان فكري مشغولًا بهذه الحمامة التي تحولت إلى صورة امرأة، ونسيت أمر كل من حولي في البنسيون!

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑1الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓-1الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة آيه الغمري
9↑1الكاتبمدونة حسن غريب
10↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑31الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني203
2↑22الكاتبمدونة مها اسماعيل 173
3↑14الكاتبمدونة مرتضى اسماعيل (دقاش)205
4↑11الكاتبمدونة منال الشرقاوي193
5↑5الكاتبمدونة كريمان سالم66
6↑5الكاتبمدونة خالد عويس187
7↑4الكاتبمدونة نجلاء لطفي 43
8↑4الكاتبمدونة غازي جابر48
9↑4الكاتبمدونة سحر حسب الله51
10↑4الكاتبمدونة نهلة احمد حسن97
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1079
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب695
4الكاتبمدونة ياسر سلمي655
5الكاتبمدونة اشرف الكرم576
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري501
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني426
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة404

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب334263
2الكاتبمدونة نهلة حمودة190460
3الكاتبمدونة ياسر سلمي181776
4الكاتبمدونة زينب حمدي169884
5الكاتبمدونة اشرف الكرم131099
6الكاتبمدونة مني امين116829
7الكاتبمدونة سمير حماد 107975
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي98093
9الكاتبمدونة مني العقدة95163
10الكاتبمدونة حنان صلاح الدين92010

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة عطا الله عبد2025-07-02
2الكاتبمدونة نجلاء البحيري2025-07-01
3الكاتبمدونة رهام معلا2025-06-29
4الكاتبمدونة حسين درمشاكي2025-06-28
5الكاتبمدونة طه عبد الوهاب2025-06-27
6الكاتبمدونة امل محمود2025-06-22
7الكاتبمدونة شرف الدين محمد 2025-06-21
8الكاتبمدونة اسماعيل محسن2025-06-18
9الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني2025-06-17
10الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15

المتواجدون حالياً

1440 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع