آخر الموثقات

  • ق.ق.ج/ بئر العينين
  • مكانة الأسياد ..
  • تقوى الله محرك مهنة الطب
  • التعليم السوداني بين العزلة وإعادة إنتاج الأمية
  • أصداء أزهري محمد على نقد متجدد للحكم في السودان 
  • معركة الكرامة: بين الخيانة والوفاء للوطن
  • بين رفقة الأحلام ورفقة التكنولوجيا أحلام تزهر بالمعرفة
  • طقوس الزواج السوداني بين الأصالة والمفارقة: من قطع الرهد إلى إشعار البنك
  • لقاء السحاب
  • يا صديقي.. لو كنا تزوجنا من زمان
  • رسالة بين القلب والعقل
  • ما وراء الغيم الأسود
  • حين عاد الصوت من الغياب
  • على حافة الفراغ.. حكاية قلب يبحث عن أنس
  • أمسية على ضفاف الذاكرة
  • تهت في عيونك
  • جاء موعد كتابتي إليك
  • عبارات مبالغ فيها لإبن تيمية
  • ابن تيمية فى مواجهة الوهابية 
  • لابوبو الجزء ٤
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة سامح رشاد
  5. (رواية) قطيفة وزعفران

فذلكة تاريخية

في الأول من نيسان سنة ٨٧٥ ق. م

كان الملك المُعظم "أخاب بن عمري" يجلس على كرسيه الأخاذ_هذا الكرسي المصنوع من الخشب الوردي، والمنقوش بالأيدي الفينيقية، والمُطرز برؤوس الغزلان، والآيائل الصحرواية_ في مملكته التي أكتظت بالكفرة والمشعوذين، تلك المملكة التي بناها شمال "السامرة"بعد أن أنتهى تمامًا ونهائيًا من قتال الأعداء؛ وواضعًا سيفة الخشبي تحت قاعدته كاستراحة أخيرة للمحارب الذى أفنى معظم سنواته الماضية في نضال أكيد ضد كلمة الرب.  فيما هو أخذ يتجول في ساحة قصره الخربة الخاوية؛وفمه مفتوح كالبوغازمن فرط ما تورمت شفتاه من شدة الضحك؛ بينما كانت تجلس إلى جواره تلك الغائية اللعوب" ايزابل ابنة أثعبل" تلعكُ اللِبان المُر وتكشفُ له عن ساقيها البيضاوتين المعطلتين_كشجرتي جوز ساقطين_ وجانبيّ الصدر الأرجوانين، تلك الفاجرة والتي وضعت خريطة الرغبة المُمتدة والمترامية الأطراف من سلسلة الظهر وحتى أسفل البطن مرورًا بحديقة الردفين، والتي تمناها الآلاف من شباب" اسرائيل، وتدمُر، وصيدرون" وكان المهر الذي قدمه لها الملك" أخاب" ثمانون من رؤوس الانبياء الذي فقدوا أرواحهم وهياكلهم المِقدسة،هناك عند مذبح الرب! ناهيك عن أكداس الذهب، والفضة التي زُين بها قصرِها، وفرشها في الأفنية والممرات من الحرير لتمشي عليها بقدمين مليكتين.

تلك المرأة التي كثيرًا ما كان يُشبها بالآلهة البابلية_ تلك الآلهة التي سوف تمنحة "عُشبة الخُلد"_ العُشبة التي ظل يبحثُ عنها جلجماش لسنين طوالٍ_ نظرًا لما تتمتعُ به تلك الغائية من جسد ثر لا مثيل له، وشفتين كرزيتين، وعينين فينيقيتين، وفيما هو _أي أخاب_وبعد أن حمّل  تحت إبطيه المعروقتين مخطوطًا كاملًا من خريطة إسرائيل الجديدة؛ أخذ يستعرض جنده، وقواد جيوشه، وهم يسيرون في صفوف متوالية من مشاه، وراكبي عجلات حربية، وقاذفي سهام. كانوا هؤلاء الجنود يهتفون عاليًا بأسم الملك المُظفر زوج الملكة التي تجلسُ هنالك على الآرائك المصفوفة، والنمارق التي تغص بالولدان المخلدين، سليلة الآلهة._تلك الآلهة التي منحتها "الاله بعل" ذلك الإله الذي أعطاها البركة التامة و النهائية، وربما صلى من أجلها لكي يحل السلام على روحها القلقة.

وهكذا : راح الكهنة، وضاربوا الدفوف والصنوج، والمدبجو القصائد الخماسية والحماسية، يشيدون بالخصائل العظيمة للملك الذي جاء ليحررهم من وصايا الرب الثقيلة، ومن الانبياء الذين يسومونهم سوء العذاب.

بينما كان الملك المُظفر "أخاب" والذي أختارته السماء يجلس فوق صخرة الآلهة المُجوفة  التي تنشفتْ بالزبد المحروق كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن السيدة "ايزابل" أو تلك المرأة اللعوب ستمنحه بركة الآلهة الحجرية. وربما أمكن لتلك السيدة أن تمنحه نظرة من نظرات الحنطة التي تُزين بها بطنها. فيما كان أهالي المدينة، والكهنة والعرافون يقفون صفوفًا خارج القصر وينظرون إلى السماء كي تمنحهم قطرة واحدة من المطر. بينما كانت الجميلة "ايزابل" والتي غطتْ شعرها باليشمك، ووجهها بالبرقع الذي صنعته لها تلك الآلهة، وكالعادة في الليل تضمُ أحلامها إلى فِراشها مثل دائرة من الحَب والنوى، وعندما تفرغ من أحلامها كانت تحكي عن الزمن وآلهته الرائجة. دائمًا ماكانت تصنع من جسدِها وسادة لينام الملك عليها دون أن يفكر ولو لمرة واحدة في استرداد مايمكن أن يسميانه الوعي الكوني.

ولأنها هكذا فقد ساقتها الأقدار للجلوس على عرش المملكة تحت قبة السماء الخالية تمامًا من النجوم والبركة، وكما لو  كانت السماء كخيمة واسعة لروحها المُتسخة من الحبق والصبر، والأرض تلك التي تمشي عليها بكل احتراس؛ كانت هي نفسها تلعن نفسها، وكان الملك لا يرى الا حلمًا واحدٍ هو : أن النبي "ايليا" والذي تنبأ بموته_ أي موت أخاب_ وهو في الوحل تلحسُ دماءه الكلاب الضالة  _وأن هذا النبي سيمحي مملكته التي ورثها عن أجداده، الأمر الذي دفع الملك للتخلص من ذلك النبي إلى الأبد. آنذاك كان النبي "ايليا" يقف على شاطئ النهر بقدميه العاريتين اللتين تدبقتا من السير فوق الحصى ورؤوس الشوك ينتظر عودة الغراب باللحم كي يأكل وبعدها يذهب لينام.

ألا زال عندكِ زيت في المصباح؟

ألم ينطفئ قنديل

"تبرير على شكل ملاحظة"

         ولو شئتْ فقل : مُقدمة

" لم يكن لقلبي المُسرف في الغفلة هذه أن يعرف الطريق إلي قلبكِ النقي هذا"

ما الإنسان في ذاته؟ أليس سوى حشرة تافهة تطنُّ.

 دعوني أمضي باستعارتي نحو الأبعد :

أنا مُحفَّز بالفلسفة؛ وليس فيلسوفًا، مُفتن بجمال الأشياء، برسم اللامرئي والمتناهي، كائن منسجم ومتناقض في آن واحد، أبددُ كل شئ وأجمعُ كل شئ إليّ، هذه إذن هياكلي التي أعرفها ولا أعرفها. أتبعُ المستقبل في مجراه الدموي أفقيًا وبأستقامة وعلى إيقاع واحد.

كبداية أقول أني أرغب في التنصل من الادعاء بأني أمتلك تلك المواهب السامية الخاصة بالمخيّلة والتعبير والتي كان من شأنها أن تمكّني من رسم صورتي مثل كائن ساقط من السماء؛ ليس بملاك!!

لكن أنا العائش في الحقيقة التي لاتقبل الشك، والغائص في الشك الذي لا يأوى إلى اية حقيقة.

أنت الآن تعرف نصف الحكاية، أو على الأقل تعرف أن أسمي "كمال" أحلقُ في سماء "دانتي" الخامسة. كنتُ أعيش سعيدًا في بيت أبوي، لم يكن لديّ من المشاغل مايلهي فكري عن الاضطرابات الطبيعية التي تميَّز الخيال السعيد للأطفال، ولم يكن قد حلّ الحب ببهجته الظمئة، ليعكر صفو حياتي.

ألآن أرى الموت جاثمًا وهو يرقص بخفة كطائر أعمى ألآن أبصر الضوء وهو يطير في السماء كالمناقير. والقمر في انبزاغة وهو يتلصص على الأرض بخياناتٍ. تلك الليالي الطويلات التي أكلتني فيها الشهوة بفمها العنكبوتيْ. عندما كنت أتاوه من فرط اللذة وأصرخ بأعلى فمي مثل فراشة ضالة فوق أرض مراوغة. كانت روحي كل روحي ترفرفُ حولكِ أنتِ. كنتُ أنظر إليكِ في سقف الغرفة مثل فراشة تحترقُ.

 

الآن

"وبعد سنين كاملةٍ من الحنين الغامض والحزن.  كانوا المارة يلملمون ضحكاتنا التي صنعناها في الشارع ويركونها لجوار الحوائط خشية أن يركلها أحد."

مدخل

"البداية هي هكذا على الدوام"

"لا أعرف لماذا أحكي هذا! ليس صحيحًا ربما أعرف جيدًا ولا أريد الاعتراف "

في نهاية الأسبوع فرض الشتاء الذي كانت صرامته أمرًا متوقعًا منذ الأيام الأخيرة من سبتمبر عنفوانه، يا لتلك النشوة الرتيبة التي تمتلكني! عندما أجلس في منزلي منفردًا بنفسي، ظللتُ أتنقل من حائط لآخر، ومن جدار لجدار، لو شئتُ لأعددتُ خمسون سيجارة على الأرض وواحدة في يدي، وأخرى على وشك أن تسقط من فمي،

وبقيتُ حتى ساعة متأخرةٍ من الليل_وعلى فراشي طلبتْ من تحبه نفسي فما وجدته_وأنا أدعكُ جدران الزمنِ بالفراغِ والمروادةِ، أدشن الخراب بالإنكسارات، وأسير في الهاوية، أتمددُ كعشبة طرية على أرض مراوغة، أتجول بين مراثي الذاكرةِ وغيابات الإسم؛ أنهض من على سريري بجهد، أزيحُ بيدي غطائي المزخرف ، أحكّ عيني بأشاجعي، أرتدي ملابسي دون أن أغتسل، ودون أن أرتل صلاتي، أتحرك بإيماءات غليظة حزينة، لم أحكم أزرار ردائي الديني الخاص بالكنيسة، أزحتُ الرتاج، وفتحت الباب بقوة، كانت غرفة الأب "يوحنا" متصلة بالكنيسة بشرفة داخلية، تحفها أصص الأزهار، أرضيتها مخلخلة، وكان النجيل يغطي حوافها؛

قال لي الأب "يوحنا" : أنتظر من أنت؟

أنا أيها الأب : أطلب المشوره، أنا "كمال" ولو شئت قُل "قطيفة" وهذه هي أحوالي كل يوم وليلة... ها هي بين يديك الآن.

هكذا نظر إلىّ الأب "يوحنا" نظرة حيرة؛ وأمسك رأسي ورجها بشدة وقال : إذن ما بك الآن؟؟

قلتُ له بعض أن وضعتُ يدي على وجهي : حدث هذا مع صديقي_أقصد أنا_لكن من الأفضل أن يكون مع صديقي الذي بالطبع هو _أنا :

السردية الأولى

_ الترقرق_

" تجهيز الحواس للسعي واستجماع ما في الذاكرة من سماع وتوقد "

ملأ الصراخ غرفة "موران" مع بزوغ شمس يوم الثلاثاء، ولسوء الحظ فقد وجدتْ ذلك الصراخ مألوفًا جدًا لها، لأنه صوتها هي. فقد سجلت صوت صراخها على هاتفها كنغمة تنبيه، لأنها أعتقدتْ أن هذا سيساعدها على النهوض من سريرها الدافئ. جلستْ على حافة سريرها والغشاوة تكسو عينيها. ألقتْ نظرة في المرآة المُعلقة على الجدار؛أطمئنت أن وجهها يبدو كما هو. دست قدميها في خفها الأخضر الزغب، ومشت مُجهدة إلى غرفة الطعام ومن قبل قد ألقتْ نظرة سريعة على غرفة المكتبة الخاصة بوالدها وقالت : " الحمد لله كل شئ غير مُرتب يبدو أن أبي كالعادة كان يقرأ، غرفة تشبه السجن، كتب قديمة ومجلدات نادرة، أوراق متناثرة هنا وهناك" أستكملت طريقها بعض أن أطمئنت على جدتها "تيريز" في غرفتها . أحضرت عيار ثقيل من القهوة السادة، فهي لم تنضم إلى عالم الأحياء دون أن تشرب فنجان ثقيل من القهوة "الإسبرسو" بدأ المكان من الخارج حالك الظلمة، الوقت مبكر. أمسكت الفنجان بيدها اليسري وأخذت تتشممه بعنف. كانت نكهة القهوة عادية"_كالعادة_فهي لايروق لها القهوة تلك المنهكة بالفانيليا، والشيكولاتة، والبندق..... بل لطالما فضلت قهوتها سوداء وثقيلة، كما تحب الحقائق المباشرة البسيطة التي تخلو من المجملات. فرغت من أهم شئ في يومها" شرب قهوتها" بدأت تعبث باللون المطلي به  أظافرها. وكان طلاء أظافرها الزهري الفاقع متقشرًا عند الأطراف. قامت بوضع طبقة رقيقة من نفس اللون؛ وأستدارت لليمين وفتحت دولابها المليئ بالملابس ذات الماركات العالمية والألوان النادرة. دست في قدميها حذاء جلدي يحمل ماركة "ليبنو". توجهت ناحية باب الشقة . أمسكت قطع الشيكولاتة  "فيريرو روشيه" التي اعتاد والدها احضارها كل يوم لها، وألقت بأربع قطع دفعة واحدة في فمها. فتحت باب الشقة والقت نظرة على الباب المقابل لها وأبتسمت.نزلت الدرج، لكن سرعان ماصعدت السلم مُجددًا وفتحت الشقة كانت قد نسيت سلسلتها ذات قلادة الصليب. وضعت السلسلة حول رقبتها بعد أن قبلت الصليب.

 أعتادت "موران" شراء الجرائد وتصفحها قبل دخول المحاضرة. جلست كاعادتها في حجرة المدرسين تتصفح أحدى الجرائد المكتوبة باللغة العبرية، أحاطت فنجان القهوة بيديها قليلَا، ثم قضمتْ من شطيرتها فوجدتها لذيذة والطماطم فيها طازجة والفلفل مقرمش. جئن ثلاث فتيات إلى الطاولة المجاورة وشَعر إحداهن الأشقر يتمايل، فيما شَعر الثانية الداكن القصير مُجعد، بينما شَعر الثالثة الأحمر متقصفًا بشكل واضح؛ وعبقتْ روائح العطور الشهيرة من أفخم الماركات العالمية في الجو نظرت "موران" إليهن وقالت في نفسها "هذه الغرفة مُخصصة للمدرسين والمدرسات فقط، فما أمر تلك الطالبات؟".

تبادلت الفتيات نظرات ماكرة، وقربن رؤوسهن من بعضها ورحن يتهامسن. فأكملت "موران" شرب قهوتها بعد أن دست رأسها في الصحيفة. أحستْ أن حَجرة كبيرة وقفتْ في حلقها عندما قرأت أحدي السطور في جريدة "هآرتس" العبرية. قفزت من على الطاولة واتجهت ناحية باب الخروج، لكنها تراجعت ودخلت إلي قاعة المحاضرات. ألقت محاضرتها على عجل.

خرجتْ "موران" مُسرعة من القاعة بعد أن تشبثت بتلابيب الصمت وهي مُغمضة العينين دون أن يتسللُ إلى عقلها الوهن أو تنخر في روحها الوساوس.  بعد أن أعتذرت لعدم مكوثها بعد المحاضرة. واعدةً الطلاب بأنها ستبقى بعد المحاضرة القادمة. لقد أعتادت أن تظلُ في القاعة أكثر من نصف ساعة بعد كل محاضرة تتحدث إلى مجموعة من الطلاب الذين يجتمعون حولها وتقيم علاقة خاصة بين أفكارها وأفكارهم . كانت تحبُ الحديث معهم أكثر من المحاضرات نفسها؛ فهؤلاء القلّة الباقية بعد المحاضرة كانوا لاشك مُهتمين بالمواضيع التي تثيرها ومؤمنين بمبادئها.

لم تكن"موران" أصلًا بحاجة إلى الأجر الزهيد الذي تتلقاه عن تلك المحاضرات، لكنها مارست التدريس لأنها تحبُ التواصل الفكري مع هؤلاء الطلاب المُنفتحين، ويهمها تحفيز فكرهم ومشاركتهم نظرياتها وآراءها.كان الوقت متأخر من النهار، بدت السماء مضبّبة، تخترقها أشعة الشمس لكن بتثاقل وشتات في كل مكان، مثل غبار برونزي.

كان كعب حذائها العالي يعزفُ ايقاعًا سريعًا وهي تحثّ الخُطى على الممشى المؤدي لبوابة الخروج، ثم ذادت سُرعتها وهي تمرّ عبر الشارع،بعد أن أجالت عيناها الواسعتان السودوان اللامعتان في السماء مرَّتين. لأنها كانت مُصرة على رؤية الطبيب "كمال" تمنت لو لم تكن شديدة الأناقة وخصوصًا حذائها ذات الكعب العالي في هذا اليوم بالذات، فهي دائمًا بكامل أناقاتها وتهتم بجميع تفاصيل ماترتديه كما تهتم بتفاصيل حياتها، كان لبسها الراقي ذات الماركات العالمية مناسب تمامًا لجسمها الرشيق.

أخذت تنادي "كمال" في نفسها بصمت وهي تهرول : "أرجوك لاتغادر عيادتك أرجوك" كانا متقاربين بشكل غريب منذ حداثتهما، فهما أقارب من ناحية الأب، وتمنت لو يشعر بها هذه اللحظة كما من قبل، فكل محاولات الاتصال به لاتُجدي! فهو دائمًا يكره هاتفه الخلوي ولا ينظر اليه، حتى تيليفونه الثابت قليلًا ما يعنيه. نزعت حذائها ذات الكعب العالي وأقحمته في حقيبتها، وهي تطوي المسافة القصيرة المُتبقية ركضًا للوصول إلى عيادته.

حبستْ انفاسها وهي تستدير حول المبنى ورفعت بصرها نحو الطابق الرابع فرأت نوافذ العيادة مضاءة؛ تعمدتْ الصعود على الدرج لتأخذ الوقت الكافي لاسترداد أنفاسها. كان "كمال" يحتسي فنجانً من القهوة، أحس بوجودها داخل الباب قبل ان يراها، قد سمع صرير يشبه نزع الغطاء من على الضريح؛ وعندما رأها ارتسمت على وجهه المُشرق ابتسامة عريضة :

"موران"! هذه مفاجأة رائعة، لم أتوقع مجيئكِ اليوم.

أجابته بحرارة مُماثلة : أهلًا "كمال" ابن عمي وصديقي، أنا في غاية السعادة لأني وجدتك كنتُ أخشى ان لا ألقاك.

رفع "كمال" رأسه نحوها بعد أن أزاح فنجان القهوة الفارغ  ونظر بأحدى عينيه والأخرى مُغلقة وقال : مالأمر؟ لم أعتاد رؤيتكِ بهذا التوتر

فقالت له بعد أن أطرقت لحظات قبل أن تجيبه : الأمر في غاية الأهمية، ثم وضعت يدها في حقيبتها وأخرجت منها : صحيفة والقتها أمامه على المكتب. نظر "كمال" إلى الصحيفة نظرة سريعة كأنها ومضة برق، ورفع رأسة إلى "موران" وقال لها : أنا لاأفهم في اللغة العبرية!. أومأت "موران" برأسها ايجابًا وقالت : هذه صحيفة" هآرتس"الإسرائيلية. تعلن كشف علماء الجيولوجيا الإسرائيليون عن حَجَر نادر وجد في داخل أجزاء من الصخور البركانية أسفل جبل" الكرمل" شمال فلسطين ويعتقد أنه نوع من المعادن القادمة من الفضاء الخارجي!.

_وماشأنكِ وما يكتبون؟

_أنسيتُ أنني أستعدُ لمناقشة رسالة الدكتوراه، وهذه الرسالة في : الأحجار الأشد قساوة من الماس التي يرجعُ كشفها للعصر "الطباشيري" ؟

_لم أنسى_لكن مادخل رسالتكِ في هذا الحَجَر بالذات؟

_هذا الحَجَر يقولون عنه انه قادم من الفضاء! ، ولو صح هذا الكلام فرسالة الدكتوراه التي أستعدُ لمناقشتها سوف تصبحُ خاطئة، وستسقط جميع الادلة العلمية فيها، وهذا معناه أنني قد أضعتُ أربع سنوات من عمري في وهم!

_أتقصدين أن هذه الصحيفة كاذبة، وأن هذا الحَجَر موجود من العصر الطباشيري؟

_ليس كما قُلتُ بالظبط_لكن هم يقولون أن هذا الحَجَر الذي يسمونه "carmeltazite" سقط من الفضاء منذُ وقت قريب، وأنا في رسالتي أثبتُ بالأدلة أنه تكوّن من ثوران بعض البراكين السامة في وقت ما خلال العصر الطباشيري الذي انقرضت الديناصورات في نهايته ويعود إلى 200 مليون سنة خلت. وهم ايضًا يدَّعون أن تم العثور عليه في جبل "الكرمل" في فلسطين!

_أيكم الأصح؟ أنتِ أم هما؟ أكيد هما طبعًا يا" موران"

_لا يا "كمال" لا تقللُ من شأني العلمي، أنا الأصح لذلك أنا جئتك!

_جئتنني؟ أنا لاأفهمكِ ما شأني وشأن هذا؟ أنا لاأفهم إلا في الطب فقط، ولاأفهم في علم "الجيولوجيا" والحفريات، ولا في علم الفضاء

_أنا يا "كمال" سأسافر إلى جبل "الكرمل" في فلسطين!

_أتقصدين في إسرائيل؟

_أي كان المُسمى فأنا سأسافر. أريد التأكد من هذا بنفسي

_سافري يا "موران" الرب معكِ

_"كمال" أنا لم آتيك كي تقل لي" الرب معكِ"أكيد الرب معّي!

_لما آتيتينني؟

_أنا.... أنا... أنا أُريدك أن تسافر معّي!

قفز" كمال من فوق كرسيه وأستدار ناحية الحائط الخلفي له وأمسك بساعة الحائط المُعلقة، وخلعها من الحائط، ومثل سحابة بددتها ريح قوية على حين غرة وضع الساعة على المكتب، وأستدار ثانيًا ناحية "موران" وبصوت هادئ قال لها : يمكنكِ الخروج من الباب الذي دخلتين منه والا... حطمتُ رأسكِ بهذه الساعة!

تبسمتْ" موران" وأمسكت الساعة من يديه ووضعتها على المكتب وأقتربت منه ووضعتْ يديها فوق كتفيه وقالت في صوت هامس : رغم عنك سوف تسافر معّي يا "كمولة"

_أنتِ تتحدثين بجدية يا "موران"؟

_نعم ياأبن عمّي أنا أتحدث بجدية، ولاداعي للاطالة في الحديث، فأنت سوف تسافر معّي!

_لا _لا لاأستطيعُ ترك عملي. أنسيتين أنني طبيب ومسئول عن مرضى؟ بالاضافة أنني لاأحبُ السفر وأنتِ تعلمين هذا جيدًا

_أعلم وأعلم أيضًا إنك لن ترفضُ لي طلب!

_يمكنكِ الأتصال ب" بيتر" أبن خالتكِ فهو متزوج من فلسطينية ويعيش هناك

_أنا أعلم أن "بيتر" متزوج من "توما" وهما يعيشان في القدس، لكن أنا أريدك أنت تسافر معي، فاأنا لايروق لي "بيتر وزوجته"

_لكن يا "موران" أنا.... أنا....

وقبل أن يتمُ كلامه تمتمتْ "موران" بشفاتيها؛ وأحتضنته، وأستدارت وولت وجهِها شطر الباب وأسرعتْ وأمسكتْ بالمقبض، ثم أستدارت وقالت له : السفر بعد اسبوع.

كان "كمال" يتقلب في فراشه من الأرق، فقد أزعجه حديث "موران" عن السفر. كان يهتم لأمرها كونه أقرب أقربائها، وصديقها الوحيد ومنذ الصغر يجمعهم شئ ما. نهض من الفراش لأنه كان قد أدرك أنه لن يرى النوم في تلك الليلة، وكان يحاول أن يتجنب التفكير في علبة السجائر بداخل الدرج قرب سريره، كان قد حاول الإقلاع عن تلك العادة السيئة، التي كانت أصلًا سبب وجوده بشقته وحيدِا، لكن وطأة قلقه كانت شديدة حتى إنه أستسلم لذلك الإثم، فأشعل سيجارة وراح ينفث دخانها ببطء وهو يفكر في أمر السفر، فكان هناك شئ مميزًا لأبنة عمه النحيلة المُفعمة بالحيوية، أخذ يفكر كثيرًا ثم قرر السفر مع "موران".

صباح اليوم التالي، كانت "موران" خارجة من مكتب السفريات، أمسكت هاتفها الخلوي وأتصلت ب "كمال" قد أخبرته بكل شئ، فقد كان يعاملها كأنها لاتزال طفلة وهو وصّي عليها، قد قالت له : لقد حجزت تذاكر السفر في موعدنا.

السردية الثانية

_البداية_

" زوال الغشاوة إذ تبصر عن حقيقةٍ"

حكى لنا  جدي "يوحنا" أنه سمع عن جده الأكبر وقد سمع الأخير  من الشيخ "أبو العباس أحمد بن عمر بن سُريح البغدادي والأصدق لمن سمع الحديث : شخينا الجليل شهاب الدين الهَروي الأفغاني عن نور الدين الوزان عن عبد الله المعمٌّر عن شيوخه وشيخاته عن العمة ماريا انها قالت : سمعتُ عن جدي الأول أن أجدادنا المصريين كانوا يعبدون الأصنام وبعد أن ظهرت الديانة المسيحية ودخلت الديار تنصر أجدادنا الأقباط وبقى حكامنا الروم على اعتقادهم الوثني، وأذقونا العذاب والاضطهاد ألوانًا، وأشد تلك الاضطهادات ما هو معلوم بيننا من الامبراطور "دقلديانوس" المشهور بظلمه، وهو الذي قتل المسيحيين الشهداء لحين تولى "قسطنطين" الأكبر؛ أعتنق الديانة المسيحية وكانت أمه "هيلانة" التي عثرت على الصليب المُقدس.

غير أننا  ما زلنا نقاسي الاضطهاد ممن خلفوه إلى أن تولي العرش الإمبراطور الطيب الذِكر "ثيوديوسيوس" الأعظم منذ  قرون عدة وكان حَسن الإيمان فأفرج عن الأقباط وبعث إلى مصر بهدم الهياكل الوثنية وبناء الكنائس على رغم الشعب الروماني، وكان في الأسكندرية هيكل أسمه "سيرابيس" فيه صنم هائل كسروا فكه بالفئوس فتراكضت منه أسراب من الفئران كانت تعيش فيه، فسقطت منزلته لدى الوثنيين أنفسهم.

عند عودة "موران" للمنزل

سمعت هذا الحديث الذي دار بين أبيها "مرقس" وجارهم الشيخ "درويش" وكانت كعاداتها تحب زيارة الشيخ "درويش" لهم لتستمع للأحاديث التي تدور بينه وبين أبيها.

أدخلت "موران" القهوة علي عجل ومدتْ يدها لتسلم على الشيخ "درويش" فقام الثاني _أي الشيخ درويش_وسلّم عليها وأحتضنها وقال لها : أهلًا "موران" وضحك وأردف ولا أقول لكِ كما يقول "مرقس" : "زعفران" ضحكتْ "موران وقالت : أنا أحب أسم" زعفران" وأسرعت لتعود للخارج وتواصل الاستماع للحديث. قال الشيخ "درويش" أنت ذكرتني بحكاية : كانت أمي الحاجة "فاطمة" رحمة الله عليها دائمًا كانت تطلب من أبي زيارة "طور سيناء" للتبرك بالقديسة" زوروسيا" أقصد القديسة "كاثرين" ودائمَا أبي كان يحكي لنا عنها وعن نضالها أمام الإمبراطور "مكسيمانوس" الطاغي الذي كان يتمتع بعذابها.

قال له القس "مرقس" جميل أن شعبنا المصري مها أختلفت الديانات، إلا أنه يعرف كل منهم أشياء عن الدين الآخر، على الرغم من وجود بعض العقول ينظرون إلى المسيحيين نظرة من سبقهم من الكَفَرة والكَذَبة والمنتقمين والمبغضين. وكانت الأغراض (وهي أمراض_وماأكثرها هنا في بلادنا) تُعمي ايصارهم عن الحق والنور وتجعلهم ان ينطحوا صخور العلم والفضيلة بقرون ضغنهم الواهية. وكان من الواجب علينا نحن أهل الدين أن نقول كلمتنا أسْوةً بالذين سبقونا إلى الدفاع عمن ليسوا بحاجة اليه (لأنهم يعملون لمجد الله وخير القريب. فلا يبطرهم المدح ولايقنطهم القدح) .

قال الشيخ وقد حلا له حديثه ما أفاد منه  : مارأيك في الشيطان أهو مُلحد؟

تبسم الأب "مرقس" ونظر لسقف الغرفة وقال : الشيطان يصدّق بوجود الله، فلا يعد مُلحد لأن المُلحد كافر بوجود الله، الشيطان عالم بوجود الله، المُلحد جحيمًا لأن نكران الله جحيم.  

قال له الشيخ : ليلة سمعنا هتاف وصراخ داخل الكنيسة، ما الأمر؟ تبسم له "مرقس" وأشار من النافذة على الكنيسة المجاورة وقال : هنا في الطابق الثالث حيث الغرفة المظلمة، ظهرت "العذراء" ليلة أمس، وكأنها بقعة ضوء! لذلك كان الناس يهتفون بإسمها.

نظر الشيخ له وهو يعجب وقال : وأنت يا "مرقس" بكل ماتاك الله من علمه تؤمن بهذا؟ رد عليه "مرقس" : أنا_أنا_أؤمن بالطبع لكني لم أراها من قبل، لكن أجدادنا حكوا أنهم رأوها وهي تطير، ونحن رجال الدين نصدقهم لأنهم غير كاذبون. حينها دخلت "موران" دون إستئذان وقالت : أنا رأيتها_رأيتها وهي تطير في السماء!! لأكثر من مرة رأيتها، وكانت تشبه بقعة الضوء، نظر "مرقس"لها وقام وأحتضنها، وقال لها : منذ الصغر وأنتِ ترين أشياء جميلة لايراها غيركِ.

خرجت "موران" لتستكمل سماعها من خلف الباب.

قال "مرقس" استكمالًا لحديثه : لقد احتفظنا من العلم فقط بتلك التعليمة المركزية التي تقول : بأن كل شئ خاضع لقوانين حتمية لا سبيل إلى معارضتها! متحققين من أن تلك التعليمة تنطبق على الآخر_الآخر الأقدم _من القدرية الإلهية للأشياء، لذلك سوف نتخلى عن بذل الجهد مثلما يتخلى الضعاف عن تدريبات العدائين، ولسوف ننكب على الأحاسيس بوسواس علمي هائل.

قاطع الشيخ "درويش" الأب"مرقس" قائلًا :

لن نأخذ أي شئ مأخذ الجد، ولن نعتبر أننا قد منحنا، بالفعل، واقعا آخر غير إحساساتنا التي هي ملاذنا كما لو كانت حياتنا مجهولة! نستكشفها وإذا كنا نستخدمها بمثابرة، ليس فقط في التأملات الإستيتقية ولكن التعبير أيضًا عن أنماطها ونتائجها فلأن الذي نكتبة_مثلًا_بمعزل عن أي رغبة في إقناع فكر الغير أو تحريك همته، هو بالكاد أشبه بالكلام بصوت عالي لقارئ صامت، كما لو من أجل منح الموضوعية للمتعة الذاتية للمعرفة.

شرب الشيخ القهوة بعد تحدث معه في أمور دينية كالعادة، وودع القس متفقَا معه علي لقاء في الأسبوع القادم، بينما كانت "موران" وقد شعرت بأن الشيخ سيخرج فأسرعتْ ودخلتْ غرفتها، وظل القس "مرقس" في مكتبه  ينظر إلى سقف غرفته التي تشبه السجن والموشاة بآلاف المجلدات والصور وشرائح الديانات القديمة من الكلدانيين، والمجوس، والمندائيين، وأنبياء العهد القديم، وكتب الهرامسة، والعَّرافين، والأطالس العملاقة. كان يراقب هالات الضوء العوالق المتصلبة تتناثر على الكُتب وعلى جلده.

 تلقى "مرقس"مكالمة هاتيفية من أخيه "جان" يقول له أن زوجته توفاها الله مماأحزن "مرقس" وجعل الأسى يدب في قلبه.

كانت "موران" تجلس في غرفتها تقرأ. كانت تحب القرءاة وهي مسترخية فوق أريكة، تتأرجح بين الصفحة والحلم. لحظة يسرقها الخيال ويأخذها نحو القصص الرومانسية الخيالية رامية بغطاء فوق قدميها، لجانبها أبريق مليئ بالقهوة المُرة تشرب منه عدة كؤوس برشفات قليلة.

دخل عليها أبيها وأخبرها بأنه سيسافر في الغد لفرنسا ليشد من عزم أخيه جراء موت زوجته. حزنت "موران" واضطربت عند  سماعها الخبر. وأشتد بها اليأس؛ وأجهشت بالبكاء حتي اليوم التالي. عند خروج "مرقس" من البيت قالت له "موران" أنتظر للغد سأذهب إلى الجامعة وأطلب أجازة وأسافر معك. لم يرحب الأب بالفكرة وقال لها : وجودكِ هنا سيكون أفضل . أنا أعلم انكِ تنوين السفر الى فلسطين فقالت له:نعم سأسافر لقد أتفقت مع "كمال" على هذا . قال لها مرقس" : لولا سفر "كمال" معكِ ماكنت وافقت لكِ على هذا السفر.قالت له وهي رافعة رأسها لأعلى : ابنتكِ يا "مرقس" مثل الرجال لاخوف عليها.

سمعت الجدة" تيريز"ماقاله ابنها لأبنته. قالت انها سوف تسافر معه لتعزية أبنها. قال" مرقس" من الأفضل ياأمي أن تظلين مع" موران"، رفضت الجدة بقوة وقالت : لا... لا... لابد من السفر أنا أريد أن أرى أبني.

خرج" مرقس"والجدة من الغرفة تاركينها لتخلد للنوم. ظلت" موران" تحدق في مرآتها لاتفكر في شئ إلا سافرها  حتى غفتْ عيناها. 

  

السردية الثالثة

_الحلم_

"الانفلات من أسر الزمان والمكان والخروج من اللحظة باللحظة في اللحظة"

هدأت الرياح الشمالية الباردة، واستقرت الشمس في قلب السماء، بعد أن حلتْ ضفائرها المليئة بالأنوار. فتنفستْ الأرض بالجمال والدفء، والربيع. بدأ الاخضرار يغمرُ الأعشاب الشاحبة المنتشرة في الأودية الصغيرة المُنحدرة من الروابي الجبلية القاحلة، كانت الشمس تتلألا من خلال أغصان الياسمين العارية عن الورق، وكان خرير النهر مسموع هنا وهناك، فجاءت الطيور البيضاء والملونة وملأت الأودية السفلية حيث تتجمعُ مياه الآبار.

كانت "موران" تدسُ رأسها بين أشجار "صريمة الجدي" التي يكتظ بها جبل "الكرمل" من الأسفل حيث تترك الزهور المنثورة بقعًا على الأرض الصفراء. أخذت تستنشق رائحتها  الحادةٍ والعابقة. تنزهت طويلًا حول الحدائق القريبة من الجبل واطئةٍ بقدميها أولي أوراق الصيف المُصفرة التي قذفتها الرياح. سارت عبر الأيكة على العشب الرطب مستمتعة بوشوشة النسيم الذي يهز الأشجار وباكورة الأصوات النائية للطبيعة المستيقظة من رقادها.

لمحتْ بطرفِ عينها أسرابٍ من طير "أبو منجل" فوق هذه الأشجار، وهدلت حمامة بيضاء ورفرفت فوق الورود النابتة فوق الجبل، كانت ورود من الزنبق متعددة الأنواع، مزروعة في دائرة حول صخرة كبيرة، وقد شكلت رسمًا جميلًا عبقريًا.

وقبل ان تشرعُ في صعود الجبل بدا لها هذا الجبل في نهاية مرج أخضر وهو يتلالأ تحت أشعة الشمس. الطريق المؤدي إليه ضيق وجرئ لاتكف الرياح عن الهبوب نحوه. الطريق يهوي منحدرًا من كلا الجانبين، وإلى الأسفل من كلا الجانبين يتدفق الماء، وكل المتجاورات هنا في الأعلى تجد طريقها نزلًا باتجاه عالمين مفترقين. برك المياه الصغيرة التي تلامس حذاء "موران" تسيل صوب الشمال حيث ينتهي المطاف بمائها في النهر. وقد كانت الشمس متعامدة على رأسها. فرفعتْ رأسها؛ كانت السماء البيضاء والزرقاء الكامدة تشكل فوقها قبّة لازوردية تتوغّل في الأفق خلف الحقول المزدهرة. وحين أرخت رأسها للأسفل رأت مجموعة من الفتيات يجلسن حول بركة مياه كبيرة، يضحكن ويقهقهن بصوت عالي، للفت انظار مجموعة من الشبان يجلسوا بجوارهن، فقالت في نفسها "لقد أصبحت الفتيات أكثر جراءة وأصبحن يضايقن الفتيان الذين كانوا يزدادون تأججًا أكثر وأكثر ويقتربون منهن،" آنذاك كان الشيطان يتجول بينهن يوسوس لهن ويجعل خواصرهن تكاد تنفلق من الضحك.

كانت "موران" تعلم جيدًا من خلال قراءتها عن هذا الجبل أنه مكان مُقدس، وكان عليها قبل البدء في تدوين أي ملاحظة أن تستئذن من "الأب كرتيف"الراهب المسؤول في مزكر الرهبنة الكاثوليكي ذلك المركز القابع على سفح الجبل، والمجاور لكنيسة "مريم العذراء".

زارت "موران" مركز الرهبنة، وبعده دخلت الكنيسة _أي كنيسة مريم العذراء _ لم تكن الكنيسة عظيمة مثل كنائس أخرى رأتها "موران"، كانت أشبه ببعض الكنائس الإيطالية، لاترتفعُ شاهقة نحو السماء بل تنتصب ثانية على الأرض، وغالبًا مايفوق عرضها ارتفاعها. غير أن المستوى الأول كان ينتهي شبيهًا في ذلك بقلعة، بصفوف من الشرفات المربعة، وفوق ذلك المستوى ترتفعُ بناية ثانية تبدو برجًا أكثر من كونها كنيسة، ويعلوها سقف مُدبب  قد ثقبته نوافذ خالية من الزخارف، كانت كنيسة ديرية وطيدة كما كان أسلافنا يبنون قديمًا. كانت الكنيسة تحتوي على ثلاث قاعات تشبه المباني الرومانية، في أحدى طرفيها جزء نصف دائري ناتئ بارز ويفصل مابين تلك القاعات أعمدة من خشب "الورد" وتعلوها تيجان من معدن البرونز محفورة كتابات وزخارف. تقوم على هذه الأعمدة أسقف زجاجية تسمح للشمس الدخول للقاعات كانت الأسوار مطلية باللون الأحمر الضارب إلى السواد، .

كان حوالي عشرين شخصًا قد سبقوها إلى الكنيسة وجلسوا في أماكن مُتفرقة. وأصبحت "موران" على بُعد خمسة صفوف من المُقدمة؛ أخذتْ مكانها على حافة الجهة اليُمنى لواحدة من المصاطب. رسمت علامة الصليب على وجهها ثم جلست تتأمل. لم يُعكر الصمت الخاشع إلا بعض الأصوات التي كان يصدرها أحد الرجال الذي كان يهيئ لاقطات الصوت التي ستستخدمها "الجوقة" للتراتيل. بين الحين والآخر كانت تسمع وقع خطوات يبدو أن أحدهم كان يحاول الجلوس في مكان آخر..

نظرتْ"موران" مشدوهة إلى اللوحات الكبيرة المُعلقة على الجدران أمامها تحت القبة؛ أحتلتْ قلبها لوحة للعذراء كانت ترتدي تاجًا ذهبيًا وتنظر مادة يديها إلى كل من ينظرُ إليها. ومن نور يشعُ من صدرها : كان المسيح،الفتى ينظرُ بوداعة هو الآخر ويمسكُ بيده اليسرى قلبه المُشع بالأنوار، أما راحته اليمنى فمبسوطة.

إلى يمين هذه اللوحة كانت واحدة أُخرى تظهر فيها مريم راكعة تصلي، ترتدي ملابس بلون السماء وقد غطى رأسها حِجاب أبيض وفوقه سرب من الملائكة يحلّقون في السماء، إلى يسارها ركع ملاك أكبر حجمًا من البقية، لكنه لم يكن ملاكًا عاديًا، بل يبدو أقرب إلى رجل بجناحين يرتدي ملابس بيضاء إنه الروح القدس يبشّر مريم بميلاد المسيح. نقلت عينها إلى الصورة الثالثة التي كان المسيح فيها رجلًا يقف في قلب السماء يرتدي ثوبًا أبيض وعباءة زرقاء يشعُ النور من وجهه وتحلق حوله عشرات الملائكة. فوق الصور امتزجت غيوم السماء بأمواج البحر على الجدار الداخلي لقبة الكنيسة. وظهر ملاكان صغيران يحملان تاجًا كانا على وشك أن يضعاه على رأس العذراء الجالسة على الشمس. لكنها بدت غير آبهة بالتتويج لأنها تنظر إلى المسيح الطفل الذي كان مقمّطًا في حضنها. لفتتْ "موران" انظار أحد الزائرين _ رجل متوسط العُمر تبدو على ملامحه أنه فارسي. تأكدت "موران" من هذا حين وجه سؤال لها : أأنتِ مصرية؟ فأجابته : نعم، فأومأ لها براسة ومد يده ليسلم عليها بحرارة بالغة أسترعتْ انتباها، وقال لها أنه يدعى "محمد" طبيب أمراض نفسية وعصبية مسلم من إيران!. هزت "موران" رأسها لتحيه.فقال لها : لاتستغربين أنا مسلم  لكني أحب زيارة الأماكن المسيحية خصوصًا التاريخي منها، رحبت به "موران" وطلبت الاستئذان لكن شد انتباها خاتم يلبسه الرجل في خنصر يديه اليسري، فقالت له : هل الحجر الذي بالخاتم من "الجَمَشتْ"؟ فقال لها وهو مُبتسم : وهل تفهمين في أنواع الأحجار؟ فقالت بعد ان هزت رأسها : أنا مدرس جيولوجيا وأهتم بالأحجار. فأجابها : لا بل هو من" الأمِترين"! فقالت له : الأمِترين هو نوع خاص من "الجَمَشتْ" فقال لها : صدقتين لكن هذا الحجر داخله قطعة من "السترين"الأصفر الشفاف إذا رفعتيها في النور يمكنكِ رؤية وسطها الذهبي الرائع! أخذت "موران" الخاتم بعد أن طلبت من الرجل خلعه، ورفعته للنور ونظرتْ بعين ونصف داخل الحجر وقالت : رائع، فقال لها : أتعلمين أن" الجَمَشتْ" يوسع آفاق طبيعتكِ الروحية؟" والسترين" ملائم لموازنة العواطف في الجسد؟ وجمعهما مع بعض أمر عظيم؟. هزت "موران" رأسها "أعلم_أعلم" وطلبت منه الخروج بعد أن قالت له "سررتُ بمعرفتك" آنذاك قال لها : هذا الخاتم لكِ! فنظرت "موران" نحو الخاتم وبدت هادئة ساكنة كالتمثال كأنها لم تسمع، وقد علا وجهها احمرار خفيف وهي تغض جفنيها فترسل أهدابها المقوسة الطويلة ظلالًا على خديها ورفعت رأسها للرجل وقالت له : هذا لي؟ كيف؟

_هذا هدية لكِ!

_لكنك لاتعرفني!

_وهل التعارف يُحسب بالوقت؟ لا بل يُحسب بالكيف

تمتمتْ" موران" بشفاتيها وما كانت تجدُ طريقة مُهذّبة للرفض حتى لو أرادت ذلك؛  وقالت : شكرًا على كل حال وأبتسمتْ وقالت : لكنه خاتم رجالى أأنت تراني رجل!؟ فضحكا الأثنان، وأخذتْ" موران" الخاتم ووضعته في أصبعها وشكرت الرجل وأستودعته. وأخذت تتمشى في الكنيسة

علي الرغم من وقت "موران" الغير مُتسع فقد غاصت روحها في الاجواء التي دائمًا تحبها : صوت التراتيل، البخور والأجراس، وملابس الكهنة المُزركشة والابتهالات خصوصًا عندما كان الترتيل باللغة الآرامية أو السريانية فكانت تشعر ان هذه الأصوات قادمة من زمن سحيق ومن بدايات غامضة.

*********************************************

خرجت "موران"من الكنيسة قاصدة أحد كهوف الجبل

فيما كان "كمال" ينتظرها خارج الكنيسة، وعند دخولهما من فتحة الكهف؛ تعثرت قدم "موران" بأحدى الأحجار الكبيرة جعلتها تسقط على الأرض، فأسرع" كمال"لألتقاتها، وحملها حتى أجلسها على أحدى الأحجار، وذهبَ مُسرعًا إلى الفندق لاحضار شئ ليربط قدماها. أحستْ بأنها أشد عُزلة من البوم النائم بين الأشجار. جلستْ القرفصاء تنظر إلى قدميها اللتين تلطخا ببقع الدم، كان التراب ناعمًا بين أصابع رجليها، وهي تعلم

جيدًا أن ساقيها العاريتين ملطختان لكنها لم تبالِ ولم يكن ذلك سوى واحد من المظاهر غير اللائقة التي كانت بادية عليها في ذلك اليوم، فقد تدلى شعرها الأسود اللامع إلى خصرها كتلًا متشابكة غير مربوطة، وكان بنطلونها الجينز به بعض الأتربة. وفجأة رأت ظل أسود يحجب عنها ضوء الشمس، فأرتجفت وأطالت برأسها للأعلى فوجدت عجوز ترتدي عباءة سوداء تنظرُ اليها،

وتمدُ لها أحدى يديها. نظرت إليها "موران" بتمعن واستغراب، كانت عيناها جاحِظتين، قد شابَ بياضهما حُمرةٌ من حرارة الجو وكان لهاثها يخرجُ بُخارًا حارًا. مدت المرأة يديها وأعطتها منديل، لتربط به ساقيه. أغمضتْ "موران" عينها وفتحتها لعلها تكون تحلم وقالت في نفسها "هل ماأراه حقيقة"؟ كان النهر يُسمع خريره من بعيد، وهو يضرب فجوات الجبل، كان أشبه بالريح بعيدًا متنائيًا عميقًا كدمدمة الأرض، ظنتْ أن الصوت يضجُ من داخل الجبل، وفجأة أنقطع الصوت. اعتراها الخوف بغتة وعبرته رعشة باردة، أرادت سؤال نفسها "هل كان الصوت للريح أم للنهر ولا الجبل؟"

وبدأ يهيئ لها أنها ترتقي في المدارج مع تلك المرأة حتي وصلن إلى النجوم، وظلتْ تصعد وتصعد إلى لامُنتهى وسمعتْ ورائها صَوتًا تخلّل في الغيم يدنو فيلمسُ قلبها. استفاقت "موران" بسرعة وعادت لوعيها لكن الشئ الذي أقلقها وجعلها تسرع للوصول إلى الفندق : وجود المنديل الأبيض معها!! فقالت لنفسها : "لو كانت تهيأت... فمن أعطاني المنديل؟!"

أسرعتْ للوصول إلى الفندق وفي طريقها وخز قلبها فجأة عندما سمعت بوضوح وقع قدمين تجريان خلفها، فأبطتْ خطوه وراحتْ ترهف السمع. اوقفت القدمان سيرها، فانهارتْ ركبتاها وتوقفت. وتوفقت القدمان بدورهما.

هَمَس صوتً مُرتعشً : "أنا أعرفُ من تكونين.. أعرف". لكنها استجمعتْ شجاعاتها بسرعة وقامت بدورة سريعة الى الخلف لكي يقع بصرها على صاحب الصوت قبل ان يتلاشى..لم تجدُ شئ، فخرتْ ساقطة على الأرض. هبتْ رياح حارة وتراقصتْ فوق رأسها ثم ما لبثتْ الريح أن اعتراها الجنون فعصفتْ بالأرض وعربدتْ حتى حجبت السماء عن الأرض، وما عادتْ "موران" تقوى على النهوض. تنفستْ ببطئ حتى أستجمعت قواها وركضت فاستكملت طريقها إلى الفندق خائفة تترقب وكان القمر يشرق بنوره الوادع فوقع ذلك في قلبها بردًا وسلامًا حتى دخلت الفندق.

جلست "موران" تلك الليلة في غرفتها. بعد أن تقابلت مع "كمال" وحكت له ما حدث لها، وقد كان يعجب لكلامها، فقال لها : عليكِ الذهاب إلى غرفتكِ الآن يبدو انكِ مُرهقة.

ظلت  "موران" ماكثة في غرفتها تنتظر شروق شمس اليوم التالي، مُمسكة بكوب من الماء بيدها تنظر إلى مابداخله بعينين فارغيتين كأن المجرةٍ أنتهت عند حدود غرفتها! . ثم حوّلت نظرها إلى التلفيزيون وحاولت جاهدة الا تتأثر سلبًا بالفيلم الذي كانت تعرضه احدى القنوات الفضائية. فهي لاتحب افلام الرعب، وتخشى شكل الدم، فبالرغم من ان مظهرها الخارجي يوحي بالقوة والعزم فإنها  تكره وتخاف من افلام الرعب. اغلقت التلفزيون من زر التحكم، وخلدت إلى سريرها، وما كادت تسترخي حتى سمعت صوت حركة في غرفتها عند الباب. تأكدت ان الصوت يشبه حفيف أوراق الشجر، ورأت أو أحسّت بشكل بشري يظهر أمامها داخل الباب. كان ما رأته مُحيرًا بالفعل، فهل هو شكل أو هيئة أو حركة؟ ابتلعت ريقها، فكان فمها جافًا لصدمتها وشدة خوفها،وفركتْ عينها أكثر من مرة لتتأكد أن ماتراه حقيقة وليس مجرد حلم من أحلام اليقظة التي تراودها. فالشكل الذي تراه أمام الباب لم يكن من العالم المادّي، واحتارت... استجمعتْ كل شجاعتها وتمكنت من التوجه همسًا إلى الشكل الظاهر أمامها :

"من الذي في الغرفة؟ من..." قفزت من السرير وأشعلت الأنوار. رأت الساعة الرقمية تشير إلى الرابعة وعشر صباحًا. وقع شعاع الفجر على المنضدة الصغيرة قُرب سريرها في غرفة الفندق، وكان على المنضدة ما يساعدها على النوم، علبة منوّم من النوع الذي يُباع دون وصفة طبية، ألقت ببعض الأقراص في فمها عساها أن تستجيب للنوم لكن.....، أصابها الصداع بشدة فجرتْ رجليها إلى حيث كانت حقيبتها، وهي من الجلد الطبيعي الإيطالي، أخرجتْ منها قارورة أدوية على تشكيلة من الحبّات فتشتْ فيها وأخذت ماتريد  فرمتْ في حلقها حبتين من المُسكن القوي أتبعتها بثلاثة أقراص آخرون لتضمن سرعة تحسنها، فنظرتْ إلى الهاتف وسحبته من فوق المنضدة، وأتصلت ب "كمال" وطلبت منه أن يحضر لها  في الغرفة لانها لاتقوى على المكوث وحدها في هذه الليلة. سردتْ "موران" على مسمع "كمال" تفاصيل ماحدث لها، وكان وجهه يبيضّ، وحدقتاه تتسّعان مع كل كلمة وعندما أنتهت من كلامها نظر إليها بدهشة "أسمعيني يا موران أعتقد أن مارأيتيه هو من الشيطان! سوف أبقى معكِ هذه الليلة.؛

خرج الصباح من عباءة الليل، وأشرقت شمسه الحارقة تضرب كل أركان الغرفة، وتتسللُ أشعتها الذهبية عبر كوة الغرفة. وأستيقظتْ "موران" على جرس الغرفة. كان "كمال" قد تركها بالأمس بعد أن تأكد انها غاصت في النوم، وجاءها ليطمئن عليها. دخل" كمال"الغرفة وتناولا الافطار سويًا،

أخترقتْ الشمس النافذة الوردية، فانعكستْ أشعتها على "كمال وموران" متوهجة في مزيج لونيّ رائع من الأزرق السماوي والأحمر القرمزي. وقف "كمال" مُعجبًا وهو يرفع رأسه نحو النوافذ، وأحسّ أنه في مُنتهى السعادة. وكانت "موران" قريبة منه تحاول جاهدة تذكير نفسها بأنها في فندق وليس في مبنى ضخم له أهمية تاريخية، ومعمارية، راقبتْ" موران" المارة من الشرفة مُستمتعة بنسمات مطلع الصيف العليلة وكانت تحمل أريج الحدائق المجاورة، أمسكتْ "موران" يد "كمال" بلطف ثم أستدارت، وقادته للداخل، حيث كانت قطعة فنية موضوعة بداخل صندوق زجاجي مُعلّق على الحائط، كانت قطعة صغيرة لاتتجاوز كف اليد، لكن طريقة وضعها والإضاءة المُسلّطة عليها أظهرتا تفاصيلها، راحت "موران" تشرح ل"كمال" "هذا رسم منقوش من القرون الوسطى ويمثل الفلسفة والفنون العقلية السبعة هذا مكتوب أسفل القطعة، هز" كمال"رأسه وقال : يبدو عليها الجمال.

بعد قليل خرجا الأثنان من الفندق قاصدين جبل "الكرمل".كانت الأشجار تمدُ ظلالها على الأعشاب، والشمس ترسم أحيانًا بقعًا بيضاء في منفرجات الأرض.

بينما كانا يتسلقان المسلك الوعر الملتف بالجبل،كانت الطرق تتحول تدريجيًا إلى دروب ضيقة مُحجرة لا يسلكها بالكاد إلا الحشرات. إذ رأيا الدير من الجهة الجنوبية. لم تذهل "موران"! الأسوار المحيطة بالدير من كل جانب والتي كان لها شبيه في كل بلدان العالم، وإنما أذهلتها ضخامة حجم ما عرفت فيما بعد أنه الصرح كانت بناية مُثمنة الزوايا تظهر من بعيد وكأنها رباعية الأضلاع، تنصب جوانبها الجنوبية على الرحبة التي أقيم فوقها الدير! بينما كانت الشمالية منها تبدو وكأنها نشأت من الجبل نفسه، وتتعرق منه عموديًا : أي في بعض النقاط تظهر الصخور من الأسفل، وكأنها تتعالى نحو السماء. بعد مسافة قصيرة سمعت جلبة وظهرت عند أحد المنعطفات زمرة مُضطربة من الرهبان؛ فتقدم أحدهم كان شيخًا أملط الوجه، رأسه خال من الشعر، وعيناه الكبيرتان زرقاوان وفمه صغير أحمر، كانت جلدته مُلتصقة بجمجمته كما لو كان أحد الموميات. عندما رأهم وقال لهم : مرحبًا بكم، من أنتم ولماذا صعدتم من هذا المسلك؟

فقالت "موران" : نحن من مصر جئنا لأسباب علمية، وبالأمس كنتُ أستئذنت من الأب "كرتيف" للمكوث على الجبل لاتمام بحثي.

فقال الراهب  بعد أن رحب بهم : هذا الجبل لكِ أن تتجولي فيه في أي وقت، وأي مكان إلا الجهة الجنوبية التي أنتم عليها الآن!

_لماذا أيها الأب؟

_يأبنتي لا تنتظرين منّي جواب لسؤالكِ! لكن... لكن لاتقتربوا من هنا ثانيًا هذا أفضل لكم ولنا.

كانتْ "موران" لايشغلها هذا المكان، كل ماكان يعنيها هي الصدوع بين كهوف الجبل لاأكثر، لكن من باب الفضول ظلت تتساءل مع "كمال" لماذا منعنا الراهب من هذا المكان بالذات؟ وخطت خطوتين مترددتين وتعثرتْ ثم توقفتْ، وكانت عينيها مُثبتان على الدير، أخذتْ تحدق بكل كيانها أبواب الدير، ثم قالتْ : يبدو ان هناك سر! فقال لها "كمال"  : لا سر! لقد آتينا هنا لهدف أوحد ولايشغلنا أسرار هذا الجبل

_عندك حق

بدأت "موران" في تدوين أولى ملاحظاتها بجوار الكهف، ويبدو انها نسيت ماجرى لها بالأمس!

قال لها "كمال" :  سأنزل إلى الشاطئ أستمتعُ بمنظر المياه الزرقاء، وعندما تفرغين من بحثكِ عليكِ أن تتبعيني للأسفل . بينما "موران" تجلس على صخرة جيرية يميل لونها للصُفرة. تعامدت الشمس على وجهها، مما جعلها تضطرب وتحاول وضع بعض الأوراق فوق رأسها، ومالتْ لليمين فمالت معها الشمس، وحطتْ فوق رأسها كان أحد الرهبان الشباب يقفُ في الجهة الشمالية للدير، وقد رأها فأقترب منها وطلب الجلوس لجوارها، ومن قبل قد أحضر بعضًا من شاي الأعشاب، وجلس معها. كانت "موران" مهتمة أن تعرف منه لماذا الراهب الآخر طلب منها أن تبتعدُ عن الجهة الجنوبية للدير،فقال لها : جواب سؤالكِ عن الأب "كرتيف" فقالت له وأين هو؟ فأجابها : هو داخل الدير. وعندما دخلت الدير وطلبت مقابلة الأب "كرتيف "وقد قال أحد الرهبان : ان الأب في غرفة المخطوطات ولايمكن الدخول عليه، أنتظرتْ "موران" حتى يخرج "كرتيف". وبعد أن طال الانتظار قامت "موران" وأخذت تصلي، كان الأب "كرتيف"قد خرج من الغرفة وبات يراقبها وهي تُصلي وأنتظر حتى فرغت من صلاتها ورحب بها وطلب منها الجلوس. فقالت له أيمكنني الدخول إلى هذه الغرفة؟ وأشارت ناحية غرفة صغيرة ذات باب حديدي مزخرف بالرسومات المسيحية. صمت "كرتيف" لفترة وقبل أن يلبي طلبها قال لها : أنتِ تصلين صلاة غريبة ياأبنتي! من الذي علمكِ هذه الصلاة؟ فقالت له : أبي هو من علمني، فقال لها : أنا انصحكِ بان تتلي الصلوات على وجهها الصحيح حسب تقاليد الكنيسة المُقدسة : وعلمها "ابانا الذي في السموات، والسلام عليكِ يامريم" وقال لها اتلي صلاة يسوع خاصة فانها تقربنا من الله اكثر من كافة الصلوات الأخرى وستنالين بذلك خلاص نفسكِ. أومأت "موران" برأسها _حاضر ساأفعل_ثم أمسك يدها ودخلا إلى الغرفة، وعند دخولها رأت مالاتراه في حياتها : قاعة لا يتلاءم ارتفاعها مع طولها وعرضها المتناهين؛ رأت طاولات من خشب البلوط مصنوعة من ألواح غير مصقولة من أخشاب الغابات. لم ينلها طلاء ابدًا. تحتوي على جميع مايلزم للنمنمة، والنسخ "محابر وريشات نحيفة، وبعد الكتب المتهالكة، والمخطوطات التي تظهر عليها مرور السنوات" فسألته ماهذا؟ فقال لها : هذا مكان مُخصص للعلماء الأثريين، وللمزخرفين الأكثر خبرة، وللمفهرسين وللناسخين. فنظرتْ حول الطاولات كان هناك بعض الرهبان وأمامهم مجموعة من الجلود المكتوب عليها بلغة لاتفهمها، ويبدو أن الرهبان كانوا بصدد سنّها وترجماتها، وكان بعضٍ منهم مُمسكين بريش نحيفة جدًا، وحجر أسفنجي لجعل الرق أملس؛ ومساطر لرسم السطور التي ستنتدُ فوقها الكتابة. وحذو كل كاتب، وفي أعلى السطح المنحدر لكل طاولة يوجد مقرأ، وكان لدى البعض حبر من الذهب ومن الألوان الأخرى. تعجبت "موران" مما رأت ووقفت مشدوها تتأمل هذا المكان العبق. خرجت "موران" من غرفة المخطوطات ومعها الأب "كرتيف" وذهبا إلى خارج الدير وجلسا على أحدى الصخور، نظر "كرتيف" إليها وقال : أرى في عينكِ حيرة! مابكِ؟ فقالت له وهي تضع يدها اليسرى على أحدى ركبتيها : لماذا منعنا الرهبان من السير في هذا المكان وأشارت بيدها الأخرى في الجهة الجنوبية؟ فقال لها وهو يحاول غض نظره عن يدها اليسري : هذا المكان له قدسيته، هذا المكان خاص جدًا أشبه بأرض مُقدسة ياأبنتي! لكن لماذا تسألين؟ فقالت له : للعلم فقط وضحكتْ.

نظر إلى السماء وهو مُبتسم وأستدار بكل جسمه، وأغمض عينيه المستديرتين الشبيهتين بعيني صقر نصف اغماضة وقال بعد أن تنهد : هل تظنين أن سؤالكِ له أجابة عندي؟ وهل أنتِ واثقة أنني ساأجيبكِ حتى لو كنت أعلم شيئًا؟

_قالت "موران" وهي تعجب لكلامه : أظن أنك الأكبر سننًا ومقامًا هنا، فكيف أن أسآل غيرك؟

_ولماذا في الأساس تسألين ياأبنتي؟

_مجرد فضول، أحب أن أعرف

_ياأبنتي لاتشغلين بالكِ بحكايات غابرة، عليكِ الاهتمام باأبحاثكِ

_كلامك هذا أيها الأب يزيد فضولي لمعرفة الحقيقة، يبدو أن الأمر فيه سر!

_لا ياأبنتي لا سر أبدًا، لكن الأمر يقتصر على الرهبان ورجال الدين الذين يؤمنون بالأمر، ويمكن لو حكيت لكِ أو حكيت لأي انسان عادي لا يُصدق، فلذلك نحن رجال الدين نتجنب هذا الأمر

_صدقني أيها الأب أنا أتشوق لسماع أي شئ يخص الدين

ساأقول لكِ، لكن ليس الآن

_أتفقنا، وهذا وعد منك

_هذا وعد منّي؛ لكن لو تسمحين ماهذا الذي في أصبع يدكِ اليسري؟

_هذا _هذا خاتم

_أنا أعلم أنه خاتم؛ لكن هذا خاتم للرجال يبدو من شكله هكذا!

_نعم هو هكذا، وقامتْ بخلعه ووضعته في كف "كرتيف" فنظر إليه بتمعن بعد أن أستغرق كثيرًا من الوقت وهو رفعه لأعلي في اتجاه الشمس؛ وقال بعد أن هز رأسه : يبدو هذا الخاتم مُريب! أخذت "موران" الخاتم ودسته في أصبعها.

رجع الأب "كرتيف" إلى الدير، و" موران" أستكملت أبحاثها. هبط المساء كما السيف، وقبل أن يتاح الوقت للجبل أن يتوهج باللون الأحمر الوردي تحول لون التربة إلى الأرجواني ومن ثم تحول مباشرة إلى الأسود ونور الشمس الذي كان قد صعد إلى قمم الأشجار، قفز إلى عنان السماء ومن ثم أختف. ويبدو أن "كمال" نسي نفسه أمام الشاطئ.

دخل الليل في حلكته وهي بكل حيوية تواصل بحثها، كان ذلك عند الساعة العاشرة مساءًا، فيما كان "كمال" قد سبقها للفندق، كانت هي قد انتبهتْ للوقت، فاستدارت ناحية الدير والقت عليه نظرة وداع، ورجعتْ إلى الفندق.

أَوَتْ "موران" إلى فراشها بعد أن دخلتْ غرفتها وهي مُتعبة

*********************************************

في صباح اليوم التالي : أستيقظتْ وهي مملؤة بالحيوية. نظرت من نافذة الغرفة رأت أمرًا بات يحيّرها : كانت هناك شجرة من الأشجار العملاقة قد أكتمل نموها، شجرة مُمتدة في الأفق حتى انها حجبتها من رؤية الجبل من أحدى جوانبها، كان حفيف أوراقها قد تسللُ إلى روحها فملأها بالطمأنينة، سكينة عجيبة حلتْ عليها، لكن لم يطل الأمر، فكان بين أوراق الشجرة بومة بنية اللون لها عينان واسعتان وزغب جناحيها يميل إلى الحُمرا، حملقتْ "موران" في في هذه البومة حتى انتبهتْ لها البومة فرفعتْ جناحيها للسماء، وطارت وحطتْ على حافة النافذة من القُرب من "موران" ففزعت منها وأغلقتْ زجاج النافذة. فإذ بالبومة تضربُ رأسها في الزجاج وتصدر صريخ كصريخ أمرأة، ودون أي مبرر رأت "موران" أن البومة تشبة العجوز التي رأتها من قبل بعينيها الجاحظتين، وردائها الأسود. صرختْ "موران" فطارت البومة، وألقت "موران" جسدها على السرير وهي مفزوعة تحاول تغطية عينها براحة يدها. لم يمر إلا دقيقة واحدة قد أستغرقتها "موران" وغاصتْ في نوم عميق فرأت أنثى فاجرة عارية ومُجردة من اللحم تنخرها ضفادع دنسة، وتمتصها ثعابين، وهي تجامع وحشًا مُنتفخ البطن، له قوائم يغطيها شعر أشعث وكان شدقه الفاحش يعلن هلاكه ورأت رجلًا نحيلًا على فراشه المُزخرف بأعمدة فاخرة، وقد بات فريسة لجميع الأبالسة، كان أحدهم يقتلع منه فمه! مع حشرجة الموت، ورأت آخر قد أستقر فوق كتفيه شيطان يغرس مخالبه في عينه، ورأت مخلوقات أخرى برأس تيس وشعر أسد. وفم فهد. ورأت أنها بحاجة إلى تناول اسرار المسيح، فذهبتْ إلى منطقة نائية خالية من الناس وأخذتْ تجري وتسأل عن كنيسة قريبة، كان الطقس باردًا تارة، وممطرا طورا، يزيده سوءا ريح عاتية جليدية وبرد قارص كانت الطريق تقطع جدولًا لكنها ما خطتْ عليه بضع خطوات حتى انكسر الجليد تحت رجلها وخضتْ في الماء حتى عُنقها ووصلت مبتلة إلى صلاة السحر فحضرتها وحضرتْ القداس الإلهي وبعد أن فرغت طلبتْ من الحارس أن يبقيها حتى الغداة في كوخ الحراسة وذلك لتمضي يومها بسلام دون ما يكدر هناء روحها، وقضت النهار كله في فرح وسعادة.

رن جرس الغرفة، دخل "كمال" فوجدها ترتجفُ من شدة الخوف، أحتضنها فأرتمتْ في حضنه، أحسّت بحرارة جسدها والقلق يساورها. ألقت نظرة على هاتفها  ووجدت أن الساعة تشير إلى السادسة وعشرون دقيقة صباحًا؛ وهو الوقت الذي يجب أن تكون فيه نائمة بعمق. كانت ذراع "كمال" تحيط بها وكان الدفء الذي شعرت به ينبعث منه. وبعد خرجا الأثنان وتوجهوا ناحية الجبل، كانت "موران" ليس لها رغبة في مواصلة أبحاثها في ذلك اليوم، فطلبتْ من "كمال"أن يدخل معها الدير. تقابلا الأثنان مع الأب "كرتيف" وقالت له "موران" أنا اليوم في أشد الحاجة كي أستمعُ لك اليوم، أريد الخروج من حالتي السيئة التي تمتلكُ منّي اليوم، فقال لها "الأب كرتيف" بعد أن عقد كمي عباءته المصنوعة من الحرير ذي اللون الأسود المفضفضة ووضعهما على ظهره :ما بكِ ياأبنتي؟

فقالت : حدث معي اليوم.. وقصت عليه ماحدث

فقال لها : يبدو عليكِ إنكِ محتاجة للصلاة الروحانية، فقام من مكانه وأحضر كوب من الماء، وأخذ يقرأ عليه بعض فقرات الانجيل، وأخذ بعد ذلك في صب الماء فوق رأسها، وقال لها : أنتِ ممسوسة من شيطان! فتعجبتْ من كلامه، وضحك "كمال" في صمت مما جعل الأب ينتبه له ويقول له _أي لكمال_أنت مُصلي؟

_تمتم "كمال" فأجابت "موران" بعد أن تبسمتْ : هو ليس بمُصلي ولا يعرفُ أي شئ عن الصلاة! فاأستدار "كمال" وخرج من الدير، وطلبت "موران" من الأب بعد أن أعتذرتْ له أن يستكمل حديث الأمس كما وعدها

أومأ الأب "كرتيف" برأسه : حاضر ياأبنتي ساأحكي لكِ خبر هذا الجبل، لكن أولًا أريد أخباركِ شيئًا فمنذ زمن بعيد أقام "يعقوب" معسكرًا واثناء الليل دخل شخص ما خيمته وتصارع معه حتى الفجر، وقَبَل "يعقوب"الصراع رغم إدراكه أن خصمه هو الله! وحتى الصباح لم يهزم؛ وتوقف الصراع عندما وافق الله أن يمنحه البركة "...... احيانًا تكون ثمة حاجة للصراع مع الرب". السماء لاترتضي سوي الإغراق في التوسّل، الأكف الضئيلة التي ترتفع طلبًا للرحمة باتت ترتعش من بطء الاستجابة لو أن الله مشغول عن الخلق لاكتفى منهم بالقليل وماامتلأت الأرض ملايين السنين بهم كطوفان هادر. هذاعلى الأقل ياأبنتي ماأود أن تعرفينه قبل أن أحكي لكِ القصة.

كانت "إسرائيل" وعاصمتها آنذالك : "السامرة" بشوارعها، وأسقف منازلها، وساحاتها، وميادينها مكتسية بكاملها برداء أخضر. انه موسم الاحتفال الخريفي الكبير، وقد أقام الإسرائيليون آلاف الخيام بأغصان الزيتون والكرمة وسعف النخيل، وفروع الصنوبر، والأرز، كما أمرهم رب إسرائيل. كان موسم الحصاد قد بدأ، وغرقت ساحات جبل "الكرمل"_ الذي نقفُ عليه الآن_بالدماء. ففي كل يوم كانت تُذبح قطعان من القرابين، وتقدم للحرق، كانت المدينة المُقدسة تنعم في خيرات رضا رب إسرائيل، وكان الجو المُقدس تترددُ فيه أصداء نفخ الأبواق، وكان الناس يغالون في الأكل والشراب، من شدة الرخاء، ورغد العيشة. كان التلاوة، والصلوات، والسجود توجه إلى رب إسرائيل. فيما كان الملك "أخاب" _ملك مملكة إسرائيل _يجلس في قصره _هذا القصر الذي بناه من العاج_يحتفل بانتصاراته التي لاتعد، وانجازاته التي ليس لها مثيل _قد كان يحب الثقافة، والفنون، ودائًما قائم للعدل في مملكته. كان قصر الملك "أخاب بن عمري" مزدانًا بممرات تغطيها قباب تستند الى أعمدة تحتها، كما يحوي على رصيف مشجر مزود بدرابزين من خشب الجميز حيث صفت الأعمدة والأوتاد من أجل إقامة خباء واقِ من الشمس والمطر.

 ذات يوم وقبل انبثاق نور النهار طلب "أخاب" من "عبوديا" ذاك الرجل الذي كان يحبه الملك وقد اعطاه شرف الأشراف على القصر_أن يأتيه بتلك السيدة التي تُدعى "راحيل" فتعجب "عبوديا" لطلب مولاه!!. الأمر الذي دفعه ليسأل الملك عن السبب، فرد عليه "أخاب" : منذ متى وأنت تسألني عن شئ أريده؟

_فقال "عبوديا" أنا أريد أن أطمئن عليك يامولاي، أن هذه السيدة ذات قدم شؤم، لم تدخل مكان إلا وحلت فيه اللعنة

_نفذ الأمر يا "عبوديا"

خرج" عبوديا" من الحُجرة الملكية وهو يتعجب لطلب الملك، لكن ليس له في الأمر شئ، ذهب إلى" جلعاد" حيث السيدة "راحيل"، ودخل إليها بيتها، وطلب منها أن تأتي معه للملك.

دخلتْ "راحيل" القصر الملكي، وأنتظرتْ حتى خرج عليها الملك من غرفته كانت الحلقة الذهبية التي تُحيط برأسه لتمسك ثيابه الفضفاضة تنتهي بريشة نعام تتدلى وراء كتفه وأبتسامته العريضة تكشفُ أسنانه وعيناه تبدوان حادتين كرؤوس السهام ومظهره كله ينم على مهابة الملوك الأمر الذي جعل "راحيل" ترتعد لما رأته. .

_أهلًا مولاي "أخاب بن عمري"

ضحك" أخاب" ضحكة كبيرة أزعجتْ السيدة ثم قال لها : مولاكِ_مولاكِ في حيرة، أتعلمين لماذا أتيتُ بكِ إليّ؟

_لا يا مولاي_أظنك تريد أن تمنحني من كرمك، وأموالك!

_لا يا "راحيل" الكرم والأموال للفقراء فقط؛ أما أنتِ فلعينة وملعونة!

_لا ياسيدي أنا ليست لعينة، أنا انسانة ضعيفة

_أنتِ ضعيفة بدون سحركِ، أما بسحركِ فاأنتِ أفعى

_شكرًا مولاي، ماذا تريدُ منيّ

_أريد معرفة أعدائي في هذه البلدةلاأعرف هم!

_أنا لاأعرفهم!

_أنا أعلم انكِ لاتعرفيهم، لكنكِ ممكن تعرفيهم بسحركِ_أنصرفي الآن وفي خلال يومين عليكِ أن تحضرين ومعكِ أسماء الذين يكرهونن

خرجت "راحيل" إلى بوابة الحرس الذين ألقوها بخارج القصر، وفجأة تعالى صوت "أخاب" في القصر وأمر الحراس بأن يأتوا بها ثانيًا إليه، وبعد أن حضرت إليه ثانيًا، قال لها

أنتِ ستأتينني بأسماء من يكرهوني، أريدكِ أيضًا ان تعرفين من يحبني! أنصرفي

خرجت "راحيل" لاتعلم ماذا تفعل، فهي لم تكن ساحرة كما أُشاع عنها هي فقط تستعمل ذكائها في أرضاء الناس كي يعطفوا عليها!، قالت في نفسها وهي ترتعش من الخوف : "لو مر اليومين ولم أخبر الملك على ماطلبه فسوف يذبحني"

 دخلتْ بيتها مهمومة لاتعلم ماذا تفعل، دخلت عليها العجوز"هيا"_بائعة الأقطان_ فلم تنتبه لها "راحيل" الأمر الذي أزعج "هيا" فأقتربتْ منها وشدتها من خصلة شعرها، وقالت لها : مابكِ؟ أني أراكِ حزينة؟

أخبرت "راحيل" بما طلبه الملك منها، وقالت لها : أنها سوف تغادر البلدة! وإلا ذبحني الملك.

تمهلت في التفكير "هيا" وقفزت وشدت شالها البالي وقالت لراحيل"لاتخافين قبل دخول العشية سأتيكِ بخبر من يحبوا الملك ومن يكرهوه. خرجت" هيا" بينما ظلتْ" راحيل"في مكانها تضرب الأرض برأسها وتنوح...

كانتْ" هيا" سيدة عجوز تعمل في تجارة الأقمشة بالاضافة انها كانت دائمًا ماتوفق الزيجات، ولهذا فكرتْ بسرعة وذهبتْ إلى بلدة" صيدا" حيث الملك "ابعثل" وكانت قد اعتادت زيارة أبنة الملك "ايزابل" تلك الفتاة الحسناء ذات الشعر الطويل المسدول، والعيون الفينيقية الخضراء! والشفتين الأرجوانيتين، كانت "ايزابل" تحب هذه العجوز  لأنها _أي هيا_كانت دائمًا تأتي إليها بأجود الأقمشة والبضائع النادرة

بينما" ايزابل" تجلسُ بين يدي ماشطتها ترجل لها شعرها وتضمخه بالطيب وتعقد ُ منه ماتعقدُ، وترسل ما ترسل، و"ايزابل" في غفلة عن نفسها وعن ماشطتها، وما تفتنُ فيه من أسباب زينتها. وجاءتها الخادمة تطلب منها مقابلة "هيا" فطلبت من الخادمة ان تأتيها بالسيدة "هيا" إلى غرفتها، وأنصرفت الماشطة، وجلسن الأثنان على الأريكة، كانت "ايزابل" ذات ذكاء مُفرط، ولها حنكة شديدة في قراءة الأفكار، فقبل أن تنطقُ" هيا" بكلمة نظرت إليها "ايزابل" وقالت بعد أشبكتْ أطراف أصابعها : ماذا عندكِ يا" هيا"؟

_ياسيدتي أنا جئتكِ ببضاعة جديدة_مزجاة_

_دعكِ من البضاعة الجديدة_لماذا أتيتين إليّ؟ أرى في عينيكِ أمر مُهم

_يا سيدتي.... يا سيدتي أتسمعين عن الملك" أخاب"؟

_"أخاب" ملك إسرائيل؟ ومن منا لم يسمعُ عنه، ذلك الرجل الوحش، الشجاع، الهياب_ومابه الملك؟

_لقد طلب من" راحيل" تلك العرافة بأن تخبره بأمر من يحبوه، ومن يكرهوه! 

_وماشأني بهذا الطلب؟

_سيدتي معنى أنه يطلب هذا أنه أصبح في شك من أمراء مملكته وشعبه، ويريد أن يعرف من هم المخلصون ومن....

كانت "هيا" تقص علي "ايزابل" لكن" ايزابل" كانت تَسرحُ بخيالها إلى أبعد مما تفكر فيه "هيا"

فقالت "ايزابل" أنا أعلم ان الملك له زوجات ثلاثة ورُزق منهن بأولاد كثرة، وأعلم أنه رجل يعبدُ رب وإله إسرائيل

_نعم يا سيدتي. كلامكِ صحيح

_ماذا يدور في عقلكِ أيتها العجوز الماكرة؟

_لا شئ _لا شئ..

_لا شئ؟ لاشئ يا "ايزابل" انها تقول لاشئ.. إذن فهو كل شئ.

أطرقت "ايزابيل" فترة وهي تسرح في خيالها الخصب ثم اردفت قائلة بعد أن نظرت للعحوز "هيا" :

_سوف أقول لكِ ما يرضيكِ يا "هيا" عليكِ الذهاب إلي "راحيل"وأخبريها أن تخبر الملك بأنها رأت حلمًا له : انه يركب بُراق، وعلى رأسه تاج من الماس وأن الأميرة" ايزابل" تجلس لجواره على البراق وعلى يديها أثنان من الصبيان من صلب الملك!

_فهمتكِ ياسيدتي_لكن لاتنسي خادمتكِ اللي بتحبكِ

_لاتخافين_خذي هذا... ماهذا؟ انها نقود ذهبية_شكرًا مولاتي، لكن في إشكال؟ فهذا بشأن من يحبوه، أما بشأن من يكرهوه؟

_من يكرهوه_من يكرهوه ياايزابل_من؟ : الأنبياء والرعاه في بلده

_أتقصدين أنبياء بني إسرائيل؟

_نعم يا "هيا"

_لكن ياسيدتي الملك لن يصدق هذا!

_سيصدق يا "هيا" حين تقول له "راحيل" أن الأنبياء يريدون الجلوس على عرش المملكة

_أوامركِ ياسيدتي.

كان "كمال" آنذاك قد دخل الدير وطلب من "موران" أن تأتي معه إلى الفندق لأنه شعر بضربة شمس قوية جعلته غير متزن، الأمر الذي جعل" موران" أن تستأذن من الأب "كرتيف" للذهاب إلى الفندق؛ طالبة منه بأن يعدها باستكمال الحكاية في الغد.

بينما" موران" تسير إلى الفندق تتقدم خطوة وتقف، لاتريد أن تغادر الجبل، كانت مُستمتعة بكلام الراهب، نظرتْ إلى "كمال" وقالت : أنت السبب! لما أصبتُ بضربة شمس ؟

_فقال لها : أعدكِ أن أقُل للشمس لاتضربني  ثانيِا_أو على الأقل شأخبركِ أولًا!!.

ذهبا الأثنان إلى الفندق، وفي الطريق طوق "كمال" يده اليسرى حول خصر "موران" النحيل فكانت تسير معه مستندة الى هذه اليد التي تضمها فلقد كان الهواء حارًا ورطبًا والشمس تكاد تنفجر من السماء. دخلت" موران" غرفتها وأخذت تدّون كل الكلام اللي دار بينها وبين الراهب وهي في حالة إنتشاء.

صباح اليوم التالي، أثناء احتساء القهوة بالحليب في صالة الفندق، راحت "موران" تستعرض مع "كمال" بعض الصور التي ألتقتطها بالأمس للجبل من نافذة الغرفة، أخذت "موران" رشفة من الفنجان، وتساءلت هل تظنني يا "كمال" سأنجح في مُهمتي؟

ضحك "كمال" وقال : أي مُهمة؟

_فقالت له : أنت نسيت ماأحضرنا من أجله؟

_لا لم أنسى، لكن أني أراكِ تهتمين بسماع الخرافات من ذلك الراهب أكثر من السير في أبحاثكِ التي أحضرتيني من أجله

_ليس هكذا يا "كمال" لكن كلام الراهب أثار فضولي لمعرفة الحكاية

_يا "موران" ليس لدينا وقت لسماع حكايات من أحد

علّقت "موران" مُتهكمة : يا لك من مُحبط"

خرجتْ" موران"إلى الجبل ورفض" كمال"الذهاب معها، وقال أنه : سيبقى في الفندق لسماع مباراة كرة القدم اليوم.

عند صعود" موران"الجبل وفي كل خطوة لها كانت تسمع دب خطوات ورائها، الأمر الذي أزعجها، وجعلها تسرع الخُطي حتى وصلت عند بوابة الدير، وكان عليها الانتظار حتي يفرغ الأب" كرتيف" من عمله داخل الدير، كانت تريد أن تتأكد من نوعية الصخور التي تملئ الجبل، بحكم دراستها، وبعد تحاول المقارنة بين هذه الصخور وطبيعة الجبل، وأنواع البراكين التي صدعت أجزاء كبيرة منه، وكانت تحاول جاهدة ان تثبت لنفسها أولًا أن الأحجار التي بنيت عليها رسالتها، موجود بالفعل في الأرض، وخصوصًا جبل "الكرمل" وأنه ما. ادعته جريدة "هآرتس" مجرد تكهنات لا أكثر. أخذت لأكثر من ساعتين تجلس على صخرة كبيرة، وتدّون كل ملاحظاتها عن طبيعة التربة فوق الجبل، وأثار البراكين التي ضربته.

***************************************

خرج الأب "كرتيف" وتقابل مع "موران"

قالت له وهي تتوقُ لحديثة الذي وعدها باستكماله : ممكن أعرف ماذا فعلت "ايزابل" بعد أن طلبت من "هيا" أن تذهب" لراحيل" وتخبرها بما قالته؟

تبسم الأب "كرتيف" وقال لها يبدو عليكِ التشوق لسماع ماحدث؟

_نعم_أنا أشتاق لسماع باقي الحكاية

نظرا الراهب إلى سفح الجبل وقال في تنهيدة عنيفة : سيشهد هذا الجبل على ماأقوله :

بعد أن خرجت "هيا" من قصر "أبعثل" رجعت إلى" راحيل" فيما كانت الثانية _أي "راحيل" تجلسُ على الأرض تغرف بأيديها الرمال وتضعها فوق رأسها،وقد كان الليل عمَّ سكونه  وحين نظرت إلى "هيا" كطفل حائرٍ. فتحتْ عينيها الواسعتين. فقفزت نظرتها المُتسألة وارتمت على صدرها وهي تبكي، فمدت "هيا" يدها وقالت لها بعد أن أزاحت بيدها خصلات شعرها المفروش فوق وجهها : الأمر الآن أصبح في يدي! فيكِ أن  تذهبين إلى الملك، وتخبريه أنكِ رأيتين في حلمكِ" الأميرة" ايزابل" وهي لجواره ويحملان اثنان من الصبيان فوق البراق...... وأما عن أمر من يكرهوه عليكِ أن تقولين : هم الأنبياء الذين يعيشون في أرض إسرائيل!!

_قالت لها "راحيل"وهي غير مُقتنعة بكلامها : أتظنين أن الملك" أخاب"ذلك الداهية سيصدقني؟ ليس لديكِ اختيار آخر وإلا.... قتلكِ

_سأخبره_لكن أنتِ تقصدين "ايزابيل أبنة أبعثل"؟

_نعم.

بعد أن أستمع الملك "أخاب بن عمري" لكلام تلك السيدة، لم يقتنع بكلامها وخر على الأرض ضاحكًا وقال : من يكرهونني هم أنبياء بني إسرائيل؟ يالكِ من عجوز مخبولة، أما الذين يحبونني : تلك المرأة أبنة" أبعثل" ذلك الكهل

المعتوه؟ أكيد أبنته هي أيضًا مثله. فأجابت "راحيل" أنا لا أكذب من يكرهوك هم أنبياء بين إسرائيل، ولأحد غيرهم

يحبك غير أبنة" أبعثل" فلقد رأيتها في منامي!

فقال لها بعد رفع حاجبيه لأعلى وأخذ يبرمُ لحيته الكثة : دعكِ مِن مَن يكرهوني، لكن أخبريني عن المرأة التي تزعمين أنها تحبني؟ يا مولاي أنني رأيتها كما البدر في ليلة تمامه، لها عينين واسعيتن، وشفاه كويزية، وشعرها يُسدل على خصرها، ويهفهفُ مع كل نسمة هواء، وساقيها بيضاوان! بطنها عليها كالعساجد، وحنطة سرتها كمدينة من الزهور، وعجين فخذيها بالقرنفل والأس، خلخالها خشخشة الماء وبياض اللبن وفضة الغيم....

_لقد أشتقت لرؤيا تلك المرأة المعجونة بأيدي الآلهة الفينيقية. هذا ما قاله" أخاب "بعد أن انصرفت السيدة "راحيل". جلس على كرسيه وآخذ يحملق في سقف القصر وهو يتغنى باسمها، متخيلًا شعرها المفتول الذي يطوّ ق عينيها المتوقّدين وصدرها الكاعب! فطلب من "عبوديا" بإستدعاء رئيس الكهنة، وبعد أن تشاور معه قال له : رئيس الكهنة : أنت على صواب لقد سمعتُ عن جمال تلك المرأة وما لها من فرط الأنوثة، لكن يا سيدي وما أمر زوجاتكِ؟

_لا عليك من زوجاتي_عليك احضار تلك الفتاة هنا!

_لايجوز يا "أخاب" العادات والتقاليد تحكمنا، من الأفضل أن نذهب لأبيها "أبعثل" ونطلب منه أن تتزوجها

ضحك "أخاب" وأومأ برأسة : لا يجوز! أتردني أن أذهب إلى أرض "صيدرون" القاحلة، وأرى آلهتها المنحوتة من الحجر والصخر، من أجل أحدى نسائها؟ يبدو أن نسائها أسطوريات، مغسولات باللبن والعطر؟ فقال له "عبوديا" يمكنا اعتبار هذا رحلة!

_سكت "أخاب"وراح يمضغ شاربه وهو يفكر ثم أومأ برأسه ثانيًا : موافق علينا الذهاب اليوم.

وبعد أن أعد له "عبوديا" موكبه المُطرف، وأخذ الجنود يهتفون بأسم الملك المُظفر طيلة الطريق.

كانت "ايزابل" تنتظر ما بين الحين والآخر طلب" أخاب" لزواجها، لذلك كانت على أتم الاستعداد لمقابلته، على صدرها وضعتْ علامة المحبة وصكوك الغفران.خرجت "ايزابيل" تلك الليلة من قصر أبيها أجمل قصور تلك الجزيرة وأثمنها رياشا وزخرفًا، ومعها خادمتها، ومشت في ممر مسقوف يؤدي إلى شرفة تطل على النهر، فجلست على أريكة مغشاة بالديباج المزركش، وخادمتها تعزف على العود.  تعودت أن تطلب إليها إنشادها، وهي مستغرقة في هواجسها تنظر

 إلى النهر وهو يبدو كالفضة اللامعة من تكسر نور القمر على سطحه.

ولمّا جاءها الملك ليتزوجها رآها كملكة حولها نساء كثيرات يحملون أوشحتها الملونة، والخصيان يحملونة العطور الحمراء القانية على أطباق من فضة. ففُتن بعينيها اللازورديتين، وساقيها اللتين أخذتا تهتزان على الأرض، وبرنة شفتيها الخلخاليتين وهما تدعبان الكلام بخنوعٍ، بأنفها الشهواني الذي يُسْحر اللذة!و بصدرها الذي يترجرجُ على ساحل المرمرِ! بخدها الذي يأسر خديعة الشمس وفخديها المكتنزتين .

وحين طلب الزواج منها رفضتْ وقالت له : أنت متزوج من نساء آخرون، ولو كان بدٍ من زواجنا، فجميع نساؤك يرحلن عن القصر! وأبقى أنا بمفردي. صمت" أخاب" وأخذ يدور حولها يتأمل جسدها البض، ورائحة نهديها الممزوجين بالزنبق، وردفيها المصبوبتان تحت قاعدتها الابريزية، وهو يلهث ويسيل روالة. قال لها : لكِ ماطلبتين وأقترب منها لينال من فمها مايشتهيه، لكنها أمتنعتْ عنه، ووضعت يدها فوق صدره وقالت : يبدو أنه سيتوقف" قلبك" وزجرت نفسها وأدرعت بشالها المعقود فوق رأسه، وأستنشق الملك رائحتها الطيبة، وألقى قبضته وأمسك كتفيها، وتوسل إليها بانعقاد حاجبيه وتهدُّل شفته وبكل رغبة. أن تتركه يمدُ خصره لخصرها كي يُنهي مايريده، فدفعته عنها فتكسَّرت روحه وازداد تشبثه بها فألقاها على الاريكة وكان فوقها يهتز وقد أرتجف من عُمق رغبته الطامحة إلى أن أنهى ارتواءه، وهي تداعب عصفوره الأملس بيديها، على أمل أن يأخذها كمحظية من محظياته، اللا تعدُ من بنات الملوك، واللائي تجاوز عددهن المائة.

******************************************

  عندما تزوج "أخاب" من "ايزابل" وكان ذلك في سنة ٨٧٦ ق. م كان الناس من قبل في "صيدرون"  يتأهبون للاحتفال بالزواج  فأخذوا في إقامة معالم الزينة، ناصبين الأعلام الملونة فوق منازلهم، وعلقوا طاقات الرياحين على أبوابها. ثم تقاطروا إلى الأسواق يبتاعون الألبسة الجديدة لهم ولأولادهم، وأطباق الحلوى وغيرها.  ولو دخلت المنازل لرأيت النساء قد أوقدن النيران لإعداد الأطعمة والحلوى وزينوا

الحمامات للاغتسال. ولرأيت الجواري مشتغلات بتزيني الأولاد والطبخ وعجن الأرغفة.

وكانوا يتعاملون في ذلك اليوم بالنقود الجديدة ويتهادون الحبوب الجديدة على أطباق من الفضة ونحوها، ويترامون بالبيض والثمار.

كان شعب صيدرون آنذاك متأهب للاحتفال إذا بموكب جليل يخترق الأسواق ويشغلهم عما هم فيه لفخامته وغرابته. وهو مؤلَّف من مركبة حربية أشبه بالغرفة منها بالعربة، فوقها قبة من الفضة المزينة بالذهب؛ قائمة على أعمدة من الخشب الملون، بينها ستائر من الديباج الأزرق، ويجر المركبة جوادان مجللان بالحرير المزركش، وقد ركب السائق أحدهما وفي يده سوط يسوقهما به. وعواد كبرية يصوبهما بها إذا عاجا عن القصد. ويكتنف المركبة حجاب من  الستائر على الراكبين فلا يراهم أحد .

فلما نزلت  من المركبة _أي ايزابيل"_ ورأت الناس وقوفًا لانتظارها وهم شاخصون بأبصارهم إليها، حيَّتهم على عجل خوفًا من ظهور اضطرابها وهي حريصة على كتمان ما بها!!

كانت" ايزابل" متشددة في عبادتها للإله" بعل" إله آباءها، وأجدادها، وكان بعض أهل البلدة يعلمون هذا، فخشيت" ايزابيل"من ردة فعل المتشددين في عبادة إله بن إسرائيل، وحين رأت أن "أخاب" يعبد رب بني إسرائيل كانت تهزأ منه وتقول له أين ربك هذا الذي تعبده! أنت تعبد لاشئ!!؟ فأخذتْ تطلقُ اللعنات على ربه، وعلى مدينته التي راحت تعجُ بالعاهرات والمومسات وعبدة الآلهة القديمة. ظلت يوميًا تذكره بهذا حتى بدأ الملك في التفكير بترك عبادة رب إسرائيل، وبدأ الخبر ينتشر بين الكهنة، الأمر الذي فزع منه رئيسهم _أي رئيس الكهنة_، فذهب للملك ليحذره من ترك العبادة، لكن الملك كان مفتون بجمال تلك اللعينة، فكان لايصغى لأي شخص.

اعتادت"ايزابل" زيارة قصر أبيها كل أسبوع_ليس حبًا في أبيها أو أهلها_كانت تحاول نقل الصنم "بعل" من "صيدرون إلى مملكتها في إسرائيل_وفي أحدى الزيارات حين بلغ موكب" ايزابل"قصر أبيها عند العشاء، فرأت الحديقة تتلألأ بماء الورود و المصابيح، وقد غصت بجماهير الناس وما يحملونه من الهدايا والتحف إلىها كعادتهم في مثل هذه الزيارة. على أنهم في الزيارات السابقة كانت وجوههم تطفح سرورا وبهجة. وكانوا يقرعون طبولهم ويضربون طنابريهم. أما اليوم فقد أتوا بآلات الطرب لكنهم لم يضربوا عليها تهيبًا لمرض الملك "أبعثل" والدها فرأتهم "ايزابل"

متفرقين_ زرافات ووحدانًا_ في طرقات الحديقة وعلى السلم، وعليهم ألبسة العيد من الخز والديباج، وكلهم وقوف يتهامسون ويتلفت بعضهم إلى بعض وعلامات الأسف بادية على وجوههم. وبباب الحديقة الدواب تحمل التحف من الثياب والأطياب والفاكهة. والخدم يشتغلون بإنزالها وحملها إلى داخل القصر.

ولما وصلت مركبة "ايزابل" إلى باب القصرتفرق الناس إلى الجانبني وشغلوا بمشاهدتها عما هم فيه. وكانوا يحبونها ويتبركون بطلعتها ويتوسمون فيها الخير وكأنها هي من سيأتي بخيرات بني إسرائيل إليهم. فلما نزلت من المركبة هتفوا بالسلام عليها، وسري عنهم حين رأوا وجهها ونسوا ما كانوا فيه من القلق. كأنهم يحسبون دخولها على أبيها يذهب مرضه ويعافيه.

أما هي فحنت رأسها للسلام تلطفًا. وخيل إليهم أنها ابتسمت لفرط ما في محياها من الوداعة والإيناس. وكانت الخادمة قد نزلت فسبقتها ومشت إلى جانبها، والناس يوسعون الطريق ويقفون احتراما حتى دخلت "ايزابيل" الحديقة ماشية بجلال ورشاقة وصعدت درجات السلم المؤدي إلى إيوان القصر وهي تتفرس في الوجوه خلسة لعلها ترى أحد من عاشقيها السابقين.

وكان أهل القصر في انتظارها على أحر من الجمر لما تحمل من هدايا وقطوفَا لهم من بيت الملك "أخاب"

وبعد أن دخلت على أبيها وقبلت يده قالت له : أن الملك "أخاب" أصبح كالخاتم في أصبعها، وعند عودتها ستطلب منه نقل الإله "بعل".

فيما كان "ايليا" ذلك الرجل الصالح _الذي سأحكي لكِ عن كراماته_  كان يحب أنبياء بني إسرائيل، يعمل في دكانه بالنجارة، وكانت له كرمات بين الناس، وبين أهله منذ الصغر، منذ طفولته كان يسمعُ أصواتًا، ويتحدث مع هالات نورانية قد علم بعد ذلك أنهم ملائكة!، كان هذا عندما طلب منه والده الذهاب إلى أحد الرهاب الإسرائيليون، كان هذا الراهب يعرف تمامًا أن هذا الصبي سوف يصبح نبي الأمر الذي كلفه أن يجالس هذا الصبي كثيرًا، وبعد فترة ذهب الراهب إلى والديّ الصبي الذين بالطبغ أخبراه أن أبنهم دائمًا ما يقول انه يرى بعض الرؤى التي لايستطيع أن يفسرها، فكان يرى بحار بعيدة، جبال تسكنها مخلوقات عجيبة، وعجلات بأجنحة، وعيون. كبر الصبي وكبرت معه الرؤى التي تحولت وفي نهاية الأمر أن يسمع هذا الرجل أصواتًا موجهة له هو فقط، علم الرجل أن الأصوات التي تحدثه هي من عند الرب الواحد، وهذه الأصوات التي نطق بها ملاك الرب، كانت أوامر. الأمر الذي دعاه ليصغى لها جيدًا وينفذ الأوامر.

بينما النبي "ايليا" دائمًا ماكان يتجول في الأسواق ليرى انبياء الله وهم يسيرون في شوارع "جلعاد"

وقد سمع من الناس أن "الملك" أخاب"ترك عبادة رب بني إسرائيل، وأنه ينوي بناء معبد لإله زوجته" ايزابل"على جبل" الكرمل" هذا الأمر أقلقه جدًا، فهو يعلم أن" أخاب" بأمكانه السيطرة على شعب إسرائيل ولو حدث هذا فسيتجهون إلى ترك عبادة رب إسرائيل، مما جعل الفوضى تدبُ في شوارع" جلعاد، ويهوذا، والسامرة" فكان "ايليا" لايملك إلا الدعاة إلي رب إسرائيل بأن يرفع هذه المحنة عن الأمة، فظهر له ملاك الرب في هيئة نور لايقدر على النظر إليه، فعلم "ايليا" أن الرب سيوجه له مهمة ثقيلة، الأمر الذي أخافه وكان دائمًا يقول : "لاقدرة لديّ على تغيير هذا الشعب " في تلك اللحظة ظهر "اليشع"تلميذ "ايليا" فوق قمة التل الأخضر في الموقع الذي كان يجلس فيه "ايليا" كان يُمسك عصا معقوفة اقتطعها وراح يقطع مسافة الطريق التي تبدأ من سنديانة القرمز البرية وكان يضرب بالعصا على الأرض أثناء سيره. علم وقتها" ايليا"بأن" اليشع"موجه اليه من قبل الرب.

آنذاك طلبت" موران" من الراهب بعد أن انصرم النهار، وامتدت الظلال أن يستكملا في الغد لأنها شعرت بدوار جعلها لاتصغى جيدًا لكلامه، شعرتْ فجأة بالصمت يلفها وانها لاتعي شئ حتى الطيور التي تعودت أن تسمعها طيلة الوقت صمتت وكأنها خلدت لعشها. رجعت الفندق وهي مُتعبة، كان "كمال" في انتظرها وحين رآها طلب منها أت تجلس معه في الصالة؛ لكنها كانت مُتعبة. صعدتْ إلى غرفتها، وأستلقت على سريرها بملابسها، وكان" كمال" بالقرب من غرفته فتراجع وذهب إلى غرفتها، ودخل دون أن يستأذن، فوجد  "موران" مستلقية علي ظهرها،، ويبدو عليها التعب، فقد نسيتْ خلع حذائها البني، أقترب منها "كمال" دون أن يصدر أي صوت وقام بخلعُ حذائها، وألقاه تحت السرير وأستدار ناحية الباب ليخرج دون أن يزعجها، كان ظهر الباب مُزخرف بالمرايا نظر "كمال" فيها ليتأكد من جمال هندامه، ولمحتْ عيناه ساقيّ "موران" البيضاوين، فحملق لهم في المرايا، وأستدار وأقترب من "موران" وأخذ الدم يندفعُ في عروقه وهو يبتلعُ ريقة، وضع يده فوق ساقيها برفق وأخذ يرتفع بهم لأعلى حتي منتصف الركبتين، وأخذ يمسدُ بلسانه حتى سال رواله، وبدأ يتصببُ العرق من جبهته، فأخرج يده من تحت الجونلة، وقام برفع الجونله إلى أعلى الفخذين وأخذ يدعكُ أعضائه بوهج أعضائها وتوضأ بخمرة عرقها المُزبد، وغسل أطرافها بريقه المُحترق، وسارت يداه تدور في فلك جسدِها المُشع، وطراوة أعضائه وزهوره المتوهجة المترامية الأطراف. فيما كانت هي تستمتعُ وتقلب نظرها في سقف الغرفة، وظنتْ انها تحلمُ فإذ بها تفرجُ عن قمرها الوحيد من تحت حنطة بطنها، وتحاول أن تتقلبُ على فرشها فتفيق! وتنظر إلى مرآة الباب ففزعتْ وركلتْ "كمال" بأرجلها، وصرخت صرخة لوم وعتاب، فأنتبه لها "كمال" وقام وأستدار وخرج من الباب، وأخذ يلوم نفسه تارة، وأخرى يسرح في جسد "موران" المغسول باللبن، والمعجون بالعسل المُصفي، فيما كانت "موران" تقف أمام المرآة تتأمل في جسدها المطبوع عليه أصابع "كمال" وتقول في نفسها :

"يا ليته كان حلمُ ويا ليتني ماأستفقتُ منه "

أخذتْ تمررُ يدِها فوق صدرها وكانت قطرةٍ صغيرةٍ من ريقه تتلألا علي طرف ساقِها، ففكتْ عروة ثوبها، وألقت بطنها فوق شراشف الرغبة المُحتدمة!!. كانت هنا ببساطة، في وضوح مطلق تنظر إلى نفسها كما لو انها تلعب دورًا كإحدى الممثلات فوق خشبة المسرح، وبازدواجيتها تلك راحت تراقب بنظرة ذاهلة نفسها.. لم تعد هي تلك التي كان باستطاعتها التواجد في عالم الحياة والإغواء.

كان "كمال" يدور في غرفته كالمجنون يحاول إبعاد صورة جسدِها عن خياله في دورات متتابعة وهو يدعكُ أنفه برحيق جسدها البض، فأخذ يُجدف في الهواء، ويضرب رأسه في العماء الغُفل.

قبل دخول الفجر، وقد قرر "كمال" أن يرجعُ إلى مصر في الصباح، وهو نادم على مافعله باأبنة عمِه، ظل يفكر في الأمر، وقال في نفسه : "هذه المرة أعرف أين أمضي، لن تكون هناك ساعة ماضية وساعة قادمة، الأمر الآن لعبة، ساألعب وأنا الذي لم أعرف قط كيف ألعب. اشتقت لذلك على الرغم من معرفتي باستحالته "

أنار جميع الأضواء نظر حوله جيدًا وبدأ يلعب مع نفسه لعبة تسمى "الغماية" في البداية سار كل شئ على مايرام، لكن لم يمض وقت طويل حتى عاد في الظلام، قفز ناهضًا فحاول أن يتصل "بموران" عبر الهاتف ليعتذر لها ويودعها، لكنها لاتجيبه، الأمر الذي دفعه للذهاب إلي غرفتها ليطمئن عليها، حاول كثيرًا طرق الباب لكن لاأحد يفتح، ذاد قلقه ففتح الباب فوجدها مستلقية على ظهرها ودون أن يقتربُ منها قال لها : أعلم أنني أخطأت وأعلم إنكِ لن تغفرين لي، أنا سأسافر في الصباح وكنت أريد أن أطمئن عليكِ.... "موران_موران" أنتِ تستمعي لي؟

فأقترب منها وظن في نفسه أنها في حالة إغماء، وضع يده فوق رأسها وأخذ يملسُ على شعرها، فأستدارت هي وألقت يداها فوق رأسه وسحبته لجوارها على الفراش، وتوجتْ نفسها ملكة على جسده، كانت قبلات "كمال" أشد التهاما من النيران وهي تمر عليها وتنطبع على جسدها وبدت كأنها محمولة على إعصار. اعتراها لين فقدت معه كل احساسها فانقلبت على السرير بين لبد الأسد خائرة القوى. وبإيماءة خفيفة منها أدخلته في تويجة جسدها، وأصبحت أصابعها جنود مُجندة تغتال نتوءات جسده، وأعتلته وكانت الرغبة المتوجة كشجرة متوحشة، فالتصقا لصقًا....... كان الأمر في البداية مُمتعًا مثل مباراة شطرنج كبرى تُقام بين قارتين. لقد زاد اهتمام كلٍ بالآخر بشكل سريع، والواقع أنهم حبوا بعضهم البعض وتخطى هذا الحب درجة القرابة والصداقة.

أخذت "موران" تسرَّح شعرها الأسود اللامع بالفرشاه أمام المرآة الكبيرة ذات الإطار المذهّب. كانت شمس الصباح النابضة بالحياة قد أنارت غرفتها التي لم تكن تقل فخامة عن غرفتها بمنزلها، كان على كل الطاولات مزهريات من الكريستال مليئة بالورد، من مختلف درجات الأصفر والأرجواني الشاحب. وكانت ستائر المخمل الأرجواني المُطرز تلفُ سريرها الضخم. أبتسمتْ قليلًا واستعادت في ذاكرتها لحظات دافئة من الليلة السابقة، فحرارة جسده تركت أثرها على جلدها حتى بعد مغادرته غرفتها عند الفجر. تلاشت ابتسامتها إذ عادت إلى عالم الواقع، وفكّرت في ما عليها القيام به في ذلك اليوم.

وضعتْ "موران" فرشاة الشعر من يدها، ورشَتْ عطرًا ذكيًا برائحة الأزهار على باطن معصميها وعُنقها استعدادًا لمقابلة "كمال" في صالة الفندق، ولمّا استدارت لتخرج من الغرفة تأملتْ لوحة رائعة زُين بها حائط غرفتها، وهي من أعمال الرسام الفرنسي "غوستاف مورو" وتصوّر الأميرة "سالومي" مُلتفة بوشائحها السبعة وهي تحمل رأس "يوحنا المعمدان" فقالت في صمت : "الحب يصنع أكثر من ذلك، الصلة الجنسية ليست خطيئة! ".

كانت "موران" مُتلهفة لرؤية الأب "كرتيف" ويبدو انها ستجعل منه أب اعتراف لها جراء ماارتكبته من خطيئة مع" كما

صعدت الجبل وهي تزيحُ خُطاها دون أن تُزيح بصرها عن قبة الدير، أخذت تدور حول الدير حتى أستوقفها الأب" كرتيف" وقال لها : يبدو انكِ لا تتشوقين لسماع باقي الحكاية؟

_لا _أنا أتشوق لسماعها_لكن أنا فقط مُجهدة

_ما بكِ ياأبنتي؟

_لقد أخطأت يا أبونا! أخطأت

_الخطيئة ياأبنتي ممكن ان تغفر لكن بإن تعاهدي الله أن لاتقتربين منها ثانيًا

_ياأبونا أنا أشعر أنني.... خاطئة أيمكنك تلاوة الصلاة من أجلي؟

نظر إليها "كرتيف" بعد أن ركز عمامته فوق رأسه، وأصلح من شأن ثوبه، ووضع يده فوق رأسها وأخذ يتلو عليها الصلاة.في بادي الأمر قدم الأب نبذة مختصرة ولمحة موجزة عن الكتاب المقدس، وعبر ذلك السرد الموجز وفي ظل ذلك الشرح كانت "موران" تظن انها ترى الجنة والنار والطوفان!، ورأت مدنًا مُشتعلة بالنار، وشعوبًا تموت وأوثانًا معبودة تهوى وتتحطم. شعرتْ "موران" بفرح خفيف كما لو انزاح عن كاتفيها ثقل جبل، وكانت تعزيها الصلاة لها ازدياد مطر : كأن قلبها يجيش بمحبة لامتناهية، وكانت امواج مُنعشة تنبعث من هذا الجيشان، وكانت صورة المسيح ماثلة في نفسها بصورة شديدة، قال للأب "كرتيف" وهي تتنفس الصعداء :

ممكن تستكمل الحكاية؟

استدار الأب "كرتيف" ناحية الجهة الجنوبية للجبل وأشار بيده في اتجاه السماء وأغمض عينه وقال :

هنا سيجيئ! هنا سيهبط! هنا سيتبع المسيح هبوطه!. أومأت "موران" برأسها : أنا لاأفهمك؟

فقال لها : هنا سيهبط النبي "ايليا" كما صعد! وبعدها سيهبط المسيح

تعجبت "موران" سائلة : أتقصد "ايليا"ذلك الرجل الصالح؟

_نعم فهو لم يعد صالحًا فقط؛ فقد أصبح نبيًا بعد أت حل فيه روح الرب القُدس.

_وماعلاقة هبوط النبي"ايليا" بالمسيح؟

_ياأبنتي هبوط "ايليا" سيسبق هبوط "المسيح" بثلاثة أيام! وبعدها سيهبط المسيح ليصلح ماأفسده الشيطان في الأرض، وتكون مده وجوده على الأرض أربعون يومًا، وفيهم سيحكم العالم!! وبعدها سيصعد مجددًا للسماء! هناك نبوءة تتناقلها الأجيال منذ وقت بعيد جدًا وتذكر الروايات أن تلك النبوءة كانت جزءًا من كتاب نبوءات ورؤى مدوّن باليونانية، وكان موجودًا في الماضي وينسب الكتاب إلى "المسيح" لذلك كان يمكن أن يكون إنجيلًا بحد ذاته، وكانت تملك هذا الكتاب هي الأميرة "ماتليدا" دوقة اللورين في القرن الحادي عشر.

أستقلت "موران" وألقت ظهرها إلى الوراء وفي صوت متشوق : أكمل ايها الأب

بزغت الشمس من الصحراء كنهوض أسد، وسطعت على كل أبواب بني إسرائيل، وكانت الشوارع خاوية من الناس أجمعين، وكان الناس داخل منازلهم ينتظرون جند الملك "أخاب بن عمري" وهم خائفون مزعرون، لقد أخذ الجنود في البحث عن جميع الانبياء لقتلهم فيما كان "ايليا"يدور في شوارع المدينة يدعو إلى عبادة الرب الواحد وقد رأى في طريقه رجل عجوز متكأ على جذع شجرة _أنه ليس بانسان ياأبنتي أنه ملاك الرب لكن ظهر لايليا في هيئة انسان _ فطلب الرجل من "ايليا" ان يمسك بيده ويعبر به الطريق، ولما وصلا إلى أحدى الاحجار الكبيرة المتروكة في الطريق طلب هذا الرجل أن يستريحوا ثم يواصلوا سيرهم، وبعد أن جلسا الأثنان وقد بدأ الفجر في البزوغ أخذ "ايليا" يحدث نفسه بصوت مسموع فقال : لقد عبدت الله وحفظته، والآن أخاف أن يخذلني!! فقال له الرجل : الرب هو الرب لم يخبر موسى إذا كان طيبًا أو لا؟! فنظر "ايليا" للرجل وقال : أنا أقصد أنني عبدته وهو مازال يضعني في الأختبار .

فقال له الرجل : أيعقل أن أمة إسرائيل تتجه لعبادة هذا "البعل"

فقال له "ايليا" أتقصد _أجبروا على عبادة البعل، والذي يرفض يُقتل

لم ينطق الرجل بشئ لكنه نظر إلي "أيليا" وأختفى من أمامه فعلم" ايليا" وقتها أنه ملاك الرب!. لاح النهار وكان يومًا مُشمسًا جميلًا وثمة بضع غيوم تنساق عبر السماء، مثل مراكب تسير على وهن. ذهب" ايليا" وفك حبل بغلته، ونادى الرب في صمت : العون_العون.

بينما كان الملك "اخاب" يستمتع في  قصره مع أمرأته "ايزابل" _تلك المرأة التي كثيرًا ماكان يقول عنها انها سليلة الآلهة.  وقد امر حراسه آنذاك أن يكونوا شديدي اليقظة، ولايسمحوا لأي حشرة من الحشرات أو أي عابر سبيل، أو الشيطان نفسة أن يقترب من أبواب حصونه المُصفحة، وجناته الرائعة.

كانت خادمة "ايزابل" هي الوحيدة التي يحق لها أن تجالس الملك وزوجته حتي في أوقات تناول الطعام، وكان الملك "أخاب" ينتظر من حين لآخر إنشغال "ايزابل" ليقوم بمغازلة تلك الخادمة؛ بينما كانت هي _أي الخادمة_تتمايل كأعالي الشجر مع هبات النسيم، تتراقص ببطنها أمام الملك، كان يتلصص عليها وهي في غرفة نومها، كان يراها وهي تغير ملابسها فتسارعت أنفاسه، وأتقدت النيران عيناه،تناول كاسًا مترعة بعصارة ورية اللون، رشف جرعة فازدادت عيناه احمرارًا، فدخل عليها الغرفة وهي نائمة وطلب منها تدليك جسده. كانت لمسات الملك بالنسبة للخادمة أشبه بالحلم إذ كان بوسعها أن تنسى أي شئ آخر حتى الملكة نفسها في تلك اللحظات، وكل خوفها وقلقها. لم يعد لها أن تفكر بأي شئ. لم تعرف الخادمة كم مر من الوقت حينما أدرك الملك أن حركة التدليك قد تغيرت. إذ كانت تحولت حينها إلى مداعبة، حيث أخذ الملك يمسد رقبتها برفق فكانت كل لمسة من يده تتسبب في رعشات أخذت تنتقل إلى عمودها الفقري وإلى ماهو دونه! وتدريجيًا أختفت حالة الاسترخاء لتحل مكانها نارًا أخذت تكويها من الداخل. أخذ الملك يمسد جوانب رقبتها، وشحمتي أذنيها ثم عاد إلى رقبتها من الخلف. وهنا أحست الخادمة بأنفاس دافئة فوق جلدها ثم أصبح كل منهما بمواجهة الآهر والتصق الصدر بالصدر، وتسارعت أنفاسهما وبدأت شفتا أحدهما تلمسان شفتي الآخر، وأصبح كل منهم في غابته الخاصة به، حيث لفهما عطر الصنوبر، وضاع كل منهم في غياهب الآخر. أعتلاها وأخذ يشدها من شعرها فيحنها إليه، وهي تستمتع بما يفعله الملك، وظنت نفسها أنها ستكون مكان الملكة. كانت "ايزابل" تراقبهم عن بُعد، وتكرر هذا أكثر من مرة، فلم تظهر "ايزابيل" للملك أي شئ، وأنتظرت حتى انشغل الملك مع بعض الجنود وقامت بدس السم للخادمة في طبق الفاكهة، وماتت الخادمة،وطلبتْ الملكة من الملك أختيار خادمة أخري لكن هذه المرة كانت إمرأة عجوز جلدها يبدو عليه الكرمشة.

كان" ايليا" لايهتم كثيرًا لقول الناس عن الشعوب التي تعبد الحيوانات، ودائمًا كان يقول في نفسه :" أن شعب إسرائيل لا يفعل مثل مايفعلون باقية الشعوب" كانت ثقتة في شعبة كبيرة حتى ثقته في الملك "اخاب نفسه" كانت كبيرة ايضًا رغم أن زوجته والتي جاءت من الأقطار اللبنانية كان شعبها يعبد آلهة الحيوانات.

كان دائمًا يقول في نفسه : "إذا كانت" ايزابل "زوجة" أخاب" قد أغوت الملك فلن تنجح في إغواء الناس"

فيما كانت" ايزابل" تلك التي اسرت الشعوب بجمالها الفتان، وشعرها الأسود المسدول على كتفيها : لم تكن كبقية النساء؛ كانت تعتقدُ أن "بعل" ذلك الاله الذي كان يتعبد به شعبها؛ قد جاء بها إلى هذا العالم لتهدي به الأمم والناس وتحولهم إلى صالحين.....الأمر الذي أزعج" ايليا" وجعل القلق يدبُ في قلبه، عندئذ حدث شئ لم يكن متوقعًا : ذات ظهيرة وأثناء عمل "ايليا" في دكانه الذي يصنع فيه النجارة، أظلم المكان، وبدأت آلاف البقع المُضيئة تومض أمامه، وبدأ رأسه يألمه بشدة، وسقط على الأرض من شدة الآلام، وفجأة برقت الأضواء كما لو كانت تأتي من كل مكان، وجاءته كلمات الرب قائلة : أذهب وأخبر "أخاب" أنه : (حي الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه. إنه لايكون طل ولامطر في هذه السنين إلا عند ما تترك عبادة هذا البعل) وبعدها رجع كل شئ طبيعي، وفكر "ايليا" كيف يُخبر "أخاب" أن هذه السنة لن تمطرُ السماء، والأنهار سوف تتقلص وتجف، وتحل المجاعة على شعب إسرائيل،وهو مُطارد من الملك نفسه؟. فيما كان" اليشع"ذلك الرجل الصالح، والذي كان يحبه" ايليا" قد أتي "ايليا" وهو يهرول ويقول له : أن الملك أخاب : يبحث عنّي وعنك ليقتلنا كما قتل باقي الانبياء! فضحك "ايليا" ونظر إلى السماء وقال له لاتخاف  : على كل حال _ماذا كان الموت أو من أين _فهو مجرد لحظة، آنذاك ظهر له _أي ل ايليا_برهان من ربه، وهتف له : عما قريب سيعمُ القحط علي إسرائيل، وعليك يا "أيليا" أن تمضي حيث تحطُ قدماك وهناك ستكون وحيدًا! فقال "أيليا" وحيدًا؟ كيف ياربي أنا لن أترك شريعتك تدنس بعبادة ذلك "البعل". أذهب" ياايليا"إلي نهر "كريث" وهناك ستكون وحيد.لكن قبل هذا عليك الذهاب إلى "أخاب" وتخبره بما أخبرتك

ذهب "ايليا" إلى "عبوديا" وطلب مقابلة الملك، الأمر الذي دفع "عبوديا" للصراخ في وجه "ايليا"وقال له : الملك يبحث عنك ليقتلك، وأنت تريد مقابلته! أذهب" ياايليا"وأختبئ لعل أمر قتلك يُنسي

قال "ايليا" أتريدني أن أتجاهل كلام ربي وربك؟ هذا لن يحدث يا "عبوديا" ونظر إلى السماء ورفع يديه ثم أستدار وأخذ ينادي بصوت عالٍ : "أخاب أيها الملك زوج الأفعى" أخرج لي الآن أنا من تريد قتله أنا "ايليا" حينها دبت الفوضى داخل القصر وأنتبه الملك للصوت الذي يناديه، فأمر حراسه باحضار "ايليا" داخل القصر، ولما كان الملك يجلس على كرسيه العاجي طلب من الحراس أن يتركوه مع "ايليا" وأمر "عبوديا" بالمكوث معهم، وفي نبرة ساخرة وجه الملك ل"عبوديا" كلامه : ماأمر الانبياء الكذبة التي طلبتك بقتلهم؟ لم ينطق "عبوديا" ووجه نظره إلى "ايليا" آنذاك نطق "ايليا"وقال : حتى لو قتلت جميع انبياء الله سيظل الله وحده هو الرب، فقال الملك : أأنت الباقي من الانبياء أم انك مت وأحياك إلهك؟ فقال "ايليا" لم أمت ولم أقتل ولن تستطيع فعل ذلك أنت يا "أخاب"، أستدار الملك وولى وجه شطر الحائط وأشار بأصبعه فدخل اربعة من الجنود الشداد، فأستدار ناحية "ايليا" وقال وهو يهزئ : أن أردتُ قتلك الآن فاسأفعل ألم ترى الجنود حولك؟ ألم ترى الأسلحة التي يعجُ بها القصر؟ فقال" ايليا""حي هو الله رب إسرائيل"أقتلني إن شئت أو إن شاءت زوجتك، ضحك الملك وقال له : سأقتلك لكن ليس الآن، لماذا جئتني وأنت تعلم انك مطلوب للقتل؟

قال" ايليا" جئتك أنصحك، أترك عبادة" البعل"وأرجع لعبادة رب إسرائيل

_رب إسرائيل؟ ومن هو رب إسرائيل

_ربي وربك ورب آباءك، أنسيته يا" أخاب"؟

_أنظر حولك يا "ايليا" هذا القصر مصنوع من العاج، وبه غرف تجري من تحتها الأنهار، وحدائق من كل ماتشتهي الأنفس، هذا ماجلبه "بعل"لي!! أأتركه وأعبد لاشئ؟

_هذا القصر العاجي والحدائق والأنهار، وكل النعم التي تحيط بك هي فتنة يا"أخاب"

ضحك الملك بصوت عالي وقال : فتنة؟ إذًا ماأجمل الفتن!

_أنا أحذرك يا"أخاب" هذا العام لن تمطر السماء بقطرة واحدة من الماء، وستجفُ العيون والأنهار، وستحل اللعنة والمجاعة

_عندي من الماء مايكفيني لأعيش مائة عام آخرون

_لن يبقى عندك بعد الآن كل شئ سيجف.

_أنت تثير غضبي أيها النبي، أخرج الآن وإلا..... آنذاك دخلت "ايزابل" عليهم وأقتربت من الملك وهمست في أذنه حينها قال "أخاب" أقبضوا على هذا الرجل وفي الصباح أقتلوه فوق الجبل وقدموه قربان "للبعل" ودخل غرفة نومه مع زوجته، وتعالى الضحك من الغرفة، بينما "ايليا" مُكبل بالحديد يدس رأسه بين رجليه ينتظر ملاك الرب أن يأتيه، ولما خرج النهار عليه صرخ وقال : لما تخليتُ عنّي يارب؟ ألم أكن أنا عبدك، ألم تكن هذه هي ارادتك؟ أمتلك اليأس منه حتى دخل مجموعة من الجنود عليه وسحلوه إلى أن أوصلوه عن قدمى "أخاب" فنظر إليه "ايليا"وقال "حي هو رب إسرائيل".

بالصراخ الهاتف، وارتطام الأحجار، تبع الرجال والنساء المجموعة التي حرست "ايليا" إلى الجبل، وبصعوبة بالغة نجح الجنود في السيطرة على الحشود من الناس التي تنتظر كرامات هذا النبي، وقف الحراس عند المذابح الحجرية، حيث يترك الناس هداياهم وقرابينهم، كان الجميع يعرفون قصص العمالقة التي تعيش في الجبل وتذكروا هؤلاء الذين أتحدوا آلهة الجبل، إلا قليل كان يؤمن أن رب إسرائيل سينجي نبيه "ايليا" مع الرغم من ذلك لم يجرؤ أحد على تحدي الملك، فأخذو الجميع يهتفون "بعل بعل..." أخذ أحد الجنود "ايليا" وصعد إلى المنطقة المحرمة _هذه التي في الجهة الجنوبية ياأبنتي _حينها قالت "موران" لهذا السبب منعنا الرهبان من السير فوقها؟ فقال الأب "كرتيف" نعم ياأبنتي، أومأت "موران" برأسها وقالت له : أكمل

بعد السير لبعض الوقت توقف الجندي وقال" لايليا" ناخسًا برأس رمحه : أذهب إلى مصيرك، وجاء وقتها رئيس الكهنة، وبعد أن صعد الجبل خرت الأحجار ساقطة نحو النهر، وأرتفعتْ نار عظيمة بقربه فلم يقربه أحد أما "ايليا" فبقى ساحدًا مُرتعدًا حين دعاه ربه وقال له : تقدم وأسمع كلامي " والناس رأت "ايليا" بعد ذلك وهو طائر فوق السحاب!

 تذّكر" ايليا" كلام ربه "تمضي حيث تحطُ قدماك وهناك ستكون وحيدًا" فقال للرب : الشكر لك وأستغفرك على قلته من قبل"لكن كيف أكون وحيدًا،وماأمر طعامي وشرابي؟

_شرابك من ذلك النهر، وطعامك ستجده! فستأتي به الغربان لك!

_أنطلق "ايليا" ناحية المشرق عند "نهر كريث" الذي هو مقابل الاردن، وأستقر عنده، وكانت الغربان تأتي له بالخبز صباحًا ومساءًا، وبعد فترة يبس النهر لعدم سقوط الأمطار، فخاطبه الرب قائلًا : أذهب إلى "صرفة" "بصيدرون" وأقم هناك! فسندبرُ أمر من يعولك في هذه الأثناء مر نمس فجأة من بين ساقيه، وقفز أحد الفهود من فوق منكبيه، بينما ألتفت حية حول شجرة من أشجار الدردار أمامه، وكان بين تلك الشجرة غراب هائل ينظر إلى "ايليا" نظرات طاعة وحب فعلم وقتها أن هذه علامة من الرب.

ذهب "ايليا" إلى حيث أمره ربه، وعند دخوله المدينة سأله ملاك الرب : ماالذي أتى بك إلى هنا؟

أجاب "ايليا" في دهشة : الرب أمرك أن تلهمني

_لا يا "ايليا" بل أنت هارب من ظلم وقع عليك وعلى بني إسرائيل _أنت هارب من" ايزابل"

_أنا لم أهرب أنا أُمرت أن أهجر السامرة

_أنت "يا ايليا" هارب من زوجة "أخاب" وجنودهم_لاتنسى هذا أبًدًا _فرارك لا يجب أن ينسى فهذا الفرار مُهمة، والمهمة ستفضي إلى انتصار الرب

_قال ايليا" أنا نبي والنبي دائمًا في بلاء.

أخذ الملاك" ايليا"وسار في الخواء، وهناك شاهد شيئًا غريبًا مرعبًا! ماعاد يرى السماء فوقه، وما عاد يشاهد من اليابسة سوى موضع الخواء،حيث تختفي الجبال تحت الغبار، ومعابد قائمة على أعمدة حلوزنية ذات تيجان من البرونز وسلاسل من المعدن وقباب نحاسية وعوارض من المرمر. وهناك شاهد سبعة كواكب السماء التي طُرحتْ وقيّدت مثل جبال عظيمة، واشتعلتْ نيران. فقال : لماذا طُرحت هنا؟ فأجابه الملاك : هذه هي كواكب السماء التي تجاوزت أمر الرب. قُيّدت هنا إلى عشرة آلاف سنة! زمن خطاياها! وسار الملاك ومعه "ايليا" إلى موضع آخر أشد ظلمة ورعب ففيه أشتعلتْ نارًا وأتقدتْ وأنفتح الموضع بثغرة تصل حتى القمر وأمتلأ بعواميد من نار تنغرز غرزًا، فنظر الملاك نحو "ايليا" وسأله هل أنت خائف؟ فقال نعم خائف ماهذا المكان؟ فأجابه الملاك : هذا هو سجن من عصى أمر الرب من الانبياء! ففيه يسجنون للأبدية! ففزع "ايليا" ودعى ربه قائلًا :"ربي لاتجعلني ممن يعصوا أوامرك". ساروا حتى بلغوا موضعًا مباركًا غُرست فيه فروع ثابتة وخضراء قُطعت من شجرة وبينهم جبلًا مقدسًا وعند أسفل الجبل ماء يجري من الشرق إلى الجنوب الغربي فرأى في الشرق جبلًا آخر أعلى من ذال وفصل بين الأثنين وادٍ عميقًا وقليل العرض فيه يجري الماء عند أسفل الجبل ورأى في الغرب جبلًا آخر أفلّ ارتفاعًا من هذا، وبينه وبين الأول وادٍ عميقًا جافًا وآخر جافًا ايضًا. كانت الوديان كلها عميقة وقد حُفرت في صخر قاسٍ حيث لاينبت شجر. دُهش "ايليا" حين رأى الصخر والوديان فقال : لماذا هذه الأرض المباركة المزروعة بالأشجار وهذا الوادي الملعون؟ فقال له الملاك : الوادي الملعون أُعد للملعونين إلى الأبد، هنا يتجمع جميع الملعونين الذين تفوّه فمهم بالوقاحة ضد الرب فتكلموا بقساوة على مجده. هنا مسكنهم.

وفي نهاية الأزمنة في أيام الدينونة هنا يبارك الرحماء رب المجد الازلي في يوم دينونتهم يباركونه لأنه أعطاهم نصيبًا في رحمته.

فمجد "ايليا" ربه وهو مُشد عظمته، ورأى من بعيد أشجارًا عظيمة أكبر من هذا، وهناك شجرتان كبيرتان جدًا وجميلتان ورائعتان وبهيتان مثل شجرة المعرفة التي يأكل منها القديسون ليقتنوا معرفة كبيرة، تشبه شجرة المعرفة شجرة الصنوبر بارتفاعه وتشبه اوراقها أوراق الخرنوب وثمرها عناقيد الكرمة البهيجة وعطرها ينتشر من بعيد، فقال "ايليا" شجرة جميلة تسر العيون، فأجابه الملاك :، هي شجرة المعرفة. جدك وجدتك اللذان أكلا منها اقتنيا المعرفة وأنفتحت أعينهما أنهما عريانان وأنهما طردا من الجنة.

_أذهب كما أمرك الرب

************************************

كانت" موران" تتخيّل كل كلمة يحكيها" كرتيف"وكأنها تعيش في الحكاية نفسها، تنهدتْ وتنفستْ بشدة، وقالت له : اليوم أستمتعتُ بكلامك ولا أريد أن أطيل عليك سنستمع للباقية في الغد، ورجعت الفندق وهي مسرورة، كان نور الشمس يسطع في الشارع المؤدي للفندق أشد منه في أي مكان آخر؛ أو بالأحرى ذلك ماأحسته "موران"

دخلت الفندق وصعدت غرفتها. كان "كمال" يجلس ينتظرها، وماء الحدقات الرحيمة يعلو ويهبط من عينه، وبين حشيشة الرغبة الجامحة، وتحت أنهار الجسد المتوحشة أنفجرت أمامه بالونة الأنوثة الباضة، لا اليد. لا اللسان. ولا الفم أستقروا مكانهم، أخذت روحه المُتلهفة تبعث الغبار نحو روحها المتشوقة، وإنفرط عُقد الرغبة فوق شراشف السرير، وكلما التصقا تباعدت المسافة بينهم. وأخذوا يتمرغون على رمال الشهوة وتحت أنهار الرغبة، وبدأ الجسدان مساءهما باحتفال مُهيب من التناغم ينقبضان وينبسطان كلؤلؤةٍ تتدحرج في آخر القاع! ظل الجسدان الأليفان يغوصان حول بعضهما ثم ينحدران وينعقدان.

ظلت"موران" تنعم في أحضان "كمال" حتى أتخذت من صدره طاولة لإحتراف الغواية، وهو أيضًا ظل يقطف من فمها ما يروي عطشه حتى اقتراب الصباح. كانت "موران" تعلم جيدًا بأنها ستلوم نفسها فيما بعد لكن... الرغبة كانت أكبر أو الجسد هو من فرض حُكمه. خرج "كمال" من غرفتها وتركها تلملمُ أذيال النوم والحلم وتوجه إلي غرفته، آنذاك فعلت "موران" مايفعل  ال.... أستقلت على السرير تاركة لرجليها  تحتضن الخدادية.

خرج الصباح وأطلق للبرعم المتشبث بالجذر نشوته فاستوي، نظرتْ إلى المرآة المدسوسة بالباب وجدت هالة زرقاء تحوم حول جسدها، حاولت أن تنهض من على سريرها! لكنها عجزت وكأن يد تُمسك بشعرها وتحنيها للوراء! أغمضتْ عينها وحاولت أن لاتستدعي الخوف داخلها لكن سرعان ماسمعت صوتًا ناعمًا هادئًا يقول لها : لماذا.. لماذا أخطئتين؟ تمكن الصمت من "موران" وكأنها مشلولة عن الكلام وأخذت في البكاء والنوح حتى شعرت أن أيدي تربض كلى كتفيها فأستدارت مفزوعة للخلف ورأت نورًا متوهج في زينة فتسمرتْ رأسها بين كاتفيها وفي صوت خافض قالت : من... من.. من هنا؟ فنادها صوت رقيق مليئ بالعنفوان : لاتخفين لاتخفين أنا القديسة المطهرة!!. نهضت "موران" وصرخت لكنها كانت لاتسمع صراخها وكأن شئ كتم الصراخ. فعاد الصوت وناداها بإسمها : "موران.. موران" أستغفري الرب ولاتعودين للخطيئة مرة أخرى

_أي خطيئة؟ لم أكن خاطئة

_أنتِ أخطئتين حين وهبتين جسدكِ لغيركِ.

_أنا لا أفهمكِ ومن أنتِ؟ اأنتِ جنية أم شيطان؟

_الم أقل لكِ أنني القديسة المُطهرة؟

_أي قديسة؟

_أسمعيني يا"موران" من الآن أنتِ مباركة! لكن عليكِ أن تستغفرين الرب وأن لاتعودين للخطأ مرة أخرى

أرتدت "موران" ملابسها بسرعة وخرجت من الغرفة وتوجهت لغرفة "كمال" وقالت له ما حدث، وأنها تريد مغادرة الفندق فقال لها "كمال" وهو يضحك : أنتِ فقط مُجهدة سأذهب معكِ وأبيت لجواركِ

دخلت "موران" الغرفة ومعها "كمال" وبعد أن أحضر لهم عامل الفندق القهوة أقترب كمال منها ووضع يدة فوق شعرها ومررهما على ظهرها وأخذ يشم رائحة شعرها النطيف، وهي كادت أن تصغى له لكنها تذكرت : لاتخطئين ثانيًا فأنطفضت فازعة وأبعدته عنها. أستغرب "كمال" ونظر إليها بغيظ وقال : مابكِ ياأبنة عمي؟ أنتِ لاتحبيني؟ فقالت له : ليس هكذا لكن الأفضل لنا أن لانخطئ. فقال : أتسمين الحب خطيئة؟

_أسمعني يا "كمال" نحن الآن ليس مابيننا ما يربطنا! أقصد الرباط المُقدس أي الزواج وأي شئ نفعله الآن فهو خطيئة. فقال لها أنتِ صدقتين وهمكِ؟ فقالت : أي وهم؟

_هذا الصوت الذي سمعتينه وأنتِ نائمة

_هذا ليس بوهم ثم أنني وقتها لم أكن نائمة بل بالعكس كنتُ واعية جدًا

_أتقصدين أن هذا حدث لكِ بالفعل؟

_لا أعلم يا "كمال" لكن هذا أفضل لنا

_على كل حال أنا أحبكِ يا "موران"

_ممكن تذهب معي إلى الأب "كرتيف"؟

_لا "يا" موران"أنا لاأرتاح لهذا الرجل ولا أرتاح لحكاياته التي تشبه الأساطير.

تقابلت" موران"مع الأب" كرتيف "وطلبت منه بعد أن حكت له على ماحدث لها أن يدعو لها بأن لايمسها الشيطان بسوء؛ فقال لها وهو مبتسم : أتظنين أن هذا الصوت مس شيطاني؟

_نعم ياأبونا وأظن أن الشيطان لن يتركني

_أنتِ مُخطة ياأبنتي الشيطان أضعف مما تتصورين فقط عليكِ بالصلاه فهي النجاة من مس الشيطان والاستغفار كما قلتُ لكِ من قبل وأن لاتعودين للخطأ....

********************************************

_ساأفعل؛ ممكن نستكمل حكاية النبي "ايليا" وماذا فعل بعد ترك الملاك؟

وبعد أن طلب الملاك من "ايليا" الذهاب حيث أمره ربه، سار في طريق لايعرفه، لكن قدماه خطت إلي مقصده،

 في طريقه رأى أمرأة ترتدي ثياب بالية، حولها نور خافت ينعكس على جبهاتها المتجهّمة، ويزيدها شحوبًا وكآبة، كان وجه تلك العجوز وقورًا، وفمها منفرجًا وجبينها مُغطي بخصيلات شعرها الأبيض، كانت تقشُ عيدان النخل، فأقترب منها، وقال لها : أريد ماء أريد أن أرتوي، أسرعت المرأة ثم استدارت له ثانيًا حين ناداها وقال لها : ومع الماء كسرة خبز أنا جوعان! فقالت له المرأة "حي هو الرب الهك " ليس لدي خبز ولا لحم. فقال لها أريد خبزًا اذهبي وأحضري لي خبز!.

قالت له وهي حزينة : لا أملك في بيتي إلا كوب من الزيت، وملئ قبضتي دقيق، وكما تري فاأنا أقشُ عودين لي ولأبني نأكلهم وبعدها ننام ويمكن نموت من شدة الجوع؛ فقال لها أنتِ تمتلكين كوز من الزيت، وملئ قبضة من الدقيق عليك أن تذهبين ولاتعودين إلا ومعكِ كعكة لي.

نظرت إليه المرأة في غرابة "وقالت في نفسها :" ماأمر هذا الرجل؟ أقول له ليس لدينا في البيت إلا القليل من الزيت والدقيق فيقول أصنعي لي كعكة"

نظر إليها" ايليا"وابتسم وقال : أذهبي ياأمرأة فلاينقص زيتكِ ولا دقيقكِ، أذهبي وأصنعي لي كعكة، وبعدها أصنعي لكِ ولابنكِ كعكة أكبر!" لأنه هكذا قال رب إسرائيل " أن كوار الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص" إلى اليوم الذي يُعطي فيه الرب المطر على وجه الأرض.

ذهبت المرأة وهي سعيدة لأن يوجد في الأرض ماهو أشد بئُسًا منها! فهذا الرجل يطلب منها العون، الأمر الذي جعلها تشعرُ بالقوة.

جلست المرأة أمام الحطب لتعدُ للغريب الكعكة ومن قبل كانت لاتؤمن بكلامه بأن الزيت لاينقص، والدقيق لا يفرغ، لكن ما دفعها لصنع الكعكة هو شكل "ايليا" البائس وخافت أن يموت من شدة الجوع، بدأت في صب الزيت على الدقيق، وكلما أفرغت منه أمتلأ ثانيًا، والدقيق أصبح يتزايد كلما قبضت منه، الأمر الذي أفرحها وقالت في نفسها "أن هذا الرجل صالح لقد ملأ البيت بركة".

أحضرتْ الكعكة للغريب، وأعدت أخري لأبنها الصغير"شمعون" حتي سد جوعه. بعد أن أشبع "ايليا" جوعه قال للمرأة :

أيمكني المكوث عندكِ حتى يأذن لي الرب؟

فقالت له المرأة : أليس لديك بيت؟

_أنا منبوذ في وطني

_أي جُرم أرتكبت؟

_أنا نبي الله، وقد أمرت" ايزابل زوجة أخاب" بموت كل من يرفضون عبادة الآلهة الفينيقية

_وكيف يستطيع تابع فقير مثلك يتحدى الأميرة؟

_لقد أمرني الرب

أشارت المرأة لأحد القمم العالية، وقالت : آلهتنا تعيش هنا، وهذه الآلهة قد حفظتْ لنا السلام لأجيال عدة، أما بلدكم "إسرائيل" فتعيش في حرب دائم ومعاناه، فكيف لك أن تؤمن برب إسرائيل، عليك أن تُطيع "ايزابل" كي تنعم أنت بالسلام

_لقد سمعتُ صوت الله وهو يناديني، ويأمرني، فكيف لكِ أنتِ تقولين هذا _أنا أقول لكِ أنني نبي

فقالت له المرأة : لقد ذاد الزيت، والدقيق على قدومك، عليك أن تسكن عندنا لحين يأذن لك ماتدعوه

_انكِ تقولين "ماتدعوه"؟ ألم تعرفين ما أنا أقصده

_أنت تقصد رب إسرائيل، لكن هذا ربك ورب وطنك، أما أنا ربي هناك في أعلى الجبل!

كان "شمعون" الصبي أبن المرأة الآرملة يستمع لحديث "ايليا" مع أمه فقال لها _أي لأمه : أنني أحببتُ هذا الرجل ياأمي دعيه يسكن عندنا، وجرى وأرتمى في حضنها.

بعد أن أمرت الآرملة بمكوث "ايليا" عندها، وكان الصبي قد أعتبره كاوالده، وسرعان ما أكتشف الجيران وجود رجل أجنبي في بيت الآرملة، وهذا يسيئ إلى ذكرى زوجها، وعندما علمت الآرملة بما يدور حولها خرجت على باب البيت وقالت بصوت عالي : أنه نبي إسرائيلي  جاءني فارًا من الجوع والعطش في وطنه. فأرتفعت ضجة صاخبة زعزعت البيوت وأقبل حشد من الناس، ونساء وخدم وعبيد يهرولون إلى بيت الآرملة، وبأيديهم الحراب والهروات المدملكة الرؤوس، والخناجر وطلبوا من الآرملة أن تخرج الرجل المختبئ عندها، فخرج عليهم "ايليا" وتكلم معهم، وحاول إقناعهم بإنه نبي بني إسرائيل، كان" ايليا" يحاول درأ الشبهة عن هذه السيدة، فلم يستجيب الناس لكلامه وأخذوا يلقون على السيدة التهم الباطلة.

فيما كان قد علم رئيس الكهنة بأمر هذا الأجنبي وأنتصب باقي الكهنة في المعابد الداخلية يقلبون الأكف، وقد ملأ الحقد قلوبهم وسرعان ماأستدعوا قائد الجيش وأمروا باحضاره _أي إحضار "ايليا"

سأله كبير الكهنة : ماالذي جئت به لتفعلة هنا؟ الاتدري انك من بلد اعداءنا، وأنت ايضًا عدو لنا؟

_فقال "ايليا" : لسنوات كثيرة وأنا أتاجر معكم وأحترم شعبكم _أنا موجود هنا لأنني منبوذ في بلدي

_قال له كبير الكهنة : أنت هارب من أمرأة وضحك بصوت عالي!

_الآن نحن نحاول التصالح مع حكام بلدك، ووجودك هنا أظن سوف يشوب العلاقة التي نسعى لها، وأنا أعلم أن "ايزابل" هي من تحكم الآن وأعلم انها أمرأة ذات جمال وحُسن، فقال "ايليا"

_أنا ساأرحل إلى بلادي حتى لاأكون منبوذ هنا ايضًا، فرد كبير الكهنة :

_لقد سمعت انك ترفض عبادة إلهكم؟

_ومن هو إلهنا؟

_إله الفنيقين "بعل"

_هذا "البعل" ليس إلهنا_نحن إلهنا هو رب إسرائيل_الواحد

فقال له قائد الجيش : دع حكامك يخترون إلهك! فستنعموا بعدها في السلام

_وهل السلام يتحقق بقتل الانبياء؟

_وهل يتحقق بترك عبادة الآلهة؟

رد "ايليا" : أي إلهة_هو إله واحد رب إسرائيل

حينها قال أحد الجنود : أنه يقول أنه النبي "ايليا"

فقام رئيس الكهنة من مكانه وأقترب من "ايليا" وقال أنت "ايليا" الذي يتحدث عنه الشعب اانت حقًا نبي؟

_أنه أنا

فقال رئيس الكهنة : مرحبًا بك في "أكبار" فعندما تكون لنا حاجة" عند" ايزابل"سندفع رأسك ثمنًا لها! فيبدو أن" ايزابل"أقوى من إلهك! فقد نجحت في إنشاء مذبح" لبعل"وأمامه يسجد الكهنة والعجائز!

_فقال ايليا : كل شئ سيتم كما كتب الله.

خرج" ايليا "بعد طلب منه كبير الكهنة ان يعود ليبيت في بيت الآرملة، وأستدعى حينها جمعًا من المواطنين الذين شاهدوه، وقال لهم : لاشأن لكم به بعد اليوم، فهو الآن يعيش معنا وسيكون تحت سيطرتنا، فهو السلاح الذي سنجبر به "أخاب" للمواصلة معنا! ووقتها سنكون قد تعلمنا كيف ندمر أفكاره.

رجع" ايليا" إلى بيت الآرملة وكانت تنتظره فرحبت به وقالت : يبدو أن ربك وفى بوعده، فالزيت والدقيق لم ينقصا من عندي منذُ أن أتيتنا، انك حقًا نبي الله أنت النبي المُختار، وأنا من اليوم أعبد ربك الواحد

فرح "ايليا" بكلام المرأة! وبعدها استلقى علي الآريكة وغاص في نوم عميق.

فيما كانت "ايزابل" آنذاك تزيد من سيطرتها على القصر وقد أخذها الغرور إلى أن تنصّب ابنها الصغير " أخزيا" ولي للعهد في المملكة، مما جعل "أخاب" يقع في حيرة فمع تنصيب "أخزيا" سيحدث صِدام بينه وبين أولاده الأخرون من زوجاته السابقون! مما جعله يرفض طلب "ايزابل" وهذا الرفض دعاها للتدخل في شئون الحُكم أكثر مما سبق، ولانها هكذا فقد تيقنت أن القوة الحقيقية تكمن في شخصان هما : "كبير الكهنة، وعبوديا"

كانت خادمتها "روما" تلك اللعينة التي تدبر لها كل جرائمها قد أغوتها بمفاتن ذلك الذي يدعى "عبوديا" فظلت "ايزابل" تقترب منه أكثر وأكثر ولأنه كان رجل صالح لايريد ان يخون مولاه فلقد اصرت "ايزابل" على إغواءه، بما لها من مفاتن وإغراءات.

طلبت" ايزابل"من عبوديا" أن يُحصي لها عدد الانبياء الذين قتلهم، ومن قبل قد امر هو بتولي مهمة قتلهم، لكنه خباء بعضهم في الجبل وقال" لايزابل" انه قتلهم!

قال لها" عبوديا"لقد قتلوا جميع الانبياء، ولم يتبقي غير" ايليا" الهارب

فقالت له :" ايليا_ايليا_"ذلك الرجل حين أسمع اسمه أصاب بالغصة، وأقتربت منه وحاولت أن تغويه وضعت يدها فوق قلبه وقالت : هنا في قلبك أسكن  وفكت رباط صدريتها وأمسكت بيده ووضعتها فوق صدرها وهي مُغمضة العين، فتراجع "عبوديا" إلى الخلف، فاستدارت وأمسكته من خصره، وألقت برائحة جسدها على جسده لكن..... خرج مُسرعًا من الباب.

ظلت "ايزابل" تفكر كيف تُتيح الفرصة لابنها كي يجلس على العرش، فجاءتها خادمتها،

أستيقظ "ايليا" علي صوت صراخ ونياح، فقفز من مكانه، كانت الارملة تنوح وتلطم خديها وتقول : أبني "شمعون" مات، فزع "ايليا" بعد سماعه لهذا الخبر، ونظر نحو السماء ورفع يديه للدعاء، بينما الارملة أخذت تصرخ أكثر وتنظر نحو "ايليا" وتقول له : أنت السبب، أنت شؤم أنت قتلت أبني بقدومك!

قاطعت "موران" كلام الأب "كرتيف" وبصوت هادئ قالت له : "ايليا" هذا يضرب أذني كأنغام كلما أسمعه أشعر أنني سعيدة؛ تبسم الأب "كرتيف" وهز رأسه وأستكمل حديثثه :

نظر نحوها"ايليا" وأنحنى وحمل الصبي إلى فراشه، وأخذ يدعو السماء بعد أن ركع على ركبتيه، ووضع وجهه على الأرض، فظهر له ملاك الرب وقال له : مابك يا"ايليا"؟

فقال له : هذا الصبي وحيد لأمه وقد مات، أريدك أن تطلب من الرب أن يحييه!

فقال له الملاك : لك أنت أن تطلب!

فأغمض "ايليا"عينه ودعى ربه، فاستجاب ربه لطلبه.

 فسقط ضوء من السماء في صدر الصبي؛ وبعدها نهض الصبي من فراشه وذهب إلى أمه ففرحت وخرت ساجدة أمام "ايليا" وقالت له :

حقًا أنت نبي الله، فرفع" ايليا" يده للسماء وشكر الرب.

صباح اليوم التالي وقد علم كبير الكهنة بما حدث للصبي أبن الأرملة، فأخذ يتلو الصلوات للشمس الساطعة، متوسلًا إلى رب الحيوانات أن لايعلم أمر هذا الرجل الأجنبي عامة الشعب، فهذا سيضر بآلهته الحجرية، التي ظل جميع الكهنة من قبل يعبدونها، وان هذه الآلهة سوف تصبح وفي نهاية الأمر مجرد خرفات، وهذا سيضر بمنافع الكهنة، فحمل كبير الكهنة صولجانه وغادر معبده ولحق "بايليا" عند الارملة، وبعد أن استدار حول البيت هو وجنودة، وقد فزعت الارملة لرؤية هذا المشهد؛ إلا أن "ايليا" كان يعلم لما جاء كبير الكهنة؟ فقال له كبير الكهنة : لقد أعاد الله الذي تدعوه ربك الطفل من الموت أهذا صحيح؟ فقال" ايليا" : صحيح

_لابد أن الولد لم يمت "هذه حادثة تتكرر كثيرًا، يتوقف القلب ثم بعد فترة يعاود عمله!"

_لو كان هذا فكرك فلماذا أتيت الآن؟ إلا إذا كنت تعلم جيدًا أن الطفل قد مات حقًا!

ضحك كبير الكهنة وقال : أنت أيها الأجنبي تريد اقناعي بأن ربك هو من أحيا الطفل؟

_وهل من أحد غيره؟

_نعم آلهة الجبل!!

_تلك الآلهة الحجرية التي صنعتوها أنتم وآباءكم؟ هي مجرد أحجار

_انك تقوم بالتجديف على آلهتنا؟ أحذر ايها الرجل غضبهم!

استدار "ايليا" وخرج كبير الكهنة بموكبة الأخاذ وتوجه ناحية المعبد، ونظرت الارملة إلى "ايليا" وقالت له : هل تظن ربك سينقذك من هذ الوضع؟

تبسم "ايليا" ونظر نحو السماء ثم جلس على الآريكة وأغمض عيناه.

حينها كان الناس يجتمعون حول بيت الآرملة ليروا "ايليا" ذالك الرجل الصالح، يحملون أغصان الزيتون وسعف النخيل ويهرعون لتحيته، كان هناك أحشاد من جميع الأجناس، وفتحت الأبواب، وخرجت سيدات من بيوتهن، تاركات عمل المنزل ورحن يتراكضن خلفه ليسمعن الكلمة الطيبة، وكان الأبناء يحملون آباءهم المشلولين على أكتافهم، والأحفاد يقودون جدودهم الكفيفين من أيديهم، والرجال ذو العضلات الضخمة كانوا يجرون معهم الممسوسين بالأرواح الشريرة ويركضون خلفه ليضع يده على رؤوس أولئك الممسوسين ويشفيهم. بعد ذلك علم "ايليا" أن هذه الحشود هي من عند الرب لكي يشدُ من عضده، فشكر الرب وخر ساجدًا.

، آنذاك ناداه ربه وقال أذهب "لأخاب"

وقل له "ان يترك عبادة البعل، وأنه لاإله إلا الرب هو فقط الذي تعبده"

فذهب ايليا ليتراءى لاخآب.

 وكان الجوع شديدا في السامرة فدعا" أخاب" "عبوديا" الذي على البيت. وكان" عبوديا" يخشى الرب جدا. وكان حينما طلبتْ " ايزابل" أن يقتلوا انبياء الرب فأسرع" عبوديا" واخذ مئة نبي وخبأهم خمسين رجلا في مغارة وعالهم بخبز وماء. وقال" أخاب لعبوديا" اذهب في الارض الى جميع عيون الماء والى جميع الاودية لعلنا نجد عشبا فنحيي الخيل والبغال ولا نعدم البهائم كلها. فقسما  الارض ليعبرا بها. فذهب" أخاب" في طريق واحد وحدِه وذهب" عبوديا" في طريق آخر وحده. وفيما كان" عبوديا" في الطريق واذا" بايليا" قد لقيه. فعرفه وخرّ على وجهه وقال أأنت هو سيدي" ايليا"؟ فقال له انا هو. اذهب وقل لسيدك هوذا"ايليا" فقال ما هي خطيتي حتى انك تدفع عبدك ليد" أخاب" ليميتني." حيّ هو الرب الهك" انه لا توجد امة ولا مملكة لم يرسل سيدي اليها ليفتش عليك وكانوا يقولون انه لا يوجد وكان يستحلف المملكة والامة انهم لم يجدوك. والآن انت تقول اذهب قل لسيدك هوذا "ايليا" . ويكون اذا انطلقت من عندك ان روح الرب يحملك الى حيث لا اعلم فاذا أتيت واخبرت" "أخاب" ولم يجدك فانه يقتلني. وانا عبدك اخشى الرب منذ صباي. ألم يخبر سيدي بما فعلت حين قتلت" ايزابل" انبياء الرب اذ خبأت من انبياء الرب مئة رجل خمسين خمسين رجلا في مغارة وعلتهم بخبز وماء. وانت الآن تقول اذهب قل لسيدك هوذا" ايليا". فيقتلني. فقال" ايليا" حيّ هو رب الجنود الذي انا واقف امامه اني اليوم اتراءى له. فذهب "عبوديا" للقاء "أخاب" واخبره فسار" أخاب" للقاء" ايليا"

ولما رأى" أخاب ايليا" قال له" أخاب" أانت هو مكدراسرائيل؟ . فقال لم اكدر اسرائيل بل انت وبيت ابيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء "البعل". فالآن ارسل واجمع اليّ كل اسرائيل الى جبل "الكرمل" وانبياء "البعل" اربع المئة والخمسين وانبياء" السواري" اربع المئة الذين يأكلون على مائدة" ايزابل" . فارسل" أخاب" الى جميع بني اسرائيل وجمع الانبياء الى جبل" الكرمل" . فتقدم" ايليا" الى جميع الشعب وقال حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟ . ان كان الرب هو الله فاتبعوه وان كان" البعل" فاتبعوه. فلم يجبه الشعب بكلمة. ثم قال ايليا" للشعب انا بقيت نبيا للرب وحدي وانبياء" البعل" اربع مئة وخمسون رجلا. فليعطونا ثورين فيختاروا لانفسهم ثورا واحدا ويقطعوه ويضعوه على الحطب ولكن لا يضعوا نارا وانا اقرب الثور الآخر واجعله على الحطب ولكن لا اضع نارا. ثم تدعون باسم آلهتكم وانا ادعو باسم الرب. والاله الذي يجيب بنار فهو الله. فاجاب جميع الشعب وقالوا الكلام حسن. فقال" ايليا" لانبياء" البعل" اختاروا لانفسكم ثورا واحد وقرّبوا اولا لانكم انتم الاكثر وادعوا باسم آلهتكم ولكن لا تضعوا نارا. فاخذوا الثور الذي اعطي لهم وقربوه ودعوا باسم" البعل" من الصباح الى الظهر قائلين يا" بعل" اجبنا. فلم يكن صوت ولا مجيب. وكانوا يرقصون حول المذبح الذي عمل. وعند الظهر سخر بهم" ايليا" وقال ادعوا بصوت عال لانه اله. لعله مستغرق او في خلوة او في سفر او لعله نائم فيتنبّه! . فصرخوا بصوت عال وتقطّعوا حسب عادتهم بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم. ولما جاز الظهر وتنبأوا الى حين اصعاد التقدمة ولم يكن صوت ولا مجيب ولا مصغ قال" ايليا"

لجميع الشعب تقدّموا اليّ. فتقدم جميع الشعب اليه. فرمم مذبح الرب المنهدم. ثم اخذ" ايليا" اثني عشر حجرا بعدد اسباط بني يعقوب الذي كان كلام الرب اليه قائلا اسرائيل يكون اسمك. وبنى الحجارة مذبحا باسم الرب وعمل قناة حول المذبح تسع كيلتين من البزر. ثم رتب الحطب وقطع الثور ووضعه على الحطب وقال املأوا اربع جرات ماء وصبوا على المحرقة وعلى الحطب. ثم قال ثنوا فثنوا وقال ثلثوا فثلثوا. فجرى الماء حول المذبح وامتلأت القناة ايضا ماء. وكان عند اصعاد التقدمة ان" ايليا" النبي تقدم وقال ايها الرب اله" ابراهيم واسحق واسرائيل ليعلم اليوم انك انت الله في اسرائيل" واني انا عبدك وبامرك قد فعلت كل هذه الامور. استجبني يا رب استجبني ليعلم هذا الشعب انك انت الرب الاله وانك انت حولت قلوبهم رجوعا. فسقطت نار الرب واكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا الرب هو الله الرب هو الله. فقال لهم ايليا امسكوا انبياء" البعل" ولا يفلت منهم رجل. فامسكوهم فنزل بهم "ايليا" الى نهر" قيشون" وذبحهم هناك.

وقال" ايليا لاخآب" اصعد كل واشرب لانه حس دوي مطر. فصعد اخآب لياكل ويشرب واما ايليا فصعد الى راس الجبل.

_حينها قال الأب "كرتيف" سنكمل باقي الحكاية الأسبوع القادم لأني سأسافر في الغد إلى الأردن حيث أبنتي فهي مريضة ولابد من زيارتها

فقالت "موران" وهي تأسف لما حدث لآبنته : لكني أتشوق لسماع الباقية، فأخرج "كرتيف" من حقيبته الصغيرة كتيب به منمنمات زخرفية تتوسطها مايشبه الساعة الشمسية، وبالحواف مجموعة من الرموز الغريبة على غلافه، كتاب متوسط الحجم، وكتاباته من الداخل بخط اليد، وأعطاه لها وقال : هذه نسخة نادرة لكِ أن تحتفظين بها وتقرأيها لحين وصولي مُجددًا، ورديه إليّ.

تصفحت "موران" الكتيب بسرعة ولفت نظرها أن الكلمات صغيرة الحجم، والنمنمات على الحاشية تكاد لاتبين للعين لأول وهلة، وتتَطلب أن يحدقُ فيها العين عن قُرب لتتجلى في كامل رونقها. نظرت مجددًا للغلاف وقالت : بأي أداة عجيبة رسمها المنمنم للحصول على أشكال بتلك الحيوية في هذا الحجم الصغير؟ فقد كانت كامل حواشي الكتيب ممتلئة بصور صغيرة جدًا تنشأ من دورات الحروف التي رسمت بروعة، وكأنها امتداد طبيعي لها؟

فقال لها "كرتيف" هذا الكتيب أمانة معكِ لحين وصولي من الأردن؛ فقالت له : سأضعة داخل عيني لاتخشى.

أخذت "موران" الكتيب ولم تستطع صبرًا فأخذت تقرأ فيه وهي في طريقها إلى الفندق، فسقطت في بئرة عميقة مملؤة بالمياه، وسقط الكتيب من يدها خارج البئرة، حاولت "موران" الخروج من البئرة وبعض عدة محاولات نجحت في الخروج، وبحثت عن الكتيب فلم تجده وكأن الأرض أتشقتْ و أبتلعته!

هرولت في مشيها حتى وصلت الفندق بينما كان "كمال" يجلس في غرفته، دخلت إليه وهي مُلطخة بالوحل جراء سقوطها بالبئرة، فنظر إليها وهو يضحك وقال : تبدين جميلة حتى وأنتِ مُلطخة بالطين.

قالت له "موران" أرجوك ساعدني لقد حدث.. وقصت عليه ماجرا لها

فقال لها : سنذهب للبحث عن الكتيب في الغد! وأقترب منها وحاول أن يحتضنها، لكنها رفضت ْ وأبعدته عنها، وخرجت إلى غرفتها، خلعت ملابسها المُتسخة، ودخلت إلي الحمام، وكان "كمال" قد لحق بها!، ودخل الغرفة وسمع صوت المياه وهي تُعزف أنغام الرغبة على جسدها، فمد يده إلى أوكرة الحمام، وفتح الباب، وأنتبهتْ له "موران" فحاولت تغطية خصرها بأيديها، وأستدارت إلى الخلف وهي تصرخ : أخرج _أخرج! لكنه لم يصغى لها، وأنقض عليها كما لو كانت فريسة أمامه،وأخذ يتشمم رائحة جسدها المُنتشرة فوق مسارب اعضائها، وتحسس أعشاب الأبطين، والزغب الرطب تحت أرض السرة، وقضم تفاح نهديها، فلفلفتْ جسدها برغباتها المطمورة، وأختبأت تحت عريشة صدره، وشبكتْ وردة جسدها في سترة جسده.......

خرجتْ" موران" من الحمام تحت عباءة جلد "كمال" وألتقيا بين شراشف السرير حتى خرج الصبح عليهم، ففاقت "موران" وأيقظت "كمال" وبسرعة خرجوا من الغرفة بعد أن أرتدوا ملابسهم، وذهبا للبحث عن الكتيب، لمحتْ "موران" تلك المرأة ذات العينين الجاحظيتين فصرختْ في وجه "كمال" وأشارتْ ناحية الجبل وهي تقول : هاهي_هاهي! فنظر "كمال" حيث أشارت فلم يجد شيئًا، فرجعا إلى الفندق، وهي تحاول إقناعه بانها رأت تلك المرأة، وهو يقول لها : لم أرى أي شخص هناك.

كان الوقت المُتبقي لهم عشرة أيام وبعدها لابد من الرجوع إلى مصر، وكان كل مايشغل بال" موران" هو العثور على الكتيب لكي ترده إلى الراهب.

قال لها "كمال" علينا أن نهدئ من روعنا حتى نتمكن من البحث عن الكتيب بذهن صافي، علينا الخروج إلى الأسواق نحتسي قهوة ونبتاع بعض الملابس، رحبت "موران" بالفكرة لانها بحاجة إلى الخروج من الحالة الني أصابتها. خرجا الأثنان متجهين إلى المدينة القديمة حيث الأسواق التي تنتشرُ فيها الملابس والعطور، وبينما هم يسيران أستوقف "موران" طريق أشبه بالممر فكان الفضول سيد الموقف حينها، طلبت من "كمال" الدخول في هذه الطريق، وفي المُنتصف لفت انتباها شئ غريب على الحائط المقابل للمر الضيق : رأت على مستوى عينيها شيئًا يشبه الساعة الشمسية، منقوشًا على حائط منزل قديم، ولاشك في أن القطعة المعدنية قد وقعت من زمن بعيد، كما يبدو من الفجوة في وسط الساعة، وتبين لدى التدقيق، أن العلامات كانت غير عادية فهي تبدأ بالرقم٩٧ وتنتهي برقم ١٧، تتخللها علامات نصف الساعة وقد رسمت فوق الأعداد مجموعة من الرموز الغريبة؛ تذكرت "موران" شكل الرموز التي على الكتيب، فهي مطابقة لهذه الرموز! أستدارت "موران" ناحية النقوش ونظرتْ فيها بتمعن، بينما كان "كمال" يتفحصها عن قرب، فقال "لموران" أن هذه النقوش هي الكواكب، ويبدو أن في المنتصف هي الشمس، واصلت "موران" التحديق حتى تأكدت أن الرموز هي هي الرموز المماثلة لرموز الكتيب، فقالت "لكمال" : يبدو أمرًا غريبًا ٨ انها صدفة، أكيد هذا المبنى خاص بالدير الذي يقع على الجبل، لكن تراجعت عن ظنها حين رأت المارة العاديين يدخلون المبنى، وبالسؤال تبين أن هذا المبني ماهو إلا متحف للوحات النادرة! والأثريات. دخلت" موران "ومن بعدها "كمال" وصعدا للدور الأول، تجاوزا واجهات عريضة زجاجية فيها بعض أثواب الكهنة، توقفت "موران" تتأمل الاثواب فيما واصل "كمال" المشي حتى نهاية الرواق! ثم توقف عند عمود حجري قديم حُفر فيه صليب، يسمى هذا العمود "عمود الفرسان" ويعتقد أن القوطيّيين نقشوه في القرن الثامن. كان العمود جزءًا من المذبح في الكنيسة القديمة، ولما نقله الأب "سونيير" اثناء ترميم الفيلا أكتشف بضع لفائف مخطوطة غامضة ومُرمزة، أو هكذا يُقال.

كانت "موران" واقفة تحملق في لوحة زيتية أثارت ألوانها الفاقعة رغبتها في التأمل فيها، أستدارت لتسأل أحد العمال عن هذه اللوحة : كانت هذه اللوحة للفنان "نييون" رسمها في القرن السابع وتعد هذه اللوحة واحدة من االثلاث لوحات التي تصور نبي الله "ايليا" وهو صاعد للسماء! فقالت" موران" في نفسها :"يالها من صدفة غريبة" حينها جاء "كمال" ونظر ايضًا للوحة، وأستدارا الأثنان وأستكملا جولتهما في المتحف، وصعدا للطابق الثاني، كانت المكتبة التي تحوي مجموعة نادرة من الكتب في علوم الفلك، وعلوم البحار وبعض قصص انبياء غابرين، دخلا المكتبة، كانت ذات سبعة جوانب، ولكن أربعة منها فقط ينفتح بين عمودين مندمجين في الحائط، ممر على شئ من الاتساع يعلوه قوس ذو عقد كامل.

وعلى طول الجدران الخالية من النوافذ تقف خزائن ضخمة مُحملة بالكتب مرصوفة بنظام. وعلى خزانة بطاقة تحمل رقما وكل رف منها يحمل بطاقة مماثلة : من الواضح انها مكتوبة بنفس الطريقة كتبت بها الساعة الشمسية بالخارج،وقفت "موران" تتأمل أسماء الكتب، لفت انظارها كتاب مرسوم عليه من الخارج : سيدة ترتدي فستان أسود وشعرها ممدود إلى خصرها، عيناها جاحظتين، تحاط بهم هالة سوداء، تراجعت "موران" إلى الخلف وأمسكت يد "كمال" بقوة وقالت له : هذه هي _هذه هي! تلك المرأة التي حكيت لك عنها! هي بعينيها الجاحظتين، وفستانها الاسود!. فأقترب "كمال" من الرف ونظر للكتاب عن قُرب واستدار وسأل أحدهم عن الكتاب؟ فقال له : أنه كتاب قديم ليس له عنوان لكن مضمونه يتحدث عن مملكة إسرائيل قبل الميلاد بحوالي ثمان مائة عام، فسألت "موران" هل لديك معلومة عن السيدة المرسومة على الغلاف؟ فقال لها : نعم هي "ايزابل" زوجة أحدى ملوك إسرائيل!. تنهدت "موران" وقالت "ايزابل؟ تلك المرأة التي كانت تضطهد          " ايليا"ذلك النبي الصالح". طلبت من المسؤول أن تتصفح هذا الكتاب فرفض وقال لها : لايمكن أن يتحرك الكتاب من مكانه، لكن يمكنكِ تصفحه على الانترنت. أسرعت "موران" وسحبت "كمال"من يده ونزلت السلالم متجه إلى الفندق، وأخذت تتصفح على الانترنت حتى تمكنت من وجود نسخة من الكتاب،بدأت تتصفح الكتاب : كانت "ايزابل" الزوجة الرابعة للملك" اخاب"كانت أمرأة زانية، مارست الجنس مع معظم جنود الملك، والذي يرفض تأمر الملك بقتله، كانت دائمًا ما تكشف عن ساقيها أمام ضيوف الملك حتى تثير شهواتهم، كان الملك “أخاب"ينحني أمام جمالها الفتان، وبدأت الفوضى تدبُ في القصر لانشغال الملك بتلك المرأة التي لامثيل لها، هي ابنة" ابعثل"" صيدرون" البلدة المجاورة" لجلعاد"تزوجها الملك لما علم شدة جمالها، ومن ناحية أخرى لتوسيع التجارة بين البلدين، كانت إذا أرادت شئ حصلت عليه بأي طريقة، وفي يوم من الأيام جاءها الملك" أخاب"حزين مهموم، فقالت له : مابك يا ملكي؟

_قال لها : أريد هذا الكَرم

_أي كَرم؟

_الكَرم المجاور لقصري_أريد ضمه إلى القصر

_وما منعك أن تحصل _أنت الملك

_صاحب الكَرم _ذلك الذي يدعى "نابوت" رفض

ضحكت "ايزابل" ساخرة قائلة : هذا عبد فقير هل يجرأ أن يقول للملك لا؟

_نعم يا"ايزابل" قال لا

_أترك لي هذا الأمر_الآن عليك الدخول للنوم

طلبت "ايزابل" من الحرس أن يحضروا "عبوديا" وقالت له : أريد ذلك الرجل الذي رفض أن يبيع للملك حديقته

_أتقصدين يامولاتي" نابوت"

_نعم يا" عبوديا"

ذهب "عبوديا" ليبحث عن "نابوت" وقال له أن الأميرة تريدك. فقال له "نابوت" : ماذا تريد الأميرة؟

_لاأعلم يارجل_تعالى معي

_أنني خائف يا "عبوديا" من تلك المرأة _انهم يقولون انها شريرة

_لاتخف يا "نابوت" سأكون معك

دخل "عبوديا ومعه نابوت "إلى القصر، فطلبت" ايزابل من عبوديا"أن يتركهم لوحدهم.

خرج "عبوديا" وترك الرجل مع الأميرة، بينما أقتربتْ الأميرة من الرجل وهي تنفخ أنفاسها ذات الوائح الشهية في وجه" نابوت" وأقتربتْ أكثر حتى لامست صدرها في كتفيّ "نابوت" فتراجع الرجل وقال لها : لقد طلبتين احضاري ما الأمر؟ فقالت له : لقد سمعتْ عن شهامتك، ورجولتك فأنت رجل ذو عضل مفتول، وقوي، وأنا أرغب فيك! فقال لها : أترغبين في الفقير البائس؟

_أنا أمرأة جميلة، أريدك أن تظهر جمالي برجولتك

_أنا يا مولاتي _لا أقترف الخطأ ابدًا

نظرت إليه وهي تحلُ رباط مئزرها، فنظر الرجل إلى الأسفل بعد أن ابتلع ريقه، وأستدار ناحية الباب، لكنها أحتضنته من الخلف وقالت له : الا ترى شفتي المكسوة بالسكر والنعناع، وبطني المعجونة باآس والبنفسج، وصدري المنقوع في طاس خمر وعنب ؟ وأمسكتْ يديه بكفيها وغرست أظافرها فيهم، وأقبلت برأسها ورفعت شعرها وألقته فوق رأسه، فحاول الرجل ابعادها عنه، ثم أسرع لباب الخروج.

قالت في نفسها وهي غاضبة : "من يقدر يقاوم جمال ايزابل" لقد فعلها هذا البائس، ويلك منّي، صرخت في وجه الحرس وأمرتهم باحضار "عبوديا"

أسمع يا "عبوديا" أريدك أن تجمع لي هنا في القصر جميع المشايخ والعجائز والكهنة على الفور، ولما جاءوا ما طلبتهم، قالت لهم في نبرة خاشعة : اتسمعون عن أحد تطاول على الإله وظل يعيش بيننا؟

قالوا لا_لا

فقالت : وما جزاء من قام بالتجديف على الله؟

_الموت!

_هذا الذي يدعى "نابوت"سمعتْ انه قام بالتجديف والتطاول على الله، ماذا أنتم فاعلون الآن؟

_لابد ان يرجم حتى الموت

فعل الشيوخ ذلك وحاكموه بتهمة التجديف ثم حملوه إلى خارج ‏البلدة ورجموه مع أبنائه. وأرسلوا إلى" إيزابل" يخبرونها بإتمام أمرها. فذهبت إلى الملك وأسرّت إليه بالخبر فقام ‏إلى الحقل واستولى عليه. لان العادة كانت أن يستولي الملك على ميراث الأموات الذين لا ورثة لهم.

ظلتْ "موران" تقرأ سيرة "ايزاببل" وهي تلعنها، وتقول لنفسها : ايمكن ان الشبه إلى هذا الحد بينها وبيت تلك العجوز التي تطاردني؟

أستقلتْ "موران" على سريرها ثم قامت مفزوعة وأخذت تسترجع حلمها الذي مرت به وهي نائمة : رأت رجل ذو لحية بيضاء كبيرة يقفُ أمامها وفي يده كتيب يشبه كتيبها المفقود، فتح هذا الرجل الكتيب، فرأت وهج أزرق يشعُ من الكلمات. لم تلاحظ "موران" أن صفحات الكتيب تتبدل بسرعة كان تركيزها الأكبر في ذلك الرجل الذي يشعُ من وجهه نور أخاذ للابصار، ألتقطتْ "موران" أنفاسها بعد أن رأت هذا الرجل يستدير لها وأخذ يصوب بصره نحوها عن قُرب، تأملتْ وجهه. فجمدت وهي في الحلم وحدقتْ بالرجل الماثل أمامها إنه أجمل إنسان رأته في حياتها، أبتسم لها فأحسّتْ هي بالنعمة الإلهية والدفء يغمرانها كأن الشمس بذاتها تُشرق من ذلك الوجه، ظلتْ ساكنة بلا حِراك، عاجزة عن فعل أي شئ سوى التفرس في جماله وبهائه، أقترب منها الرجل أكثر وهمس : "أنتِ أبنتي التي بها سُررتُ" لكن لماذا أخطئتين مجددًا؟ الم تعلمين أن هذه الخطيئة تغضب الرب؟

كان صوته أغنية وئام ومحبة تردد صداها في الأجواء حولها. وقد حلقت مع تلك النغمة لحظة لا متناهية قبل أن تنتبه لكلماته. "عملكِ لم ينتهي بعد"

ثم تبسم لها وعاد وأمسك الكتيب، آنذاك إذداد تألق الصفحات، وتلألأت الأحرف الأحرف بنور نيليّ وظهرت على الأوارق أشكال زرقاء وبنفسيجية، حاولت "موران" ان تتكلم لكن الكلمات خانتها، لم تقو إلا على النظر إلى ذلك الكائن السماوي، وهو يشير إلى الصفحات. أستدار الرجل مرة أخرى إليها، وحدق بها لحظة بدَت طويلة جدًا وتقدم الرجل عبر الفاصل بينهما ووقف أمام "موران" مباشرة. لم يقل شيئًا لكنه انحنى إلى الأمام وطبع قبلة أبوية على قمة رأسها.... نظرت للسقف  وهي تتصبب عرقًا وحسبت أن فروة رأسها تشتعل وتسألت : ماهذا الحلم الغريب ومن هذا الرجل؟ أنه يشبه الأب "كرتيف"! عادت "موران" إلى عالم الوعي بعنف، كأنها قُذفت جسديًا خارج حلمها ودُفعت إلى غرفة الفندق، كانت الأحلام قليلًا ما تزعجها، لكن هذا الحلم كان أشدّ وطأة إذ جعلها تشعر انها تخترق الزمان والمكان، كانت تتنفسُ بسرعة، وجاهدت نفسها لتستعيد توازنها وتلتقط أنفاسها.

دخل "كمال"غرفتها وطلب منها أن يتناولا العشاء معًا، ابتسمتْ "موران" وهزتْ كتفيها في دلال. كان وقتها ينوي طلب الزواج منها لكن تراجع وقال في نفسه "الأفصل ان لا أطلب هذا الآن"

ذهبا الاثنان إلى المطعم وكانت "موران" في كامل زينتها ومما ساعدها في ذلك جسدها الممشوق النحيل ذات القوام المُثير، ترتدي جونلة قصيرة أرجوانية اللون، وأسفل الجونلة حذاء أسود بكعب عالي، وكان شعرها الأسود المسدول يغطي كاتيفيها المكشوفان من قميصها الأبيض، كان "كمال" ينظر إليها نظرة اعتراض على لبسها المثير، وأخذ يغطي كاتيفيها بالشال الذي تضعه "موران" فوق شنطتها السوداء،بعد أن تناولا العشاء في الفندق خرجا إلى الشارع وهم سعداء، لفت أنظار "موران" أحدى المارة في الطريق، رجل يشبه أبن خالتها "بيتر" فأشارت ل"كمال" نحوه وقالت : أهذا "بيتر"؟ نظر "كمال" بتمعن وقال لها : يبدو هو، فصرختْ "موران" : "بيتر _بيتر "فاأستدار الرجل وبعد ماأطال النظر إليها أسرع وأقبل عليهم وبحرارة قال : "موران وكمال" ماالذي جاء بكم إلى هنا؟ قال "كمال" جئنا في فسحة ونظر نحو "موران" وأبتسم، حينها قالت "موران" أهلًا" بيتر" أين "توما"زوجتك؟ فقال : انها بالمنزل وأشار بيده نحو مبنى قديم يتكون من طابقين، تعالوا معي فسوف تفرح لرؤيتكم، أغلق "بيتر" سيارته وذهبوا ناحية المنزل. كانت "توما" تنظر من شرفة المنزل فرأتهم يدخلون من الباب فأستقبلتم على درج السلم ورحبتْ بهم.

قال "بيتر"لايمكن أن تستمروا في البيات في الفندق، سوف نستضيفكم في المنزل، رفضتْ "موران" لكن أصرت "توما" علي كلام زوجها، وقالت ل"موران"في الصباح تذهبوا إلى الفندق وتأتوا بأمتاعتكم استعدادًا للعيش معنا خلال فترة مكوثكم هنا.

**********************************

جاء الصباح بعد أن باتت "موران مع توما" في غرفة،ومالبثت إلا أن اصبحت مُشرقة الوجه منفرجة الأسارير وقالت في نفسها "لقد وجدتُ أختًا لي ".

ذهبا "كمال وبيتر" وأحضرا الأغراد من الفندق ورجعوا لمنزل "بيتر" كانت "موران" وقد بدأ عليها الحيرة والتوتر. فقد مضى كثيرًا من الوقت ولم تخطو خطوة تقدم في بحثها الذي أتت لأجله، سألتها "توما" هل تحبينن "كمال"؟ كانت نبضات قلب "موران"تدقُ بسرعة فائقة وهي تحاول أن تنفي ماقالته "توما"، وأستدارت وأحضرت من شنطتها الكبيرة بعض الأوراق الخاصة ببحثها، وطلبت من "توما" فنجان من القهوة، كان الحائط المقابل للباب مليئ باللوحات الزيتية القديمة، كان معظم هذه اللوحات لملائكة صغار، وتماثيل لبعض الأنبياء، ظلتْ "موران" تنظر في أحدى اللوحات بتمعن تصوّر اللوحة منظرًا ريفيًا كلاسيكيًا وفي الرسم رُعاة مكللون بالغار، يلبسون أردية فضفاضة ويقفون أمام نُصب صخري كبير كأنه مدفن وكان أحدهم يرفع يداه للسماء كأنما يلتقتُ منها شيئًا. فسمعت صوت "توما" وهي تشاور باتجاه اللوحة وتقول : هذه اللوحة أعطاها لي مدرسي في الجامعة عندما حصلتُ على درجة الدكتوراه، وهي لوحة له قد رسمها هو بنفسه،  فهي تعبرُ عن أستلام القديس "فرنسيس" علامات الصلب من السماء! أستدارت "موران" وقالت "لتوما"درجة الدكتوراه؟ أنتِ حصلتين على الدكتوراه؟ فقالت لها "توما" نعم في العام الماضي، حصلت عليها، دكتوراه في "علم اللاهوت الجنائزي"، ردت "موران" وهي مشدوهة : "اللاهوت الجنائزي" يبدو الموضوع صعب؟ أومأت" توما"برأسها وقالت : من أصعب الدراسات، وواصلت حديثها عن اللوحة "وفقًا لسجلات الكنيسة، القديس" فرنسيس"هو القديس الوحيد الذي ظهرت عليه علامات الصَّلب في نقاطها الخمس. والسبب هو السلالة فهو سليل" يسوع" المسيح وأظن أ هناك براهين على أن كلّ من يحملُ علامات الصلب، وعلامات جِراح المسيح بشكل مؤكد لابد أن يكون من سلالته، لكن المهم أن "فرنسيس" هو أنه حمل علامات الصلب الخمس كلها وهذا ما لايحمله أحد سواه على الإطلاق".نظرت" موران"نحو اللوحة وهي متعجبة، ثم أستدارت نحو مكتب" توما"وهي تريد أن تنقضُ عليه وتقرأ كل ماعليه من كُتب وأبحاث، حينها قالت لها" توما" : يبدو عليكِ الشغف للقرءة؟ فهزت" موران" رأسها،وأقبلت على المكتب وأخذت تتفحص جميع الكُتب التاريخية، بينما كانت" توما"تجلس لجوارها تضع أحدى يداها على خدها وتنظر نحو "موران" وهي تقرأ، لفت انظار "موران" ورقة ضمن الأوراق المصفوفة على المكتب بعنوان : "الانبياء الغابرين"فسألت ما معنى هذا؟ فقالت له" توما" الانبياء الغابرين هم انبياء الرب القدامى الذين عانوا كثيرًا من شعوبهم ليتموا كلمة الرب، فسألتها موران " وهل هذا يخصُ دراستكِ؟

_نعم يخصُ دراستي بل هو عمود الأساس الذي بنيتُ عليه رسالتي

_ وهل علم" اللاهوت الجنائزي" يهتم بدراسة الانبياء القدامى؟

_بالفعل

_أفهم من كلامكِ إنكِ على دراية بجميع الانبياء الغابرين؟

_نعم فاأنا أحفظ تاريخهم كاأسمي!

_يبدو عليكِ الثقة في كلامكِ_أيمكنني أن أعرف بعض الأحداث عن أحدهم؟

_بالطبع يا "موران" لكن من هو؟ أكيد "المسيح" صح؟

_لا يا" توما"ليس المسيح بل النبي "ايليا"

تراجعت "توما" للوراء قليلًا وأسندت رأسها على مسند الكرسي وقالت لها : لماذا "النبي ايليا"

فقالت لها "موران" ليس لسبب ما، لكن أريد معرفة قصته، أو بالآخري أريد أن أعرف ماذا حدث بعد أن ذهب "ايليا" إلى نهر "قيشون"ومعه انبياء "البعل"ليذبحهم؟

_يبدو عليكِ "يا "موران"إنكِ تعلمين بعض الأشياء عن قصته؟

_نعم لقد حكى لي أحدهم عنها وأريد معرفة الباقية

آنذاك دخل" كمال وبيتر" عليهن وطلبوا منهن التجهيز للخروج. نظرت" توما لموران"وضحكن فقالت" موران"يبدو أن الحكاية لاتردني أن أعرفها.

*****************************

أحسَّت "موران"أن حلقها جاف ورأسها يزن أطنانًا، ولم تعرف أين هي، حاولت أن تكتم تعبها داخلها الا تفسد على الآخرون السهرة لكنها عجزت فدست رأسها بين كفيها، وهي تتوجع من الآلام التي أصابت رأسها. أنتبه لها "بيتر" ففزع لرؤيتها هكذا وأقتربت منها "توما" وهي تُمسك بيدها وتسألها مابكِ، فقال "كمال" يبدو أنها أكثرت من شرب القهوة اليوم. فأخذاها ورجعوا إلى البيت؛ وكان مايشغل "موران" هو كثرة الإعتذار للآخرون لأنها أفسدت السهرة عليهم. وبعد أن أدخلتها "توما" إلى الغرفة وأغلقت كافة أنوار الشقة لكي تنعم "موران"بنوم هادئ، قالت لزوجهها : لقد أعطيتها منوم عساها أن تنام، كان "كمال" قد سبق "بيتر" ودخل الغرفة لينام، فلحق به "بيتر" وظلتْ "توما"ساهرة لجوار "موران" حتى خرج الصبح وفاقت "موران" ووجدت "توما" ترتدي ملابسها إستعدادًا للذهاب إلى عملها مع زوجهها في الجامعة، فيما كان "كمال" ينعم بنوم ثقيل، فخرجا "بيتر وتوما" وذهبا للعمل، بينما عاودتْ "موران"التوم، أستيقظ "كمال" على صوت بائع الجرائد، فذهب للصالة ليدخن سيجارة بعد أن أعد فنجان قهوته. لمح ضوء خافت يخرج من تحت باب غرفة "موران" فعلم انها مستيقظة، أمسك الأوكرة بيده وأحناها للأسفل وتلصص من بين الورب، فوجدها مستلقية على بطنها وتغوص في النوم، فتراجع وأغلق الباب بهدوء إلا يزعجها، رجع وجلس على الكرسي في الصالة وأستكمل سيجارته الثانية وأخذ يقلب قنوات التلفاز، حتى بدت له كل القنوات مُملة، أمسك هاتفه وحاول تصفح الانترنت لكنه ضجر بسرعة فأستلقى علي الأرض مُمددًا نظره لأعلى، وفجأة قفز وأنتصب كنخلة ضارية، وتسحب حتى دخل غرفة "موران" فوجدها كما هي مُسلقية على بطنها؛ أقترب منها فرأى قميصها الأزرق يرسم كحل جسدها تحت ثياب الرغبة، ودوائر من بنفسج لدن باكتنار فخديها، كأنها الأرض فككتها شهوة العطش، ووجع الأنفلاق! وقمرها يصعد ويهبط ليفرُ من بين حنطة ظهرها وعجين أردافها، ألقى يده تتحسسُ حرير قميصها، بعد أن دس رأسه بين رجليها، فأنتبهت له هي ففرت مُسرعة من فوق السرير وخرجتْ من الغرفة، وهي تقول له : لا _لا يمكن أن يحدث مثل هذا ثانيًا، وفتحت باب الحمام ودخلت ثم أغلقته جيدًا من الداخل، فيما كان هو يقف خارج الباب يقول لها : لاتخافين لن يحدث شئ، أعدكِ بهذا، فأقتربت هي من الباب وفتحته وحاولت الخروج لكنه ألقاها للداخل بقوة، وأقترب منها فأقتربت منه، فأخذ يراقب تفتح الجسد لوردة الجسد، وامتلاكه لزهرة الشهوة الرابية! وتويج الأنوثة المُنفرط، على ساقيها البيضاوين، وأصبحتْ هي قُبة غاوية غازية لجسد منهزمٍ، وأنفرطت الرغبة كأنها الفتات والأشلاء!.......

دخل الظهر وكان "كمال" يجلس في شرفة البيت يراقب المارة، وموران"تلاطف جسدها بالماء البارد حتى دخلا" بيتر وزوجته"وأحضروا معهم وجبة الغداء، وبعد دخلت" موران وتوما "غرفتهن وأخذن يتكلمن حتى المساء، فطلبت" موران"منها أن تستكمل حكاية" النبي "ايليا"

فقالت "توما" يبدو عليكِ مُهتمة بالموضوع!.

_بعد أن قتل ايليا جميع أنبياء "البعل"بسيفه، تجمع الناس حوله وهم يهنفون هذا أنت نبي الله، الأمر الذي أسعد" ايليا"للحظات معدودة قبل أن يغادر الجبل، بينما فزع الملك" اخاب"من فعلة ايليا، فتوجه إلى قصره مهموم يقول لنفسه "لقد أنتصر عليّ عذا الفقير" وأخذ يشرب الخمر ويهذي كالمجانين، أنتبهت له زوجته" ايزابل" فأقبلت عليه وهي في زينتها، ودست رأسه في صدرها وقالت له : مابك أيها الملك ألم تنصرك آلهة "البعل" اليوم؟ فضحك الملك بصوت عالي وقال لها : "بعل" أين هو؟ يبدو أنه كان نائمًا اليوم! فضجرتْ" ايزابل"ورفعت رأسه لأعلى وقامت غاضبة وهي تقول : نائم! من هو النائم؟ إلهنا لاينام! ضحك الملك وبكى في وقت واحد وقال لها : لقد أنتصر علينا ذلك العبد "ايليا" وأصبحت أنا و" البعل" ضعفاء أمامه بعد أن تجمع الناس حول" ايليا" صمتتْ "ايزابل" لفترة ثم عاودت حديثها : وأين أنبياء "البعل" فقال لها : أنبياء "البعل" اليوم ذبحوا وغرقوا في نهر "قيشون" لقد قتلهم ذلك الرجل "ايليا". فزعتْ "ايزابل" لسماعها هذا الخبر فقالت للملك : أعلم إنكِ حزين لأن "بعل" لم ينصرك اليوم! فقال لها : أنا لايعنيني "البعل ولا أنبياء البعل، فاأنا اليوم حزين لأنني فقدتُ هيبتي أمام الناس! أستغربتْ" ايزابل"لقول الملك، وطلبت من الحراس أن يأتوها بأقواهم وأشدهم، ولما جاءها أحدهم أمرته أن يذهب ل" ايليا"ويحاول تهديده بالقتل أن لم يبتعدُ عن البلدة، فأتي الجندي" ايليا"محمل رسالة له فيها "هكذا تفعلُ الآلهة وهكذا تزيد إن لم أجعل نفسك كنفس واحد منهم في نحو هذا الوقت غدًا" "ملوك ٢:١٩".

كان "ايليا" بعد أن ذبح الأنبياء ودثر "البعل" قد طلب "من اليشع" تلميذه أن ينظر نحو السماء ويخبره بأي علامة تدله على إقتراب الأمطار، ففعل" اليشع" ماأمره لكن دون فائدة، ظلت السماء ساكنة، فأمره ثانيًا، فذهب التلميذ ليرى لكن لا أثر لأي غيمة، وفعلها ستة مرات وفي المرة السابعة حدث ماكان ينتظره "ايليا"السماء غامت وبدأت تمطر، فخر "أيليا" على ركبتيه ساجدًا للرب، وقال في نفسه "اليوم أتممتُ المهمة التي كُلفت بها" وبعد سماعه لتهديد "ايزابل" له قال : لاداعي للمناهدة فمهمتي قضت، فقال للجندي : أرجع إلى مولاتك وقل لها : أن "ايليا" سيرحل تارك لها البلاد! وأخذ تلميذه، وسافر في الليل، إلى جهة الجنوب حيث تنتهي مراعي "فلسطين" الخضراء بصحراء العرب المترامية الأطراف، إلى مكان لايصل إليه نفوذ الملكة" ايزابل" ووصل إلى "بير سبع" وترك تلميذه هنالك، وتوغل إلى الصحراء نحو جنوب "سيناء" كان يسير في أشعة الشمس الحارقة، على الرمال الساخنة، لكن هذه المرة لايوجد غربان لتعوله، ولاأرملة يسكن عندها، ظل يسير إلى مالانهاية، وقد نسى أن الله لم يأمره بترك بلاده، كان يفكر في نجاة نفسه فقط، ونسى كلام الملاك الذي قال له لاتنسى إنك هارب من أمرأة. كان يسير فوق الومال التي تحولت إلى جمرات من شدة الحرارة، وبدأ جسده ينهار، وخرت أعضاءه على الرمال، ولم يفكر ولو لمرة واحدة أنه عصى أمر الرب، لكن لطف به الرب والهمه أن يقول "كلنا كعنم ضللنا، ملنا كلُّ واحدٍ إلى طريقه" فنظر نحو السماء وهو مستلقي على ظهره، حينها أرسل الله ملاكًا مسَّ "ايليا" برفق وناداه "قُم وكُل" وأعطاه كعكة مخبوزة على حجارة محمّا في النار "كعكة رضْف" ورأى قربة ماء فوق رأس الملاك فأكل الكعكة وشرب من القربة، وعاد لينام لكن الملاك مسّه ثانيًا وهمسّ له" قُم وكُل" ثانيًا، لأن المسافة كثيرة عليك، فقام أكل وشرب وبدا جسده يستعيد قوته، وابتدا يمشي مسافة أربعين يومًا وأربعين ليلة، وبعد مرور أول يوم من السير وجد صخرة كبيرة فأستراح بجانبها، فكُشفت له رؤية من عند الله، فرأى القدوس في السماء وقال في نفسه "هذا ماأراني الملائكة القديسون ومنهم سمعت كل شئ، وبالمُشاهدة أقتنيتُ المعرفة" جاءني إله الأزل على الأرض، ومشى على التراب، ظهر في وسط محمية"

أنفتحتْ حوله الأرض فاغرة فاها، وكل ما عليها باد، وحلّت الدينونة بكل شئ، فكانت الحماية والسلام للمُختارين، يرحمهم فيكونوا لله، ويمنحهم رضاه...... هكذا حدث "لايليا" خلال فترة مسيرته حتى وصل بعد أربعين ليلة إلى جبل" موسى"وهناك وجد مغارة فبات فيها، فجاءه الملاك وسأله : ما لك ههنا يا "ايليا" وكأن الله هو من يسأله ما جاء بك إلى هنا؟ كان يجب أن تكون هناك وسط شعبك! بهذا العتاب الرقيق عاتب الله "ايليا" ليعيد "ايليا" حساباته وليفكر من جديد في مسئوليته الروحية التي هرب منها.

آنذاك نظرت "توما" نحو "موران" ووجدتها مُغلقة العينين فأمسكت رأسها وأفاقتها وقالت لها : علينا الذهاب للنوم.

****** ********************

صباح اليوم التالي، يوم الجمعة العطلة الرسمية، وبعد أن أستيقظوا جميعًا وتناولوا الفطور، قالت "موران" سوف نسافر إلى مصر خلال هذا الأسبوع، فنظر "كمال"نحوها بغد أن وضع فنجان القهوة على المنضدة وقال : أنتِ غير طبيعية يا "موران" أنتِ جئتين لعدف إكمال دراستكِ التي تُعديها لمناقشة الدكتوراة، ولم تفعلين أي شئ بخصوص هذا، والآن تطلبين الرجوع إلى مصر، إذًا لما جئنا؟ فقالت له "موران" لقد مر الوقت سريعًا وأشغلت عقلي بأشياء لم تكن في حسباني!

_علينا الإنتظار حتى تتوصلين للحجر الذي تبحثين عنه

_هذا ماأريده "يا كمال" لكن الوقت!! بالأمس أتصلت بي الجامعة وطلبوا منّي الحضور ضروري

_أ نسيتين إنكِ في أجازة غير مدفوعة الأجر؟

_لا لم أنسى، لكن يبدو أن الجامعة تحتاجني خصوصًا لقلة المدرسين المُتخصصين في مجالي

ردت"توما" فقالت : الوقت أمامكِ، كلنا سوف نساعدكِ لإتمام بحثكِ، فلنبدأ من اليوم

_شكرًا "توما" على اهتمامكِ، لكنني أشعر أنني معدومة التركيز ولاأقدر أن أضيف جديد لبحثي، فاأنا قررتُ أن اؤجل الدكتوراة للعام المُقبل!! فقال لها "كمال" : تركتين بلدكِ وعملكِ، وأنا أيضًا كذلك، والآن تقولين ستؤجلين!! أنتِ غير طبيعية يا "موران"

سامحني يا "كمال" لكن كما رأيت ليس بيدي، لكن أريد اليوم الذهاب إلى الدير لأطمئن على رجوع الأب"كرتيف" وأحاول استعطافه لأنني أضعتُ الأمانة التي تركها معّي، قالت "توما"أي أمانة؟ فقالت لها "موران" من قبل أعطاني كُتيب صغير ويبدو أنه نادر، سقط منّي على الأرض ولم أجده، قفزتْ فجأة "توما" وقالت لها : كُتيب صغير نادر؟! ماشكله بالظبط؟

_به منمنمات صغيرة على الغلاف ولونه أحمر، ومن الداخل مكتوب بخط اليد، وعلى أغلب الظن أنه يتكلم عن حياة النبي "ايليا" فقالت لها "توما" أنتظري قليل ودخلتْ غرفة المكتب، ورجعت لهم ثانيًا ويادها وراءها وفي ابتسامة رقيقة قالت لها : هذا هو؟ صرخت "موران" فرحًا : هذا هو كيف حصلتين عليه؟

_لقيته في أحدى البرك فلفت نظري فأقتربت وأخذته

_أقرأتين فيه "ياتوما"؟

_لقد قراءته كله فهو كتيب شيق للغاية، على الرغم أنه ذاكر بعض الأحداث التي لانعلم عنها شيئًا لكنني أستفدتُ منه.

أسرعت "موران" وأرتدت ملابسها وخرجتْ، ولحق بها الآخرون، وذهبوا للدير، وعند وصولهم وجدوا الدير مُغلق تمامًا، فزعتْ"موران" وحاولت أن تجد من تسأله عن سبب غلق الدير.

الجبل، والمنطقة المحيطة به فارغة من الناس، فقال لها "كمال" علينا الرجوع للفندق، وغدًا نأتي مُجددًا، أومأت" موران" برأسها : نعم وهمَّت لتوها بالنهوض فسمعتْ خلفها صوت يناديها بأسمها، ثمة عابر سبيل. التفت وميَّزتْ شخصًا يشير اليها ويرتقي المنحدر، مثقلًا بحمل شنطة ضخمة وتساءلت من عساه يكون؟ وجاهدت لتميز ملامح ابن السبيل  . لقد سبق لها أن رأت ذاك الوجه الشاحب، واللحية القصيرة. فجأة هتف : "أهذا أنا يا سيدتي" فحملقتْ "موران" في وجهه وقالت : أنت الرجل الذي أعطاني هذا الخاتم وأشارت إلى يدها اليسرى. نعم أنا هو أُدعى  ومدت يده وسلم عليها، فقالت "موران" لمن معها : هذا الرجل هو من أهداني الخاتم. واستدارت نحو الرجل وقالتْ : ماالذي أتى بك إلى هنا؟ وماهذه الشنطة الغريبة؟

فقال لها : هذه  شنطة أشيائي، وقد جئت اليوم كي أدخل الدير، لكن كما يبدو! انه مُغلق

فقالت له : وهل تعلم سبب اغلاقه؟

_لاأعلم فاأنا كما تعلمين أحب زيارة الأماكن المقدسة وقد سمعت عن هذا الدير وقرأت عنه كثيرًا، لكني لم أتوقع أن أجده مُغلق

_يبدو أن هناك شئ منع الرهبان المكوث في الدير

_يبدو كذلك، لكن أخبرينني لما جئتين إلى هذا الدير ومن هؤلاء الذين معكِ

_كنت أريد مقابلة الأب "كرتيف" لأمر هام، وهذا "كمال" ابن عمي، وبيتر أبن خالتي وزوجته توما"

هز" محمد" رأسه وسلم على الباقين، وقال يبدو رائع هذا، وأشار إلى الخاتم بأصبعه، فضحكتْ" موران"وقالت هذا أهداه لي أخ عزيز وتعالت الضحكات بينهم. كانت الشمس قد أخذت تغرب، والحرارة بدأت تخف وكان الجميع يسيرون باتجاه النهر، فرأوا رجل يرتقي السفح من الشاطئ كان متلفعًا بالبياض، أشبه براهب من الدير، كانت أزهار "الدلفى" النامية على ضفة النهر في أبهئ تفتحها، فمد الرجل ذو الرداء الأبيض يده وقطف زهرة حمراء ووضعها بين شفتيه، وكان هناك طائران من النورس يسيران على الحصى، فتنحيا جانبًا ليسمحا للرجل بالمرور، فأشارت "موران" ناحية الرجل وقالت : يبدو أن هذه الطيور تعرف هذا الرجل!! كما رأيتم انها تفسح له المكان!. ذهب "محمد" للرجل ليسأله عن سبب اغلاق الدير، فقال الرجل بعد أن تفحص الجميع : الدير مُغلق لمدة ثلاث أيام حِداد على روح الأب"كرتيف" التي صعدت للسماء. حينها وضعت "موران"يدها على فمها لتكتم صرختها، وأذا أخذ الجميع يتبادلون النظرات الحزينة، وساد الصمت بينهم.

قالت "موران" للرجل كيف حدث ذلك؟ فقال لها : ذهب لزيارة أبنته في الأردن وجاءنا خبر وفاته هناك. مدتْ "موران" يدها وهي حزينة وسلمتْ على الرجل، وذهبوا الجميع وهم محزونون.

قال "محمد" موجهًا كلامه ل"موران" : يبدو إنكِ تعرفين هذا الراهب؟

قالت له وعيونها أخذت في الاحمرار من شدة الحزن : أنا لاأعرفه إلا من وقت قصير، لكنني تعلقتْ به مثل أبي

فقال لها : أنتِ إنسانة مُرهفة المشاعر

_شكرًا "محمد" لكن أنت ستسافر بلدك متى؟

_كنت أنوي السفر بعد زيارة الدير، لكن..... من الممكن أن أسافر اليوم

_تعود لبلادك بالسلامة

_أيمكنني أن أتصل بكِ فيما بعد؟

_بالتأكيد هذا رقم هاتفي، عليك الاتصال وقتما تُحب

_شكرًا "موران" لكِ أن تذهبين الآن من صُحبتكِ، أراكِ على خير.

أحتضنتْ "موران" الكتيب قائلة في نفسها "يبدو أن هذا الكتيب من نصيبي"

صباح اليوم التالي، وبعد أن تعامدت الشمس وألقتْ بنورها وهي تضرب نوافذ غرفة "موران" كانت الغرفة تطفحُ بالإنارة ومكسوّة بالبياض الناصع، أستيقظتْ "موران" ولم تجد "توما" بجوارها، خرجت لصالة الشقة وهي تدعكُ عينيها، كانت "توما" تستعدُ للخروج، فنظرت "موران" إلي هاتفها وقالت لها : اليوم الجمعة أظنكِ في يوم الراحة؟ إذًا لما ترتدين ملابسكِ؟ فأجابتها "توما" اليوم الجمعة، وقد أعتدتُ زيارة كنيسة "الزيتون" كل جمعة! فنظرتْ "موران"إلى شكلها في المرآة وقالت "لتوما" أيمكنني الذهاب معكِ؟ _ بالتأكيد، ذهبت "موران" للغرفة وأرتدت ملابسها، وخرجن الاثنان وتوجهن إلى الكنيسة، وعندما أقتربن من الباب المؤدي للقاعة الشمالية للكنيسة، وقفت "موران" وقرأت الكلام المنقوش باللاتينية على عتبة الباب العليا : "هذا المكان رهيب" فرددت الجملة تتساءل "هذا المكان رهيب"؟ أجابتها "توما" : هذه جملة من فقرة في سِفر التكوين الإصحاح الثامن والعشرون. ذلك ما قاله "يعقوب" بعدما استفاق من حلمه الذى رأى فيه سُلمًا إلى السماء!! نظرت "موران" مُحتارة وقالت : لماذا يختار أي كاهن أو راهب جملة معينة ويكتبها على مكان عبادة؟ فأجابتها" توما" يجدر بكِ رؤية المكان من الداخل قبل أن أجيبكِ. دخلت "موران" قبل "توما" فوجدت المكان مُظلم لا ترى فيه حتى هاتفها فتراجعتْ وهي خائفة، فقالت "توما" أنتظري لحظة، وأخرجت قطعة نقود معدنية من حقيبتها وقامت بوضعها داخل فتحة مُخصصة للنقود فأضأت الأنوار، وقالت" لموران" أنتِ ذكرتيني بأول مرة جئت فيها لهذا المكان، كان كل شئ مُختفي تمامًا في رحاب الظلام، والمرة الثانية أحضرت مِشعلًا من الشموع وأضأت به المكان، فرآني أحد وكلاء الكنيسة ودلني على صندوق وضع النقود وبهذه الطريقة يكون الزوار دفعوا شيئًا للكنيسة وسيظل النور مضاء لمدة عشرين دقيقة. وأثناء شرح "توما" موضوع الإضاءة كانت "موران" قد استدارت ورأت تمثال :" شيطان" بشع يربض عند مدخل الكنيسة. وضعت "موران" يدها على التمثال هازلة وقالت :ما هذا؟ فقالت لها "توما" إنه "ركس" أي الملك باللاتينية! إنه بمثابة جالب الحظ المُعتمد بالنسبة للمنافقون السابقون! توجد آلاف الأقوال والنظريات بشأنه، فبعض الناس يقولون إنه الشيطان "أزموديوس" حارس الأسرار والكنوز! فيما يقول البعض إنه "موندي" الذي يعود إلى طائفة "الكتار" وآخرون يقولون إنه هو الشيطان نفسه وقد تم حبسه هنا بعض صلب المسيح!!

أستغربت "موران" ومررت يدها مرة أخري لكن هذه المرة كانت يدها اليسرى، فحدث شئ غريب : تحرك التمثال وأصدر من فمه صفيرًا منخفض!! نظرت "توما" ل"موران" داهشة وقالت : أتسمعين ماأسمعُ؟ نعم أسمع إنه صفير!!. وضعت يدها مرة أخري فتحرك التمثال ثانيًا بعد أن أطلق صفيرًا، ترجعن الاثنان وأخذن ينظرن لبعضهن وهن مستغربون! راحت "توما" ووضعت يدها على التمثال فلم يحدث شئ! فقالت ل "موران" مررين يدكِ أنت. ففعلت ولم يحدث شئ. نظرن لبعض وهن يتعجبن وواصلن سيرهن إلى داخل القاعة، وأخذن شمعات صفراء اللون وأوقدوهن ورتلن بعض الفقرات من الكتاب المُقدس وبعد توجهن للخروج. وعند الباب وضعت يدها "موران"علي التمثال فتحرك وأصدر صفير، ففزعن هذه المرة، وقالت" توما" يبدو الأمر عجيب! ووضعت يدها على التمثال فلم يحدث شئ، فوضعت "موران" يدها ولم يحدث شئ أيضًا! وأستكملن طريقهن، وفجأة أستدارت "موران" ناحية التمثال وأقتربت منه ووضعت يدها اليُمني عليه ولا جديد التمثال صامت، فوضعت يدها اليُسري فتحرك التمثال وأصدر صفيره، رفعت يدها ووضعتها وحدث كما حدث من قبل، فوضعت يدها اليُمنى فلم يتحرك!! فأخذت "توما" يدها اليسري ووضعتها فتحرك وأصدر صفير! ففعلن هذا أكثر من عشرة مرات وفي كل مرة يتحرك التمثال ويصدر صفيرًا. بات الأمر مُحير ولن يجدن تفسيرًا لما يحدث. خرجن وذهبن إلى أحدى المطاعم وتناولن معًا القهوة وأخذن يتحدثن حتى بدأت الشمس في الاختفاء فرجعن إلى البيت؛ وكان "بيتر، وكمال" يجلسوا علي الأرض ويبدو أن حدث ما يشغلهم في أحدى القنوات الفضائية، فلم ينتبهوا ل "موران، وتوما" عندما دخلن!.

كان الأمر يشغل "موران" أكثر من "توما" لذلك جلست "موران" متأملة يدها اليسرى تحاول أن تجد شئ مختلف عن يدها اليُمني، فقالت في نفسها : "اليمنى مثل اليُسرى تمامًا" ظلت تكرر هذا كثيرًا و"توما" تراقبها عن كثب، حتى نطقت "توما" وقالت. : يمكن الخاتم الذي بيدكِ اليسرى؟؟ هو من يفعل وضحكت، فأنتبهت "موران"لكلامها وقالت : ممكن!! فنظرت إليها "توما" وقالت أنا أضحك فقط أنتِ صدقتين؟ كانت "موران" تسرح في هذا الخاتم، فقالت لها" توما" أنتِ نمتين؟؟ فقفزت "موران"وقالت لها تعالي معي.

رجعن مُجدًدا إلى الكنيسة، لكن وجدن باب الكنيسة مغلق!! فرجعن إلى المنزل، وقصوا على" كمال وبيتر" ماحدث، فضحكوا بصوت عالي، مما أزعج "موران" فأخذت "توما" وتوجهن لغرفتهن، وأخذن ينظرن إلى الخاتم بعد أن خلعته" موران" وتذكرت "موران" كلام الراهب "كرتيف" عن الخاتم : "هذا الخاتم يبدو مُريب" فقالت "لتوما" السر في الخاتم! أنا متأكدة مما أقوله لكِ! فأنتبهت" توما" لكلامها وقالت : الأمر في غاية السهولة، عليكِ أن لاتحتفظين به من الآن! ألقيه من الشباك. أمسكت "موران" بالخاتم وطلت من النافذة لتلقيه لكنها تراجعت، وقالت من الأفضل أن أعطيه لصاحبه.

اليوم التالي ذهبت "توما لعملها تاركة" موران"نائمة. أزعجها الصخب والضجة التي أحدثها" كمال"جراء قيامة بعمل فطوره، أستيقظتْ وهي غاضبة وذهبت للمطبخ لترى ما يحدث، ولما راءها" كمال" أقترب منها وحاول أن يحتضنها لكنها منعته، وقالت له تعالى معي! فقال لها : أين؟ أنتظري حتى نتناول الفطور. وأثناء تناولهم للفطور، قصت "موران" عليه ما حدث وانها تريد أن تتأكد من أن الخاتم هو من يفعل بالتمثال في الكنيسة، فما كان منه إلا أن ضحك بصوت عالي وقال : أنتِ محنونة؟!. كانت "موران" تأكد له أن التمثال كان يتحرك، ويصدر صوت غريب، فقال لها "كمال" سوف أذهب معكِ، ذهبا الأثنان إلى الكنيسة، وعند دخولهم خلعت "موران "الخاتم وتركته مع "كمال" وقالت له لاتدخل أنت الآن، وأقتربت من باب الدخول بجوار التمثال، فلم يحدث شئ غريب، فقالت له الآن أدخل ولا تضع الخاتم في يدك أتركه على العتبة، دخل "كمال" ولم يحدث شئ، ورجع وأخذ الخاتم ودسه في أصبعه، وأقترب من الباب ووضع الخاتم فوق التمثال، فأهتز وأصدر صراخ، ففزع "كمال" وسحب "موران" من يدها وتوجهوا للشارع، وقال لها : أنتِ مُحقة، وخلع الخاتم من أصبعه، وألقاه في الشارع، فصرخت "موران" ووأرتمت على الأرض وأخذت الخاتم وقالت له : سوف أرجعه لصاحبه، ورجعوا إلى البيت وأتصلت ب "محمد" صاحب الخاتم وطلبت مقابلته، لكنه قال لها : أنه الآن في "أبشوزان" أحدى المدن الإيرانية! فقصت عليه ماحدث من الخاتم، وفي نهاية المكالمة قال لها : أنه سوف يأتي إلى فلسطين بعد ثلاثة أيام. كانت "موران" لاتملك شيئًا إلا ان تنتظر مرور الثلاثة أيام، وخلال هذه الفترة كانت تخبئ الخاتم في شنطتها.

كان "بيتر" قد طلب من "موران"  أن تنتظر معهم لمدة عشرة أيام للاحتفال بعيد ميلاد "توما" وبعد أن عزمت "موران" السفر تراجعت وطلبت من "كمال" أن ينتظروا لحين الاحتفال بعيد ميلاد "توما". لم تمر إلا ساعات قليلة وتلقت "موران" مكالمة هاتفية من "محمد" وأخبرها أنه سيحضر في الغد، وأنه يريد مقابلتها على الفور.

أخرجتْ "موران" الخاتم من شنطتها ورفعته ناحية الأعلى وظلت تتفحصه، وتحاول أن تجد فيه شئ غريب، دخلت عليها "توما" وأخذت منها الخاتم ورمت به تحت أحد الكراسي، وقالت لها : هذا الخاتم شيطاني!، ضحكت "موران"وخرت وراءه وأخذته من الأرض ودسته في الشنطة، وطلبت من "توما" أن تستكمل حكاية النبي "ايليا"، فقالت "توما" : بعد أن ذهب "ايليا" إلى الجبل خوفًا من بطش "ايزابل" وقد تذكر كلمات ربه، وأنه لم يفي بالمهمة التي أعطاها الرب له، لام نفسه بشدة، وقرر الرجوع إلى مملكة بني إسرائيل يدعوهم مُجددًا لعبادة الرب، وعندما دخل المدينة ليلًا، علمت ايزابل بقدومه، فجهزت له أشد الرجال بطشًا ليقتلوه أو يصلبوه، وقد أخبر الملاك "ايليا"بمكر "ايزابل" فأصر "ايليا" في مواجهة رجال "ايزابل" وفي ذلك الوقت حدثت المعجزة الإلهية، بعد أن تدخلت لتنقذ "ايليا". بعث الله بنار مضطرمة شديد القوى فألقت بجنود "اخاب" على الأرض متفحمين، وقال "ايليا" ل "اخاب" : اليوم أذكرك  "هل قتلت وورثت؟ في المكان الذي لَحَست فيه الكلاب دم نابوت تلَحس الكلابُ دَمك أنت أيضًا"فضحك الملك واستدار وذهب لقصره، وبعد ثلاث سنوات ظل "ايليا"يدعو الملك لعبادة الله الواحد، بينما كان الملك "اخاب"لاينصت إليه.

كانت مدينة "آرام"  تنعم بسلام مع دولة "إسرائيل" وخلال الثلاث سنوات الماضية لم تحدث حروب بين المملكتين، لحين أجتمع الملك "اخاب" مع قواد جيشه وجنوده وقال لهم : أتذكرون أن ملك "آرام"  أستولى على "راموث في جلعاد" وسلبها منا؟ لماذا لا نحارب ونستردها. أجابه الجمع نحن معك يا" أخاب" وطلب بإحضار الملك "يهوشافط" ذلك الملك االذي كان يتمتع بقوة جيوشه التي قاربت مئة وستين ألف محارب لكل فرقة،  ليتحالف معه ويحاربون "آرام" لكن الملك "يهوشافط" وهو كان شديد الحرص وشديد الإيمان قال للملك أخاب" بعد أن هب واقفًا وضم ركبتيه الواحدة إلى الأخرى وأسند مرقفيه إلى جسمه :؛ أولًا نستشير الأنبياء أن كنا سننتصر أم لا! وبالفعل جمع الملك "أخاب"الأنبياء وسألهم عن الحرب وكان جوابهم أجمعين : أذهب وسينصرك الله.

لكن الملك" يهوشافط" قال له : أنا لاأثق إلا في كلام النبي" ايليا" فقال له" أخاب"ايليا ايليا" كم أكره هذا الرجل! فأرسلوا لطلب" ايليا" وسألوه فكان جوابه :  سوف تخسر المعركة ياأخاب! وسوف تقتل، آنذاك نظر إليه" يهوشافط"وهز رأسه، فضحك الملك" أخاب"وقال مارأيك الآن يا" يهوشافط"؟ فقال : أنا أصدق كلام" ايليا"حينها قام الملك "أخاب"من مقامه وقال موجه كلامه ل "يهوشافط" أنت لم تأتي معي أنت وقواد جيشك فسوف تكون عدو لي! فقال له "يهوشافط" دعني أفكر في الأمر.

كان الملك "أخاب"يصرُ على إسترداد "راموث" وهو كان يعلم أن كلام "ايليا" صحيح لكن أخذه الغرور إلى الحد الذي أوصله للقتل، فبعد يومين جاءه الملك "يهوشافط" وقال له سوف أذهب معك للمعركة لكن بنصف الجنود فقط لأنني أثق في كلام "ايليا"، فضحك الملك "أخاب" ونظر نحوه نظرة غل وقال : نصف الجنود؟ موافق، أذهب لتعدهم للحرب، وأمر "أخاب"" عبوديا " بإحضار جميع الكهنة إلى القصر، وبعد أن دخل رئيس الكهنة وتشاور معه" أخاب" قال له رئيس الكهنة، أذهب وحارب ونحن ننتظرك تعود ب" براموث"! أنت الملك الذي لايقهر، لقد قهرت سكان الكهوف، وآكلي لحوم البشر، وحاربت عبر مناطق بالغة الجفاف، وصلت فيها حرارة الشمس إلى الحد الذي يجعل شعور الناس تشتعلُ من تلقائها وكأنها مشاعل مضيئة، كما حاربت في مناطق أخرى غيرها بلغت البرودة فيها درجة جعلت سواعد الناس تنفصل عن أجسادهم.... وغير ذلك أكثر أذهب وحارب وأنتصر.

آنذاك تنفس "أخاب" نفس عميق يملؤه الغرور ونظر لمن حوله وجلس على كرسيه رافع رأسه.

بعد أن أعد" أخاب"جيشه ورافقه الملك" يهوشافط" هو وبعض من جنده وتوجهوا ناحية" آرام" وفي الطريق وقد على السماء غبار الأرض الحاملة للجنود، وكان الجنود لايرون أمامهم إلا بضعة أمتار وظلوا يسيرون مهتدون لضوء القمر فلمحوا من بعيد كتلة كبيرة حمراء اللون تقتربُ من ثنايا الطريق، وإذاهم بمحفة كبيرة مكسوة بالأرجوان، ومذدانة الجوانب بريش نعام، ووراء هذه المحفة نساء جميلات يتزين بالسلاسل في أرجلهم، وحين أقترب الجنود ورأوا جمال النساء نسوا أمر الحرب، وتدافعت تحت ارجل الجنود تلك النساء الجميلات، حتى رمى الجنود آلات حربهم وضاجعوا تلك النسوة حتى مطلع الفجر، لم ينتبه إلى هذا الملكين، وظنوا أن بعض الجنود ضلوا الطريق، فتوقف الملك "أخاب" وألقى نظراته الفاحصة على الطرقات فوجدها خاوية خالية وكانت بعض النسور تحلق فوق رأسه وفجأة إنطلق صوت من بعيد كأنه من أحشاء الأرض فانحنى الملك ليصيخ السمع، فتيقن أنه صوت أرجل الأعداء قادمون، فذهب عند بئرة "تورين" وأخذ يملئ جرة مائه ونظر حوله لم يتبقى من الجنود إلا قلة قليلة الأمر الذي أفزعه، ولمّا رأى الملك "يهوشافط" الجنود وهم يرتمون في أحضان النساء تيقن أن هذه خدعة دبرها ملك "آرام" ليكسب الحرب، وعندما التقى الجيشان، قتل معظم جنود الملكين "أخاب، ويهوشافط" ذلك المشهد الذي أثار غضب "أخاب" فسار يقاتل كالمجنون، قضى على أربعة عشر فارسًا بضربة واحدة من سيفه، وألقى بقفاز التحدي في وجه سائر الذين تقدموا منه للمبارذة ولقد حسبوه في عداد الموتى أكثر من عشرين مرة، كان يفلت من براثن الموت كل مرة. وبعد قتل "أخاب". والملك "يهوشافط" تراجع هو وجنوده، وما إن جُنّ الليل حتى أقبلت جماعة من الكلاب ذات الوبر الأصفر وبدأت تلحس دماء الملك "أخاب".

"" وقد حدث ماتنبأ به ايليا فقد خاض "أخاب" المعركة متخفيًا ولم يلبس ثيابه الملكية حتى لايُعرف. ولكن سهمًا طائشًا أصابه بجرح مميت وجرى دم الجرح في مركبته الحربية. ومات عند المساء وغسلوا مركبتة الحربية في بركة "السمرة" فلحست الكلابُ دمه. ""

كانت "موران" طيلة ليلها تستمع ل"توما"حتي غشاها النوم وحين أستيقظتْ تلقت اتصال هاتفي من "محمد" يُخبرها بوصوله عند "جبل الكرمل"، أرتدت "موران" ملابسها وخطفت شنطتها ونزلت لمقابلته، آنذاك هبَّت رياح لطيفة دافئة أثارت غبارًا كثيفًا في الجبل، وفاحت رائحة الأرض بأوراق الكرمة، والعنب، كان الرجال والنساء قد تدفقوا من كل مكان لقطف المحصول فكان محصول الكرمة في قمة تألقه، فأغصان العنب ملآى بخمرها الفطير، ملقاة على الأرض تنتظر.

وكانت الفتيات الصغيرات المتألقات مثل العنب قد أكلن عناقيد كاملة ولطخن وجوههن بالعصير! وأخذ الشبان النابضون بعنفوان الشباب العارم يلقون نظرات ماكرة إلى الفتيات المقهقهات اللواتي يقطفن المحصول، ظلت "موران" تراقب هذا لحين رأت "محمد" يجلس على أحدى الأحجار! فأقتربت منه وسلمت عليه، وأستراحت لجانبه، وقبل أن يتكلم "محمد" أخذت "موران" شنطتها من جوارها ووضعتها فوق ركبتيها ودست أصابعها تبحث عن الخاتم حتى وجدته، فرمته في أيد "محمد" وقالت له : إليك خاتمك الشيطاني!

تعجب "محمد" من كلامها وقال : ماذا تقصدين؟ شيطاني؟

فقالت له : هذا الخاتم أكيد فيه سر جعل تمثال الشيطان في مدخل الكنيسة يهتز ويصدر صراخ! وفاجأة صرخت وقالت له : أكيد هو اللي ظهرلي في هيئة أمرأة عجوز، وأعطتني المنديل، وأكيد هو البومة البنية التي فزعت منها، وهو اللي يجعلني أحلم أحلام مُفزعة!

لم ينطق "محمد" بشئ وظل صامتًا حتى صرخت في وجهه "موران" فأنتبه وقال لها : أنا فقط أعطيت لكِ الخاتم كهدية ولاأفهم ماتقولين، لكن على كل حال سوف أسترده منكِ إن كان هذا يرضيكِ.

أمسك "محمد" الخاتم ودسه في أصبعه وواصل كلامه معها، حتى شعرت هي بتعب فقالت له : يمكنك أن توصلني إلى الفندق. وفي الطريق سألته عن من أعطاه هذا الخاتم؟ فقال لها : لم يعطني اياه أحد لقد عثرتُ عليه في بلدتنا، وظل معي لمدة سنة ولم أرى منه شيئًا غريبًا، فهو خاتم عادي. فقالت له : أنه ليس بعادي فهو ممسوس من الشيطان! فضحك "محمد" بصوت عالي وخلع الخاتم من أصبعه ووضعه أمام عينه وقال له : أنت ممسوس من شيطان وواصل ضحكه، الأمر الذي جعل "موران" تضحك أيضًا. وفجأة سكت "محمد" عن الضحك ونظر مجددِا إلى الخاتم وقال : أظن أن هذا الخاتم كان يستعمل في السحر! لقد تذكرتُ كلام أبي الآن أن أحدهم كان يعمل في السحر وقبل وفاته قد أصاب بشئ من الجنون جراء فقدانه خاتمه السحري، وأظن أنه هو هذا الخاتم! فقالت له" موران" أنه مجرد ظن لكنك لست متأكد؟ على العموم هذا الخاتم لايخصني ومن الأفضل أن لاتحتفظ به أنت أيضًا. نظر "محمد" إلى الخاتم وقام برميه في أحدى برك المياه وقال لقد تخلصت منه أنا أيضًا، وأستدار لينظر إلى "موران" فوجدها ساقطة على الأرض فقام بحملها وحاول إفاقتها، ثم أسندها إلى ذراعه وذهبا إلى الطريق، كانت "موران" وقتها في حالة عدم استقرار ذهني جعلتها لاتفتكر مكان سكنها، فقاا لها "محمد" علينا أن نذهب إلي هذا وأشار بيده إلى أحدى المطاعم، وبعد أن دخلا وأستراحا بدءت" موران" تستعيد وعيها وطلبت منه أن يوصلها إلى بيت "بيتر" فيما كان "كمال" ينتظرها في الشارع وقد رآها وهي تتكأ على ذراع "محمد" أسرع وحملها إلي البيت بعد ما شكر "محمد".

*******************************************

صباح اليوم التالي كانت "موران" تلقت اتصال من الجامعة ولابد من رجوعها إلي مصر في نفس اليوم الأمر الذي ازعجها فهي كانت تود أن "تحتفل بعيد ميلاد "توما"لكن الجامعة أصرت علي رجوعها، كانت" توما"تقدر مشاعر" موران"اتجاهها لذلك قالت لها عليكِ السفر وأحتضنتها وقبلتها.

أعد" كمال"تجهيزات السفر بعد أن حجز التذاكر، وودعوا" بيتر"وزوجته، وأتصلت" موران بمحمد "وودعته أيضًا، وقالت" لكمال"لقد أضعت الوقت ولم أتوصل إلى شئ يفدني في بحثي، فقال لها لكنكِ أستفدتِ كثيرًا من الخرفات التي أضاعت وقتكِ فنظرت إليه ورفعت أحدى حاجبيها وضحكت.

كان عليهم الاسراع للوصول للمطار حتي لايضيع الوقت، وعند دخولهم المطار سمعت" موران" صوت يناديها باسمها فأستدارت لتري من يناديها وجدت "محمد" فأقترب منها وقال : مفاجأة صح؟ فهزت "موران" رأسها قائلة : ماذا تفعل هنا؟ فقال : لقد نويت السفر إلى مصر! فأستغربت "موران" وقالت لكنك.... لكنك لم تقل لي شئ عن هذا في المكالمة! فقال : كنت لاأنوي السفر لكن كما تعلمين انا بحب زيارة الأماكن المقدسة، وقد قرأت عن كنيسة "العذراء" التي تقع في شبرا فقررت زيارتها، فقالت له وهي مبتسمة : انها قريبة من منزلي؛ على العموم أهلًا بك في مصر، وركبا الطائرة وكان "كمال" يضجر من "محمد" وقد بدا عليه الغيرة.

عندما تحركت الطائرة متجهة لمصر ولم يمر إلا دقائق معدودة غفت عين "موران".

السردية الرابعة

_المثول_

"تهيؤ اللحظة لك وتهيؤك في اللحظة"

أستيقظتْ" موران" من نوم قاتم وحلم غريب. شعرت بأنها تنتشل من هاوية سحيقة تدريجيًا لكن ظلت عيناها مُغلقتان ورفرف جفناها اللذان أصبحا اقل صدا للضوء. لم تعي نفسها إلا بعد محاولات عدة لكتم صوت هاتفها. لقد رن عدة مرات. نظرت إلى ساعتها، لاتستطيع رؤية العقارب. كانت الملاءة التي تغطيها رطبة فأزاحتها جانبًا غير أن ذلك لم يخفف من وطأ الحر في تلك الليلة، ومن تأثير حلمها. بعد تردد دام بضع دقائق التفتت إلى يسارها. أمسكت بالهاتف ووضعته علي خدها. كان الأب"مرقس" يحاول الاتصال بها ليطمئن عليها منذ ساعتين. أنتبهت "موران" للأسم الظاهر علي شاشة المحمول فنهضت وهي مفزوعة وقالت : أبي.. أبي. أين أنا؟ فقال لها أبيها بنبرة صوت حزينة :" أين أنا" ماذا تعنين ياأبنتي؟ قالت له : لاشئ.. لاشئ وصمتتْ لفترة ثم أردفتْ قائلة : وحشتني ياأبي. فقال لها : منذ ساعتين وأنا أحاول الاتصال بكِ الم تسمعين الهاتف؟ قالت له وهي تتثاوب : أنا_أنا... وسكتت.. وراحت تتذكر حلمها..

"كانت رغبة عارمة تسيطر عليها في كل شئ وتذكرت انها كانت في "فلسطين" على الرغم انها لم تغادر بلادها "

قال لها "مرقس"

_أنتِ "ياموران" ستسافرين بعد الغد؟

_نعم ياأبي

_أتصلتي "بكمال" وأكدتين الميعاد

_أتصلت به، وسنسافر معَا

_كنت قلق عليكِ.. حاولت الاتصال بكِ لكنكِ لاتجبيني، أتصلت بالشيخ "درويش" وطلبت منه أن يحضر للمنزل ويطمئني عليكِ

قالت له "موران" وهي لاتعي ولاتصغى لأي كلام : الشيخ" درويش"!

آنذاك رن جرس الشقة فقالت له "موران" أنتظر ساأفتح الباب. كان الشيخ "درويش" يقف خلف الباب يحاول التقاط أنفاسه، وبعد أن دخل الشقة ورحبت به "موران" طلب أن منها أن يصلي صلاة الغروب، وهي أستأنفت الحديث مع والدها. أنهت المكالمة وهي لاتزال ذاهلة عن عالمها الحسي، وأخذت تسترجع ما رأته في حلمها. نهضت مفزوعة وقالت في نفسها "ماالذي حدث بيني وبين كمال؟ أهذا يُعقل؟  ودون أن يتسلل التفكير في هذا الشأن إلى عقلها حاولت طرد هذه الفكرة من خيالها

فرغ الشيخ "درويش" من صلاته وظل يراقبها وهي تتحدث مع نفسها، فأقترب منها ووضع يده على رأسها وقرأ عليها بعض الآيات. أستدارت نحوه وأمسكت يده وقالت : لقد حلمت حلم غريب جدًا. طلب منها الشيخ أن تقص عليه مارأت. تراجعت "موران عن الكلام وقالت في نفسها :" كيف أحكي له عن هذا الحلم، كيف أقول له أنني مارست الحب مع أبن عمي؟ ". أردفت قائلة أنني حلمت ب...  وصمتت ثم أستكملت كلامها_وقصت على مسمع الشيخ الحلم دون أن تعلمه عما حدث بينها وبين" كمال".

كان الشيخ يستمعُ لها ووجههِ يبيضَ وحدقتاه تتسعان مع كل كلمة. وعندما انتهت من كلامها نظر إليها نظرة شفقة وقال لها ؛ بعد أن جلس علي احدي مقعدين وثيرين، ونزع عمامته البنية : هذا حلم غريب! يبدو عليك إنكِ أنتهزتين فرصة غياب" مرقس"وحلت لكِ مكتبته فدخلتين إليها وقرأتين بعض الكتب التي تتحدث عن هذا الجبل، فقالت له : لا_لا_لم أقرأ ابدًا عن هذا الجبل ولا كنت أعرف مكانه إلا من الصحيفة، ولم أكن أهتم ابدًا بأنبياء العهد القديم مُطلقًا وأكاد أكون لم أسمع عن هذا النبي الذي يدعو "أيليا" ولا على عن الملك والملكة ولا... ولا.... ولا أعلم أن كان هنالك كنيسة بجوار دير. أستغرب "درويش" ونظر إليها بشفقة وقال : ممكن أشرب فنجان قهوة من يدكِ؟ وقام من مكانه ودخل غرفة المكتبة، وأخذ يفتش في الكتب والمجلدات التي تكتظ بها الغرفة. أحضرت "موران" القهوة وجلست مع الشيخ في غرفة المكتبة. أخذت تبحث معه عن أي كتاب يتكلم عن مارأته في الحلم. جاءت نبرة الشيخ حاسمة كأنه يحادث طفلة : لقد وجدته.. لقد وجدته، ردت "موران" بعفوية وإصرار أين هو؟. بدت "موران" كمن أُصيب بصفعة حين جالت بنظرها نحو مجموعة من الكتب أشار عليها الشيخ. قالت له : في منتصف هذه المجموعة كتيب أحمر صغير! يمكنا الاطلاع عليه؛ فقال لها : أنا أقصد الكتاب الأكبر الذي بجانبه. نهضت "موران" وسحبت الكتيب من منتصف المجموعة ونظرت إلى غلافة، كان كتابًا قديمًا ظهر على غلافه المقوى عنوانه "عودة ايليا" وعنوان فرعي تحته " أبطال من التاريخ" فتحت "موران" الكتيب وأخذت تقرأ فيه والشيخ "درويش" يستمع، ولما انتهت من القراءة قالت له _أي لدرويش_كل ماهو مكتوب بالكتيب أنا رأيته في حلمي ماذا تظن أيها الشيخ؟؟

نظره إليها وقال : أنتِ أكيد قوأتين هذا من قبل؟

_لا _أقسم بالرب لا!

_يمكن "مرقس"حكى لكِ

_لا_لا_لم يحكي أبي مثل هذا قط.

تبسم الشيخ "درويش"وأمسك الكتاب منها، نظرت "موران" ليد الشيخ وبحلقت بقوة وأخذت تدور حول نفسها؛ وبعد خرت على الأرض فاقدة وعيها. أنتبه الشيخ لها فاأسرع وحملها وأدخلها غرفة نومها وقالت له : أتصل "بكمال"

السردية الخامسة

_الإعتراف_

"قبض القبضة على الجمر باللوعة"

بعد أن أتصل الشيخ "درويش" بي

دخلتُ مُسرعًا إلى غرفتها؛ أستوقفني على الباب صورة لها وهي تضحك وتحاول أن تحجب ضوء الشمس الساقط عليها باحدى يديها. أنتبه الشيخ "درويش" وأستغرب مني ،وقال لي : يابني هذا ليس وقت صور أرجوك طمئني عليها، أومأت برأسي : حاضر وقلت في همس مسموع : تبارك الله خالق هذا الوجه الملائكي!. نظر إليّ الشيخ "درويش" وعيناه تكاد تُدمع وهز رأسه بعد ما أبتسم.

بعد ما أستغرقت في الكشف علي "موران"أكثر من نصف ساعة كان الشيخ "درويش" يكاد ينفجر من القلق والغيظ. فصرخ في وجهي  وقال لي : ياأبني ما بها؟ لأكثر من نصف ساعة وأنت تضع السماعة فوق صدرها ولاتخبرني عن ما بها؟ الهذا الحد هي تعبانة؟ نزعتُ السماعة من أذني وقلتُ له : انها بخير هي فقط مُجهدة فلنتركها تستريح بعد هذه الحقنة.

خرجنا من الغرفة وتوجهنا إلى الصالة. وسأل عن الأب مرقس"أخبرني الشيخ بأنه سيعود من عند أخيه قبل نهاية الأسبوع. ظل الصمت هو سيد الموقف بيننا لكن الشيخ" درويش" ظل يراقبني! فيما كنتُ أنا أجول بنظري في أركان الصالة أتأمل صور "موران" المُعلقة بالحوائط، ودون أي مُقدمات نطق الشيخ في نبرة هادئة : أنت تعلم أن "موران" من أجمل بنات العالم؟

"موران" قلت له وأنا أستنشق الهواء ببطء : الجمال صفة صغيرة جدًا، هي... أقصد صورها أجمل من الجمال!

 آنذاك رن جرس الهاتف الخاص "بموران"" فألتقطة الشيخ من على الأرض ونظر إليه وقال في نفسه : هذا ماكنت أخشاه!! فنهضتُ بسرعة وقلت له : مالأمر؟ قال له :" مرقس" يتصل بموران"ما العمل؟ فقلتُ له: أخبره الحقيقة فحالة "موران" غير سيئة، انها بخير. رد الشيخ علي "مرقس" وأخبره أن أبنته نائمة لأنها مُجهدة، فما كان ل"مرقس" إلا أن قال للشيخ : ساأحضر في الغد. خرجت "موران"من الغرفة ويبدو عليها التحسن. قالت موجهة كلامها للشيخ : سمعتك تقول أن أبي سيصل في الغد؟ _نعم ياأبنتي

لا يا شيخ أنا سأسافرله!!! لقد قررتُ أن ألغي سفري إلى فلسطين وأذهب لأبي عند عمي

سمعت هذا الكلام فقلتُ: حمدا للرب. نظرت "موران" نحوي وأبتسمت قائلة : أعلم أن هذا الأمر سيفرحك.

مر اليوم وأطمئننتُ على "موران" ودخلت شقتي، وكانت الوساوس تنخر عقلي، وظللتُ أقول في نفسي : "أهذا الجمال بين يدي وأنا لا أقترب منه، وحاولت إبعاد هذه الفكرة من عقلي، "موران" مثل أختي ولايحوز بناء علاقة معها غير ذلك!! لكن أنها جميلة جدًا، وأعتقد أنها هي المناسبة لي، فهي أبنة عمي، لكن أهذا جائز؟

أخذتُ أفكر في الأمر حتي طليعة الفجر، ويبدو أن الفكر أستحوذ عليّ لدرجة أنه أدخلني في إكتئاب ثنائي القضب، فأحيانًا أضحك وكثيرًا ما أود أن أبكي، فتحتُ النافذة

وقد بدأت قطرات المطر الأخيرة في الاتساع أثناء سقوطها على الجدران، وبدأت زرقة السماء في الانعكاس ببطء على النافذة، حينئذ؛ وفي الشارع الواسع ومن عمق الركن القريب، انبثق نداء أول بائع لليانصيب. أطلُ بنصف وجهي لأشهد أيامي المدفوعة وراء القضبان. هاهي ذاكرتي التي لم ترد أن تصير كيسًا تلقي فيه المارة فضلاتها المتبقية في عشائها الأخير. هاهي تخطيطات دمائي المهزومة في أول اليوم.

 عصَرتُ برتقالتين في كوب وشربتُ العصير جرعة واحدة. انتشرت النهكة الحلوة والمُنعشة في فمي وأستطعت تقريبًا أن أشعر بامتصاص الفيتامينات في مجرى دمي لتمنحني دفعة من النشاط والحيوية لهذا الصباح. نظرتُ من النافذة إلى المدينة التي تستيقظ على صخبها الصباحي. يبدو أن اليوم سيكون خانقًا أيضًا كاليوم السابق. كان الهواء مليئ بالأتربة التي كثيرًا ما تخفق قلبي.أخذتُ أسير ذات اليمين مرة، وذات الشمال مرة لعلي أجد مخرجًا. وكان أن هدني الحزن واستولى عليّ التعب فاستويتُ واقفًا أمام المرآة. ابتسمتُ لنفسي بعد أن أطلتُ النظر فيها، تلك المرآة التي كثيرًا ماأشبهها بنفسي، فكّرتُ كيف يمكن أن أبدو بالنسبة لمن متواجد بالخارج؟ كنتُ وسيمًا بتسريحة شعري الأسود الكلاسيكي وسروالي الضيق، والقميص الأبيض ذات الياقة المنفوخة. ضحكتُ بصوت عالي. فاأنا لم أتجاوز الثلاثين من عمري، مع ذلك أمتلك وظيفة يريدها معظم الناس حتى في أحلامهم. وكل المؤشرات تدلُ على أنني متقدم في وظيفتي.على الرغم من أنني كثيرًا ماأخرج من جسدي وأتشرنق بالودق الأحمر وأكحل عيني بذؤابات الأسئلة والتأوهات.

أحب الاستماع إلي موسيقى "باخ" والذي بطبع الحال يدخلني في أمواج من التوتر الصخب! أنتظرت حتى دخل الليل، وخلال ساعات، انخفض صرير الأمطار، وأنا مستيقظ، الرتابة الباردة لم تكف عن مضايقتي بإصرار، عبر زجاج النافذة، تارة دوران الريح يجلد الهواء، والماء يتموج مصوتًا.

السردية السادسة

_القيظ_

"كيف أثبت على الحال في الوطء"

اليوم التالي وكانت عيناي منتفختان من سهر الأمس فتحت باب شقتي، ونظرت نحو باب شقة "مرقس" عمي، فجأة فتح الباب وخرجت منه "موران" في اناقة لامثيل لها، نزلنا الدرج سويًا، كانت تنظر إليّ بطرف عينها، وهذا أمر عجيب، فمنذ طفولتنا ونحن نتعامل كأصحاب، يمكنهم الجري وراء بعضهم وضرب بعضهم البعض وكنت دومًا ماأشدها من شعرها حتى أسمع صراخها؛ لكن حينها شعرت بنوع من التحفظ وهذا يدل علي تغيير فسيولوحي مننا نحن الأثنان، قلت لها أيمكني أن أوصلك بالسيارة؟ فمن الطبيعي أنها تقول كما كانت تقول :"أنت نسيت أنك السواق الخاص بي!" ككل مرة!

لكن جاء ردها مغاير لتفكيري، قالت : لاأريد أن أسبب لك أي تعب! ضحكت وقلتُ لها : أنتِ تتحدثين بصفة جدية جدًا، فأبتسمت وسابقتني على الدرج! وهذا أمر غير معتاد. قلت لها اليوم أنا في غاية السعادة لأنني قابلتكِ على الدرج، ومن المفترض انها تقول : وما الجديد؟ فنحن نتقابل كل يوم، لكنها قالت : أنا بالمثل سعيدة لمقابلتك!. نظرت نحوها وأستكملنا النزول وكلً منا ركب سيارته وغادر.

عادت "موران" إلى منزلها، كنتُ في انتظارها!  احساس طرق قلبي وجعلني أتسمر على السلم في تلك اللحظة. دومًا ما كنتُ أستيقظُ في ساعات النوم الأولى في الوقت الذي يغط فيه كل من البيوت في النوم. كنتُ مثل راعٍ يحرس قطيعه. هذا ماكانوا يظنونه. على أي حال لم يكونوا مُخطئين تمامًا لأني أملك رعية! : مجموعة من الارانب أربيها تحت سقف بيتي. كنت في ذلك الصباح أقف على درج السلم ولا أعلم ماالذي أجبرني على هذا. رأيتها تصعد الدرج في هوادة. قلتُ لها دون أي مُقدمات :

واحشتيني!!

 ونظرت إليّ  بابتسامة. أخرجت من شنطها مفتاح الشقة ولاحظتُ أن يدها ترتجف فأسرعتُ مُلتقط من يدها المفتاح وأنا أرتجف أيضًا. أحتفظتُ براحتها في يديّ لحظات كأنني نسيتُ المفتاح.

فتحتُ الباب وأدخلتها ثم خرجتُ بعد أن غلقته_أي الباب_ وذهبتُ لعملي.

 كانت "موران" منهكة القوة، سقيمة. أضطجعتْ أرضًا تحت مقعد مكتبها، ونامت. أحسّتْ بضق في صدرها وتصاعدت من حلقها صوت أجش، وأستيقظتْ تحت وطأ الحمى فذهبت إلى غرفتها وقد سيطر عليها الخوف والقلق كان رأسها مُثقلًا ولم ترِ ماتفعل. لبست ثياب النوم على مهل وهي تحاول تنظيم أفكارها ولم يساعدها في ذلك كثرة ماكانت شربته من قهوة طيلة هذا النهار، ولما أتاها النوم لغفوة  أنهك قواها كابوس مُرعب! كان الليل في أوجه. دقت الساعة العاشرة في الكنيسة المجاروة لبيتها، وسمعت صراخ يأتي من النافذة، ففتحت النافذة وجدت حريق هائل بالكنيسة مما أفزعها وجعلها تترك المنزل بعد أن ارتدت ملابسها بسرعة، وتوجهت للشارع،. كانت آلسنة النار تشرئبّ عالية فوق أسطح الكنيسة، كانت الأرض ترتجفُ تحت قدميها، فأخرجت الهاتف من شنطتها وأتصلت ب بي عدة مرات وبعثت لي رسالة صوتية بانها في خطر! . جئت اليها بسرعة وصعدت معها إلى الشقة بعد أن هدأت من خوفها. قالت لي بعد أن جلست لجوارها، لقد رأيت كابوسًا مرعبَا منذ قليل حين غفوت. ضحكت وقلت لها : وما هو؟ قالت : رأيتني أجلس فوق جبل عالي أتفصد عرقًا، وكان عواء كلب مشؤوم يضرب أذني، وكلما أحاول أن أهرب أعود إلى مكاني! إلى أن أُغمى عليّ فإذا بأحدهم تراءى لي كأنه هالة ضوء، يتحرك تحت أشعة القمر، وكان هذا يتمثل في هيئة رجل هرم يرتدي تيابًا خشنة، وفي خاصرته مسبحة خضراء، كان هذا الرجل يبدو على وجهه علامات الزهد والورع، أقترب منّي وقال : "قري عينًا وأفرحي فسوف تصبحين مباركة". ضحكت بصوت عالي وقلت لها "موران" لابد أن أخرج الآن يا مباركة!!. نظرت إلي بغرابة وقالت : أنا أحكي لك حلم وأنت تهزئ بكلامي؟ فقال لها : لا يا "موران" لكن أنا مضطر أن أذهب للبيت فاأنا مُجهد اليوم وخرجت وغلقت الباب، كانت موران تراقب الكنيسة المُحترقة من النافذة نظرت مليًا إلى آلاف الأشكال الغريبة التى شكلها الدخان ثم ألتفت إلى المصباح الذي تضعه على الخوان متأملة نوره المنعكس على الستائر الخضراء، ظل النور يتحرك ويتبدل وأصبح قاتمَا، ثم تحول لشكل غريب ومتماوج اللون، وراح ينتقل ويتراقص؛ فتحت "موران" الباب وأبقته مفتوحًا ونظرت مجددًا من النافذة.  وكان بودها أن تساعد الجرحى الذين أصابتهم النيران لكنها لم تستطيع، فدخلت من النافذة وأغلقتها وحاولت الخلود إلى نومها. رجعت مُجددًا وفتحت النافذة وتنشقت هواء الليل بأنفاس بطيئة وعميقة. بينما تلاشى أثر الكابوس تدريجيًا. بدت تهيم في الليل كأنها تفوح بالأمل. كانت رائحة الليل عابقة تنمُ على الراحة. غلقت النافذة مُجددًا وخلدت لنومها.

طلع النهار، نهضت " موران" وفتحت نافذتها. هدأ هواء الصبح المنعش حواسّه الملتهبة. أنقشعت الغيوم التي شكلها حريق الأمس واختفى معها ضوء القمر مع انبلاك أولى أنوار الفجر.

أي نشوة غامرة يستشعرها المرء حين يستيقظ مبكرًا ذات صباح وأضمر في نفسه قرارًا حاسمًا. أخذت كل النقود التي في بيتها وقررت التبرع للكنيسة المُحترقة. عند دخولها الكنيسة وقد تزاحم الناس بداخلها ولم يبقى موضع فيها لقدم، ووقفوا من لم يسعدهم الحظ خارج باب الكنيسة، لكنها تمكنت من الدخول وعندما قابلت الأب "ماركريويس" ركعت أمامه فقام برسم الصليب علي رأسها وكان لجوارها تمثال من الرخام الأبيض للسيدة "العذراء" شعرت "موران" حينها أن التمثال ينحني في اتجاهها، وطلبت من الأب التبرع لاعادة ترميم الكنيسة، وبعدها دمدم صوت كهزيم الرعد هو صوت الأب "ماركريوس" بدأ القداس فأصبحت الكنيسة كلها بحالة إصغاء، وصمت.ظل الجميع صامتين في وجل، غاص كل منهم منهم في أعماق ذاته يرتجف. غادرت"موران" الكنيسة مولية وجهها ناحية الطريق المؤدي لعملها. كانت الشمس في عليائها والأرض من تحتها تعملان معًا في توافق ودأب. تراجعت من منتصف الطريق وكأن أحد سحبها للوراء ووجدت نفسها داخل الكنيسة مجددًا، كانت الكنيسة قد فرغت من الناس، ولم يتبقي إلا العاملين بها، أضاءت شمعة ووضعتها لجوار تمثال "العذراء" تلك "العذراء" التي كثيرًا ماكانت تراها في أحلامها وهي تنظر إليها بعينين واثقتين ووجه يشعُ بالرحمة.

أخذت تتصفح الإنجيل تقرأه وتتأمله، انكبت عليه وكانت في أول أمرها تكابد في عناء وتتصبب عرقًا أمام كلماته، تتهجي حروفه في محاولة منها لكي تسبر غور معانيه الخفية، وكم كانت شاقة وعسيرة تلك المهمة. فجأة فزعت حين رأت بعض الشموع يتمايل لهبها ذات اليمين وذات الشمال وتراقصت على الحوائط الخيالات التي تخترق تلك اللهيب، رأت مايشبه أشباح سوداء على الجدران . أخذت تُقلب صفحات الإنجيل وتنهض مفزوعة عند كل صفحة. أنتبه لها الأب" ماركريوس" فتوجه لها وسألها : مابكِ ياأبنتي؟ نظرت إليه لأعلى ولم تنطق. أرخت رأسها مرة أخري وقلبت الصفحات ثم أغلقت الكتاب بسرعة ووضعت يدها علي رأسها وأخذت ترتجف. أمسك الأب منها الكتاب ووضعه لجوار التمثال وجلس جوارها وقرأ على رأسها بعض الفقرات حتى هدأت. قالت للأب : أشعر أنني أرتفع للأعلي! أمسك الأب يدها وقال لها لاتخافين أنتِ في بيت الرب. نظرت إلي الإنجيل وأمسكته وفتحته وأشارت للأب دون أن تنظر إلى صفحاته وقالت له : أقرأ هذه الصفحة. قرأ الأب ثلاث صفحات و"موران" تنظر إليه وتستمع بتمعن؛ أخذت الإنجيل منه وحاولت أن تقرأ فيه لكنها لم تسطتع فرمته في حجر الأب! تعجب لأمرها وسألها : يبدو إنكِ مُتعبة عليكِ الخروج لتستريحي، قالت له : أنت متأكد انك قرأت كل الكلمات!

_نعم ياأبنتي طلبتين منّي قراءة صفحة قرأت ثلاث

_ألم تجد شئ غريب؟

_لا ياأبنتي

قامت من مكانها وأخذت إنجيل آخر وفتحته ففزعت وأمسكت يد الأب وأصبح وجهها شاحب، قالت له : أني أرى شيئًا غريبًا في الآناجيل؟

_ماذا ترين ياأبنتي؟ لكن أولًا مااسمكِ

_أسمي "موران" _لقد رأيت.. لقد رأيت.. رأيت في كل صفحة أقرأها بقعة ضوء زرقاء!

_بقعة ضوء زرقاء

_ لاتهتمين ياأبنتي أنتِ فقط مُجهدة عليكِ أن تذهبين إلى بيتكِ وتصلي وتستريحي

_ساأفعل. شكرًا لك ايها الأب.

السردية السابعة

_الاحتواء_

"معاقرة الكل للكل"

اليوم التالي بعد أن أربكت من التفكير طيلة الليل و

 بدأ الوضع يأخذ شكل آخر، وبدأت أتخيل أننا نحب بعض. قررتُ وقتها أن لاأذهب للعيادة، ظللتُ أتمشى وأفكر فيها، حتى وجدتني أمام باب الجامعة، أنتظرت طويلًا حتى خرجت "موران"، أدرتُ السيارة وتوجهت للجانب الذي تركن فيها سيارتها، كانت مفاجأة لها حين رأتني. طلبت منها بعد أن شرحت لها أنني كنت قريبًا من هذا المكان، أن ندخل الجامعة ونجلس في المطعم لنشرب قهوة، رحبت "موران" وقالت : كم أشتاق لفنجان قهوة، فكان اليوم جد مُتعب. بعد أن فرغنا من احتساء القهوة، ماكنت أجد طريقة مختصرة أشرح فيها مايجيش في قلبي لها، ظللنا ننظر لبعض دون أن نتحدث، ففي بعض الأحيان يكون الإنسان بحاجة للصمت لفترة حتى ينفرط عقد لسانه فيما بعد! بالفعل وجدت نفسي بعد فترة ودون أي مقدمات أقول لها : "موران" أنا أحبكِ!! وحملقت في عينيها فجاءني الرد سريعًا من عينها ثم أنحلت عُقد لسانها وقالت : أنت أبن عمي وصديقي، وأقرب إنسان لي، لكن... لكن وسكتت ثم أردفت قائلة وهي تمسك فنجان القهوة الفارغ وتلف أصبعها حوله : "كمال" أنا أحبك أيضًا! سمعت منها هذا الكلام وكاد قلبي ينخلع من مكانه،أمسك من يدها الفنجان ووضعته على الطاولة، وأشبكتُ أصابع يدي في أصابعها، ولأول مرة أشعر أن يدي ترتجف. كانت هي أيضًا ترتجف كطفلة في عيادة طبيب الأسنان، دخل وقت الغروب وبدءت الحلكة تضرب المكان، فقالت : هي بنا يا "كمال" لقد أجهدت اليوم. ذهبنا إلى البيت، بعد أن ودعنا بعضنا كما يودع الأحباء. مرت أيام ونحن كل يوم نتبادل الحب معًا، وعلمت منها أنها أخبرت الجدة "تيريز" في آخر مكالمة هاتيفية بينهن، وهذا أمر أفرحني. كانت الجدة دائمًا تتصل بي و تقول لي عليكما بالتعجيل في الزواج حتى أفرح بكم. كانت "موران" يوميًا تذكرني بأنها تريد السفر عند عمها لتطمئن على والدها، كوت دومًا أرفض لحين شعرت أنها فعلًا محتاجة لرؤية أبيها، قلتُ لها يمكنكِ السفر في أي وقت، مدت يدها حولي وأحتضنتني بشدة، وأحتضنتها بعنف. قالت لي أنها في حيرة من أمرًا ما، وسردت عليّ مارأته في حلمها، فقلتُ لها : يعني أنا في حلمكِ كنتُ حبيبكِ؟ قالت نعم كنت حبيبي، والآن الحلم تحقق لكن لاتظن أنه سيتحقق بأكمله! أنت طبعًا تفهم قصدي وضحكت وضحكت، وقلت لها ماالأمر الذي يشغلكِ؟ فهو مجرد حلم. قالت لي : أنا أعلم أنه حلم لكن الكتيب الذي ظهر في الحلم موجود في مكتبة والدي والشيخ "درويش" يعلم هذا

_الشيخ "درويش" ده رجل مجنون!

_لا يا "كمال" لاتقول عليه هكذا أنت تعلم أنني أحبه مثل أبي، فهو الصديق الوحيد لأبي

_أعلم لكن.... كلما رأيته أشعر بغصة، لكن هذا لايهم.

_ممكن تساعدني يا "كمال" في تفسير هذا الحلم المرتبط بالكتيب؟

_الموضوع سهل أسألي أبيكِ فهو رجل ذو علم وأعتقد أنه يعلم أمر الكتاب

_لاأظن يا"كمال" لو كان أبي يعلم، فبالضرورة الشيخ "درويش" يعلم، لأنهم رجال دين وأصدقاء

_وما أدراكِ أن الشيخ لا يعلم؟

_لو كان يعلم ما كان أستغرب حين وجدنا الكتيب

_على كل حال، غدًا بعد العمل سوف أجيئ عندكِ ونبحث في هذا الأمر.

اليوم التالي وبعد أن فرغت من عملي ، دخلت عند عمي وكانت "موران" في انتظاري، وأخذنا نبحث داخل صفحات الكتيب، وقرأنا كل كلمة فيه، ومع كل كلمة كانت "موران" تعيش في أحداث الكتيب، وهذا الأمر أقلقني، فكيف علمت "موران" كل هذا؟

طلبت من "موران" فنجان قهوة، أسرعت وأحضرته،ومن قبل قالت لي : أحبكِ وأنت تقول "زعفران لا موران" ابتسمتُ من قلبي وقلت لها : حبيبتي "زعفران"

أمسكتُ فنجان القهوة وعند رفع الفنجان لأعلى سقطت محتوياته على قميصي الأبيض، وتلطخ بالبن، أسرعت موران"وأحضرت منديل لتمسح بقع القهوة، أخذت تضع يدها فوق صدري ومع كل حركة من يدها كانت أعصابي تهتز وكأن ماس كهربائي أصابني، أمسكت يدها، فأفلتتها من يدي، وقالت : الآن لم يبقى بقع على القميص، وحاولتْ النهوض من على الكرسي، لكنني أمسكت يدها وأجلستها، وعيني تختال كل جسدها، وصوبت عيني في عينها وأقتربت منها فأرختْ نظرها، ووجهته لشفايفي، فنظرت لشفايفها الوردية، وأخذنا نبتلع ريقنا، فوضعت يدي حول عنقها، وملستُ على شافتيها الشفيفتين، فأقتربت أكثر وضعت شفتي برفق فوق شفاتيها، وفجأة بدأت نزوات البرق اللماع تعصر رحيق الريق المبلل برطوبة الشهوة، وأصبحنا نتسابق بعنق وبطراوة، وأبتلت الشفتاه من عسلها المُصفى، وأنعصرت أواصر الرغبة، وأرتمينا فوق حمأ الشهوة جسدانا ألتصقا، وذرات العرق الدافئ تملئ جلدنا، وشققتُ قميصها الوردي وأنفرجت أسرة النوم فوق شراشف الشهوة وانفرجت أسارير القنوط بين ساقيها المذبدين بالعنبر والآس، وحول رقبتي طبعت سكرات الرغبة المحتدمة.......، رن جرس الباب، أستفاقنا وعدنا لوضعنا الطبيعي، كان الشيخ "درويش" جاء ليطمئن على "موران"، جلسنا نتحدث حتى دخل الليل.

سأل الشيخ "درويش" وجهًا كلامه ل "موران" لما خررتين على الأرض بعد ماأمسكت منكِ الكتيب أول أمس؟

نظرت "موران" نحو يد الشيخ وقالت هذا وأشارت على خاتم يلبسه الشيخ في خنصره! نظر الشيخ نحو خنصره وراح يحاول خلع الخاتم لكنه أستعصى عليه خلعه وقال لها : ما بي هذا الخاتم؟

_هذا الخاتم مطابق للخاتم ااذي أهداه لي الشاب الفارسي في الحلم!!

نظرنا لبعض أنا والشيخ وفي صوت واحد قلنا : تاااااني الحلم!! ابتسمت "موران" وأردفت قائلة : هذا لا يهم.

 ثم تركنا "موران" وخرجنا، قال لي الشيخ "درويش" وهو يقف عند باب شقتي : هل خكت لك "موران" عن حلمها؟؟ فقلت له : نعم حكت، فقال : وما رأيك؟

_قلتُ : بحكم عملي في الطب النفسي، فأن "موران" مُجهدة نفسيًا فقط لاشئ آخر

_لكن الكتيب الذي وصفته لي مماثل لكتيب في غرفة "مرقس"

_نعم لقد علمت، وهذا أكبر دليل أن" موران" قد قرأت هذا الكتيب من قبل، وعندما كانت تفكر في السفر حلمت بمحتوياته

_لكن يا "كمال" هي تقول أنها أول مرة تسمع عن هذا النبي الذي يدعى" ايليا" هو وجميع الأشخاص المذكرون في الكتيب، والذين رأتهم حلما

_هذا يا شيخ يسمي بالذهان المؤقت، وعلاجه سهل جدًا

_أنت متأكد يا "كمال" أن "موران" على مايرام؟

_متأكد ياشيخ، بالمناسبة لقد أتفقت مع "موران" على الزواج منها حين يعود عمي"مرقس"

_مبارك ياأبني، أنتم تستحقان بعض

_شكرًا يا شيخ

دخلت إلى الشقة وأنا في غاية الفرح، فمازال عطر "موران" يلفعني، وأثر شفاتيها ترتعش منها شفتاي.

تعددت االلقاءات بيني وبين "موران" أقصد اللقاءات الجريئة، حتى أوصلتنا إلي عدم الاستغناء عن بعضنا.

أتصلت بي "موران"ليلًا وقالت لي : أنها سوف تسافر في الغد عند عمها، أتفقت معها أنني سأوصلها إلى المطار.

السردية الثامنة

_التهيؤ_

"أخذة القلب إذ يترقب"

بالرغم من الدفء والشمس الساطعة في منتصف الصيف، كان جو "رين لو شاتو "تلك القرية الفرنسية النائية معتدلًا ظليلًا. مما أسعد "موران" وجعل الحزن يتلاشى في قلبها.

كان لدى "موران" ذلك الإحساس المُربك بإنها مُلاحقة. فتحسب أن خيالًا ما يتربص بها عند كل منعطف بين الحدائق خصوصًا أن منزل عمها يصعب الوصول إليه بالسيارة لكثرة الزراعة في جوانبه.

كانت تركض كأنها تهرب من خطر يلاحقها، ظلت طوال الطريق تتلفت خلفها، كان الطريق خالي إلا منها.

 أتصلت بوالدها وجاء ليأخذها لبيت عمها وفي الطريق لاحظ القس "مرقس" أن أبنته أستدارت عدة مرات للخلف دون سبب؛ الأمر الذي أزعجه وقال لها : كان من الأفضل أن تبقين في مصر أني أراكِ متوترة ياأبنتي. نظرت إليه "موران" ولم تنطق وأستكملا طريقهم إلي منزل "جان" عمها.

أنفرجت أسارير "جان" لما رأى أبنة أخيه قادمة. كان يحمل في قلبه حزنًا دفينًا لموت زوجته.

قال لها بعد أن استراحت أين" كمال" لقد حاولت الاتصال به لكنه لايجيب؟ فقالت "موران" أنت تعلم ياعمي أن "كمال" لايهتم بحمل تليفونه معه، فقال : على كل حال أهلًا بكِ

بدأ الظلام يدبُ في السماء ويختلط بحُمرة الشفق وأخذت بعض النجوم تشعُ . ثم تكلمت "موران" لقد سمعتُ في التلفاز أن بعض أبناء هذه القرية يعارضون الحكومة في ترميمها للكنائس الخشبية القديمة، مطالبين الحكومك بهدهما وإقامة بدلَا منها جديد يحمل أسم "المعمدانية"؟ لماذا يفعلون هذا هؤلاء؟

"قال لها" جان" : أنهم متطرفين!! حدقت إليه" موران"ثم أردف قائلًا : خذي بلادكِ مثلًا لهذا كم كنيسة عندكم تحمل أسم" الكنيسة المعمدانية"؟ هؤلاء مسيحيون أدخلوا في إيمانهم فكرة يوحنا المعمدان كنبي! ويعتبرونه هو من بشّر بمجيء المسيح. وكم وكم في بلاد أخري.

صباح اليوم التالي بعد أن تسلّل الضوء الأصفر لمصابيح الشارع من خلال ستائر غرفة "موران"، فيما نبح كلب في حديقة مجاورة. كانت الساعة الثامنة صباحًا، لايبدو أن الحرارة تدنت ليلًا، ذلك أن فراش "موران" كان مبللًا بالعرق. نهضت لفتح النافذة، عندئذٍ انسكب هواء الصباح الرطب في الغرفة،يرافقة ضجيج الناس  وأنين الأطفال. رأت عمها في الحديقة، فنزلت ومشت معه عبر الممر المرصوف بالحصى إلى خارج المنزل. كانت التلال الوعرة ذات الصخور الحمراء تحيط بهم، وتربعوا على قمة رابية قريبة من بقايا قلعة شاهقة. أخذت "موران" بذلك المنظر المثير وعبّرت عن إعجابها بقولها "هذا المكان مُذهل إنه يثير شعورًا روحيًا خفيًا" فقال لها : نكن هنا في قلب منطقة "الكتار" هذه المنطقة بأكملها كانت فيما مضى تحت سيطرة "الكتار" أي الأنقياء

_كيف أتخذوا هذا الأسم؟

_أتت تعاليمهم عبر سلالة صافية مُتصلة بالمسيح عبر "القديسة كاثرين"

_أتقصد "كاثرين" التي عاشت في الأسكندرية من حوالي عشرة قرون؟

_نعم هي

_لكني لم أقرأ هذا الكلام في أي مكان!

_نعم ياأبنتي لم تقرئيه ولن.. ولن تقرئيه. فتاريخ الكتار الصحيح ليس مدونًا في الكتب ولن تستطيعي القيام ببحث موثوق حوله إلا هنا! إن حقيقته هنا تكمن في هذه الصخور.

_لكن أنا أعلم أن "كاثرين" قد عثر على رفاتها في مصر وتحديدًا في طور سيناء!

_هذا مايقال لكن ليس بأكيد!

_أتقصد أن رفاتها هنا وليس عندنا!؟

_لاأعلم يا "موران" لكن هذا ما نظنه نحن سكان هذه القرية، نظرت موران نحو السماء وتنفست بشدة وقالت له: لابد أن نرجع ياعمي للمنزل حتى لايقلق أبي

_أبيكِ يا "موران" نائم من الأمس يبدو أنه وجد هنا الراحة، هيا بنا نرجع إليه.

نهضت "موران" من علي الصخرة وقد شعرت أن أيد بشرية تسحبها للوراء! ففزعت وصرخت. أقترب "جان" منها وقال لها : ما الذي حدث؟ لاأعلم ياعمي شعرتُ أنني أنسحب للوراء؛ فضحك وقال لها : يبدو إنكِ أُجهدتين .. عليكِ الامساك بذراعي ولاتخافين

دخلا المنزل وكان صوت شخير يصدح في أركان المنزل بأكمله

" ألم أقل لكِ أنه نائم أتسمعين زمجرة شخيره؟"

ضحكت "موران" وقالت لعمها : يبدو فعلًا عليه الراحة. فقال لها عمها وهو مبتسم : ما رأيكِ أن تستقروا معي هنا؟ فاأنا الآن أعيش بمفردي؟. لا يمكن أنسيت أنني أعمل في الجامعة؟ وليمكن أن أترك عملي الذي أحبه.

آنذاك أستيقظ "مرقس" وقال : النوم في هذا المنزل راحة كبيرة

فقالت له "موران" سوف نسافر خلال أسبوع أتفقنا؟ نظر "مرقس" إليها ونظر لأخيه وأومأ برأسه"حاضر".

إتصلت بي "موران" وقالت أنها ستحضر بعد أسبوع، فقلتُ في نفسي"سأنتظر أسبوع؟ هذا كثيرًا جدًا" كان يوم

مروا ثلاثة أيام وأنا يوميًا أطلب من "موران" أن تحضر لأنني سئمت الوحدة، وفي كل مرة تقول لي سأحاول، وجاء يوم القدر اليوم الذي تحطمت فيه كل أحلامي ذلك اليوم  المشكوك فيه" يوم السبت" ذلك اليوم المُتلفع بأسماله المنسوجة من الأخطاء البشرية. ومن غير أن يحظى منيّ بالانتباه، كان ثمة هدوء وضوضاء جنبًا إلى جنب.،وإن لم يكن لدي ماأفعله. استيقظت باكرًا كالعادة، أشعلت سيجارة، رميت بعلبة الثقاب الفرغة إلى الهاوية، حيث الشارع الأبعد من مسند نافذتي،ألعقُ أصابعي التي تمتلئ بسبائك القُطران. أنهض من السرير وأصيخ السمع بجلاء، تصدر علبة الثقاب صوتًا كما لو كان شيئَا في الشارع شبه الخالي. لا صوت البتة بعد، عدا أصوات المدينة بكاملها. تأخرت في تحضير نفسي لأكون موجودا٠ظللتُ أتنقل من جانب إلى آخر في الغرفة وأحلم بصوت جهير بأشياء خالية من أي ترابط أو إمكان، ركلت الباب برجلي بعد أن أطلت النظر في المرآة : " من الانشغالات الثابتة المستحوذة على تفكيري سعيي إلى حقيقة وجود أناس غيري، وأن هناك أرواح غير روحي، وضمائر غريبة عن ضميري وهذا لابد اعتباره وعيًا.

أن يكون" أنا"متفردًا_وفق تصوري_أدرك تمامًا وجيدًا أن الرجل الموجود أمامي والمتحدث بكلمات مماثلة لكلماتي هو" أنا". لدي رغبة في الصراخ داخل الرأس أريد أن أوقف! أن أسحق، أن أحطم تلك الأسطوانة "الغراموفونية" الصامتة التي تصدح بداخلي. تلك الأسطوانة التي كلفتني أن أبقى في قاعة الانتظار العاطفية هذه. أمضيت يومين أو ثلاثة أيام فيما يشبه بداية الحب أن أتقدم في نفس المسار _أي الدخول في المجال المغناطيسي للحب_حيث تبدأ المغامرة وحيث تنتهي. لكني فشلت وأكتشفت إن ماتزرعة المُخيلة ذاتها مُنتهك دومًا بما تزرعة الحياة!. وإذا كانت العظمة الكامنة في تراجيديا الحب تبقى فأن تجربتها مع شخص آخر أمر مزعج.

 أخيرًا، سيفرحني لو توصلت إلى إقناع نفسي بأن هذه النظرية ليست هي ماهي، ضجيج معقد أبثه في مسمع ذكائي، تقريبًا لأجل ألا أعير انتباهي إلى أنه ليس ثمة في العمق من شئ سوى كآبتي وعدم أهليتي للحب.

لأول مرة في حياتي أشتاق للقهوة التركي فور استيقاظي من النوم. إلا أن تلك القهوة فارت وأحدثت فوضى بالموقد_أول وقائع سوء الحظ باليوم_ثم تمزق بنطالي المُفضل. وأخيرًا وليس آخرًا، أصطدمت سيارتي" البيجو موديل ٧٩" بسيارة "بسات صفراء اللون" وبطبيعة الحال لم تصب تلك السيارة الصفراء بأي ضرر، على حين أصيبت سيارتي بأضرار جسيمة. ناهيك عن الجروح التي لطخت وجهي. لم تكن سرعة السيارة الصفراء تتعدى الثلاثين كيلومترًا في الساعة عند الاصطدام. لكن حالة تلك السيارة جعلت الأمر يبدو وكأنها نجت للتو من أختبار تصادم. وقعت الحادثة اثناء تفتيش تلك السيدة صاحبة "البسات" في حقيبتها عن هاتفها الجوال. ومن الطبيعي لمن تقضي ربع وقتها في البحث عن الهاتف أو النظر في المرآة لتتأكد أن حواجبها متناسقين تمامًا، أن تواجه سوء حظ مماثل!

فتحت سيارتها ومدتْ رجليها البيضاوين المؤوسستين تحت قاعدة إبريزية، والقائمتين على حذاء ذو كعب عالي. رسمت على وجهها الغضب ونظرت نحوي وقالت : أيها الضرير!! ثم ركبت السيارة. ولحسن الحظ ألحق بها شرطي المرور وأستوقفها. صفت سيارتها وخرجت منها وكعب حذائها العالي يصدر صوتًا مُلفتًا. لن يجرؤ عاقل على العبث مع امرأة في مثل الجمال!  سألها الشرطي عن رخصتّي القيادة والسيارة. أخرجت من شنطتها السوداء ذات الأيد الذهبية بعض النقود ووضعتها في أيدي الشرطي، وقالت له : أعطيهم لصاحب هذة القطعة الحديدية، نظر إليّ الشرطي وكأنه يقول _أنزل من السيارة وأبصق عليها _. كان باب السيارة متسمر لم أستطيع فتحة، أنزلت الزجاج وخرجت من مكانه وتوجهت لسيارة تلك السليطة. وحين أقتربتْ منها وأنا بكامل غضبّي، لم أستطع الكلام مطلقًا، كان  تلك الفتاة_تأكدت انها فتاة وليست سيدة حين أقتربت منها_ذو وجه حسن للغاية، أناملها الرقيقة التي لوّحت يعرفان جيدًا كيف يمسحان آنية الغضب! وعينيها الشهوانيتين اللتين تنزان بالعسل واللذة، وصدرها الذي تعرى حين نظرتْ نحوي كان يلمع كالنصل تحت الظهيرة الأخاذة. ويبدو أن "الأورجازم" لم يتأخر كثيرًا!

بينما هي تنظر إليّ وتكاد تكن عيناها تحتوي جسدي كله، كنت أنا أتهته في الكلام من فرط ال..... وكأن تقفُ على لساني ذبابة كهربائية. وتحت وطأ الرغبة الحارة قلتُ في نفسي " لنلعب الحِجلة أيها الجسد النحيل! تعالي أيتها الأرنبة لنرقص سويًا رقصة "الفالس" الأخيرة."!

أشارت لي أن أدخل السيارة، وأجلس لجوارها.،وهذا ماتمنيته.

أقتربتُ منها....... أكثر فأكثر، حتى أخذ جسدانا يستشعران فيما بينهما قوة الطبيعة التي لاترد!

قالت لي : مااسمك؟

_أسمي "كمال" وأنتِ ما اسمكِ؟

_أنا" ليلي" كم تحب أن أدفع لك ثمن خراب السيارة؟

أخذت في التفكير مدة ليست بقليلة وكان الشرطي يتعقبني، حتى قلتُ لها : لاشئ_لن أخذ منكِ أي نقود!، سوف أذهب للورشة الخاصة بصديقي وأقوم باصلاحها.

قالت لي : لا _لا بد أن تأخذ ثمن الإصلاح، ونظرت إلى الشرطي وقالت لي : يمكن لك أن تدع الشرطي ينصرف، وسنقوم أنا وأنت بالاتفاق على ثمن الإصلاح،حينها أنصرف الشرطي، وطلبت غلق باب السيارة، كنت أشعر وقتها أنني صُعقت من رائحة عطرها النطيف، حتى هي لاحظت أنني أغمض عيناي من وقت لآخر، حسبتني أريد النوم! طلبت منّي ثانيًا أن تعطيني ثمن إصلاح السيارة، ومدتْ يدها المملؤة بالنقود فئة المائتين جنيه، لكنني رفضتُ وأمسكت يدها لإبعاد النقود عنّي، وحدث أن وجدت يدي ترتعش وجبهتي تتصبُ عرقًا باردًا. لاحظت هي هذا ودون أي مقدمات سألتني : أنت متزوج؟ قلتُ لها وأنا أرتعش : لا. ضحكت وأدارت مفتاح سيارتها وقالت لي ممكن نشرب فنجانين قهوة؟ قلتُ : بالتأكيد. ذهبنا لأحد الفنادق القريبة، وجلسنا كأثنين يعرفون بعضهم من زمن. مر اليوم وذهبت إلى سيارتي بعد أن تبادلنا أرقام الهاتف.

صباح اليوم التالي يوم الأحد. أفيق مُنتعشًا كأقحوان. العالم أمامي لاتشوبه شائبة، مايزال بكرًا كالمناطق القطبية. أبتلع قليلًا من الإسبرسو. ألقي نظرة من نافذة غرفة الطعام على غرفة حمام الشقة المقابلة.أتنهد تنهيدة يضرب صداها جدران الغرفة. توجهت لعملي، وبعد الانتهاء من العمل توجهت للمكان الذي اقترحته "ليلي" نهار أمس وكنت منذ هذا اللحظة أتمني أن لايأتي ذلك الموعد أو ربما كنت أتمنى ذلك. رحت أقلب الأمر على وجوهه كيف يمكنني أن أنفرد بأمرأة في شقتها؟؟ يبدو الأمر غريب لكن هذا طلبها! وتبين لي كم كانت حياتي رتيبة ومُملة، وانتابني شعور بالإثارة للإقدام على هذه المغامرة. لكن أيضًا بدأ يعتريني شئ من الخوف _أقصد الخوف من الندم _فحين أجتمع مع أمرأة ذات جمال يتريع على عرش الأنوثة أجمعه، أكيد سوف نتقابل في منتصف السرير!! على الرغم من أن "ليلي" لم تشير إلى هذا في كلامها لكن هذا الوضع الطبيعي لشاب أعزب ينفرد بفتاة حسناء. ظللتُ أتذكر طيلة مشواري إلى منزل "ليلي" ماقالته لي حين علمت أنني طبيب أمراض نفسية وعصبية، وأنها تخشى العيادات النفسية، لكنها تريد أت تفضفض مع شخص يكون على دراية بعلم النفس! ظلت الأفكار تطاردني هل هي تقصد هذا فعلًا أم أنها تريد أن نمارس الحب معًا في شقتها؟ قصرت المسافة وأصبحت عند العنوان الذي كتبته لي، لايفصلني عنها إلا ثلاث أدوار، أطلع أم أتراجع؟ كان هناك مصعد، لكني لم أنتظره، بل رحت أقفز صاعدًا الدرجات، ثلاث درجات دفعة واحدة، كما لو كان الشيطان يطاردني.

الآن أنا عند باب الشقة، لم يمر أكثر من اربعة ثوان، فتح الباب وكانت رائحة العطور الفرنسية الباهظة الثمن تفوح في أركان تلك الشقة المليئة بالتحف واللوحات القيمة. أستغرقت وقت كافي لألتقط أنفاسي. كانت "ليلى" بعد أن أجلستني على كرسي ذهبي وذهبت لإحضار مشروب. ترتدي فستانًا واسعًا يسترها من أعلى الرأس إلى أخمص القدم فقلتُ في نفسي "لقد ظننتُ فيها ظن السوء، أمرأة بهذه الملابس تستقبل رجل عندها، أكيد هي إنسانة متدينة" تنفست الصعداء حين وجدتها بهذا اللبس فالأمر سوف يصبح على مايرام، فخوفي من الندم لم يحدث لأنني لن أخون حبيبتي "موران".

. طلبت منّي "ليلي" الدخول لغرفة الطعام لأن الموقد لايشتعل. عند دخولي لغرفة الطعام، رأيت أحد الأبواب مفتوح على الورب. ضوء خافت يخرج منه. أمسكت المقبض وفتحت الباب على مهل،ثمة سرير بالغرفة وبعض الملابس عليه، تأكدت أنها غرفة النوم الخاصة ب "ليلي" . لفتت نظري" كوفية صوف خضراء"مُعلقة على الأوكرة الداخلية للباب، لمستها بيدي ثم سحبتها من على الأوكرة وقربتها من وجهي وأحتضنتها، فهي شبيهة بكوفية كانت ترتديها "زعفران" حتى رائحتها كانت مماثلة للعظر الذي تفضله "موران". سرحت بعقلي الواعي حتى انتبهت لصوت "ليلى"وهي تقول" كمال_كمال" آنذاك دخلتُ لغرفة الطعام بعد ما وضعتْ الكوفية وواربت الباب. كانت "ليلي" مولية وجهها ناحية الموقد تحاول اشعاله، وظهرها لباب الدخول. فار الدم في عروقي حين رأيت عجيزتها تتمايل ذات اليمين وذات الشمال، وأنفجرت لما رأيت أحدى ساقيها تتدلى خارج عباءتها الفضفاضة حتى منتصف الركبة. هناك. شئ وحيد يمكنني أن أفعله _أن أطلق ساقيّ للريح بأسرع ما يمكن. ذلك  وقد علمت أنني على مقربة من الخطيئة.

حدثني عقلي : "ثمة معنى عميق للأشياء، تشابه فظيع بين أرواحها هي :  أن يشعرُ منطقنا بالرعشة تجاه الجسد، ويظل الشئ الذي لايزال مهيمنًا على القدرات العليا للإنسان هو الغريزة _وهي قدرات لاتزال في العمق! " أقتربت منها وأمسكت عود الثقاب وحاولت اشعال الموقد، ودون أي جُهد منّي أشتعل الموقد، الأمر الذي جعل "ليلى" تندهش وقالت لي : أنت ساحر، وضحكتْ، وضحكتُ أنا أيضًا. وضعتُ الماء على الموقد وأحضرت البن والسكر، سقطت علبة البن على الأرض فخرت هي مقرفصة على البلاط، حينها تأكدت أن عباءتها تسترها من أعلى إلى أسفل لكن الجانبين كانا مكشوفين إلى خصرها!!. حملقت فيهما ويبدو أن عيني جحظت للخارج، مما أسترعي انتباهها، فقامت بضم الفتحات من جانبيها وقالت لي : يبدو عليك الأرهاق يمكنك الجلوك على هذا، وأشارت لكرسي خشيي  طويل. جلست عليه وهي أحضرت القهوة ووضعتها على الخوان، وظلت تنظر إلى عيني دون أن تهمس بأي كلام، كان بنطالي الجينز الأزرق ضيقًا لحد ما، فهو لايتناسب مع هذا الكرسي ذو العُنق الطويل، طلبت منها الرجوع إلى الصالة والجلوس هناك. خرجنا إلى الصالة وجلسنا على أريكة مُنجدة تتسعُ لشخصين لا أكثر. كانت حرارة جسدي تنبعث فتشعر بها "ليلي".

قالت لي : ممكن نبدأ جلسة العلاج النفسي؟ ممكن؟. لم أنتبه لكلامها مُطلقًا، الأمر الذي جعلها تقترب من أذني وتعاود ماقالته. أنتبهت لكن ليس لكلامها بل لرائحة أنفاسها ويبدو أن الهرمونات لعبت دور هائل آنذاك. كان صوتي غليظًا أجشًا، حنجرتي جافة، وشفتاي ظامئتين. قالت لي : يبدو انك تحتاج للماء، سأذهب لاحضارها لك، حاولت أن تنهض من على الأريكة، لكن كأن شئ يشدها فتجلس مجدًدا، أنتبهتْ "ليلي" ليدي التي تسحبها للجلوس مجددًا وقالت : يدك قوية جدًا لقد أدمتْ يدي! قلت لها وعيني لم تفارق صدرها المفلوق : آسف، يمكني تدليكهما. مدت إليّ يدها بعد أن رفعت كم العباءة إلى الكوع، وكما لو كنتُ رأيت برق يخسف بعيني من شدة بياض تلك الأيدي. أخذت في التدليك ومررتُ يدي من تحت العباءة حتى الأبط.

وقفنا فوق الأريكة، وقفت ورائها وطوقت خصرها بذراعي، وهي منحنية، أخذت تهتز بحركات دائرية حتى توقفت عن الحركة وأستدارت وأدنت خصرها من خصري وتعلقت في شفتاي وأخذت تمسدهم بلسانها.

وضعتْ ذراعها  في ذراعي، ولفت فخديها على فخدي.

وقالت لي : منذ زمن ولم يمسني بشر، أيمكنك أن تقربنّي منك أكثر وأكثر فاأنا أشعر بك.

قلتُ لها وجسدي ينطبق على جسدها : ساأفعل وأنتِ أيضًا ألتصقي بي.

ترنحنا ونحن نتجه ناحية غرفة نومها، وفي الرواق وقفت لحظة لتذر على وجهها قليلًا من المكياج، لم تتغير كثيرًا، وما ذادها هذا إلا جمالَا فوق جمالها. خلعت العباءة قبل الدخول للغرفة. كانت ترتدي فستانًا قصيرًا جدًا جدًا بنفسجيًا مشدود على جسدها، يظهر تقاطيع قوامها الجميل. طوقتني بشدة وراحت تقبلني بحرارة. شدتها نحوي بقوة، ورفعتُ ساقيها فوق خصري وراحت يدي تجوس فوق ظهرها حتى استقرينا بين ملتقى الفخذين. أغلقت ضوء الرواق وأشارت إلى الغرفة وهي تضع سبابتها على شفتاي. أرتمينا على السرير تحت شراشف الرغبة المُحتدمة، نتشممُ رائحة أوردتنا المحترقة في نار الرغبة، ونسمع طقطقة قلبنا المرتجف، وأخذت أصوب بنادقي نحو جسدها. لم يستمر هذا الوضع إلا دقائق بعدها راحت أفكاري تغوص في الماضي وكان ينتابني الشعور بالذنب تجاه حبيبتي"موران" لدرجة أنني نسيت "ليلي" ونسيت ما كنا نفعلة، وتركتها بعد أن انسحبت من الجولة تاركها تتيه بأصبعها عرضَا وطولًا وإلى الأسفل عند قمرها المذدهر، تركتها تواصل مابدءناه بمفردها، تذكرت أن كل شئ زائف،وأن ممارسة الحب لاتفيد إلا مع من تحب، وتراحعتْ عن هذا حين رأيتها تتلوي مثل الحيات فوق السرير. وإذا كان عليّ أن أتصرف كما كانت ترغب، أن أقوم بدور العشيق المثير، فلابد أن أكون قد نسيت الماضي أو تخلصت منه نهائيًا. لكن ظلت صورة "زعفران" تلك الحبيبة التي عرفت معنى كلمة حب معها  : تطاردني.

لاحظت "ليلى" أنني تباعدت وتبلدتْ مشاعري، فدست رأسها في المخدة بعد أن قالت لي : أنت تفهمني خطأ، ماحدث بيننا كان من المفترض أن لا يحدث، صدقني لم أكن من هذه النوعية القذرة، لكن أنا كنت محتاجة لجسد يشعر بجمالي ويبادلني إحساس أفتقدته منذ أكثر من سنتين حين توفى زوجي. رحتُ أداعب شعرها وراحت يدي تجوس بين ساقيها وقد باعدت ساقيها أكثر _مستجيبة لأدنى ضغطة من يدي_سألتها وأنا أخترق عمقها : هل هذا يؤلمكِ؟ كانت عيناها نصف مغمضتين، وأومأت إيماءة لا معنى لها لاتعني بها نعم أو لا. تمددتُ بهدوء بجانبها ووضعت  أحدى ذراعي تحت رأسي، وشددتها بلطف نحوي وأصابعي ما زالت تخضخض بمهارة الماء المتدفق منها. تمددتْ ساكنة، مستسلمة تمامًا، عقلها مشغول تمامًا بمداعبة أصابعي. "يبدو انها أحبت هذا التبادل الأعمى". انحنت فوقي، لثمتْ فمي بشفاتيها، فتدلى شعرها اللازوردي وغمر وجهي وصدري. دغدغتْ ثندأتي اليسري فتراعش بدني. تمددت بجواري وألصقت جسدها بجسدي. في حمّي العناق تورمت الشفاه وأنتفخت، وقبل أن أخوض تلك المعركة اللامجدية أخذت أتشمم روائح جسدها البض، ويبدو أنني كنت في اختبار، لم أميز أي رائحة غير رائحة الشهوة.

تظاهرت أنني أنسجم معها، لكني حقيقًا كنت لاأفكر إلا في "موران".

مرت اليوم وشعر كلٍ أنه يتوق للآخر! مافعلته الرغبة نفسها، هذه الندبة المغروسة بين ضلوعنا سوف تحملنا إلى نُصبٍ منيرٍ.

ذهبتُ إلى المنزل، أفكر في اللحظة التي أعيش من أجلها طوال يومي، وحين تنتهي تتلاشى ويتلاشى يومي. يهرب اليوم من بين يديّ كاطائر بلا رأس أفلتَ من القفص. أحاول غض نظري عن صورة حبيبتي، أعجزُ عن هذا؛ لحظة المواجهة  الصارمة مع مخلوقات الواقع الجارح  ككومة من المخالب والمسامير. تعددت اللقاءات بيني وبين "ليلي"، وخلال تلك الفترة كانت "موران" دومًا تتصل وتقول  لي : أنني أشعر أنك متغير في مشاعرك، وبالضرورة كنت أحاول منع هذه الأفكار من أن تتسلل إلى رأسها، لكنها كانت شديدة الذكاء.

كانت تقول لي لو أكتشفت انك بتخوني سوف أقتلك! حاولت إستبعاد هذه الفكرة من عقلها وأظن أنني نجحت، أوكنت أظن ذلك، لكنها نصبت لي الفخ بمهارة.

مر الأسبوع وطلبت "موران" أن ترجع لمصر لكن كان أبيها قد أصيب بحمى جعلته يرقد في السرير، مما جعل "موران" أن تتركه مع أخيه وترجع بمفردها، بعد ما أقنعت أبيها أن المكان هنا مناسب له، وأنه بإمكانه الرجوع بعد أسبوع آخر. لكنها أتصلت بي وقالت أنها سترجع بعد أسبوع آخر، ولاأعرف أن كانت تنوي أن تفاجئني بعودتها اليوم أم أنها كانت تقصد لترى ما أفعله في غيابها، لحين هذه اللحظة لاأعلم.

السردية التاسعة

التياقظ

"دوام المدوامة والتحير"

في ضوء تلك الليلة البطيئة؛ تُرجَفُ الريح ببطء في الخارج. أشياء تخلق ظلالا أثناء تحركها ربما ليست بأكثر من ثياب منشورة في الطابق الأعلى، ولكي أستيقظ باكرًا، تركت درفتي النافذة مشرعتين، غير أنني حتى هذه اللحظة، والليل جد متأخر حتى لايكاد يسمع منه شئ، لم أستطع أن أتخلى عن النوم ولا أن أكون في وضع إفاقة حقيقية.فنزلتْ بي جثث الوقت إلى أرائك الخلوة. فيما كان هو _أي أنا _يتحرك ببطء تحت أغطيته الشفافة، وفجأة ينهض من نومه يرتدي ملابسه ويخرج. أسمع صوت خروجه. وباب يُغلق. تترددُ خطواته أسفل النافذة. ومن الخارج تتدفق أصوات ضعيفة لا تلبث أن تتميز!. وأنهض بدوري فأشعل مصباح الغرفة وأجلس في أحد الكراسي. بعد فترة ليست بقريبة أسمع صوته وهو يصعد الدرج. يدخل الغرفة. يجوس في الظلام. يدور حول المنضدة. إنه ينتظر صوتي. حاولت أتظاهر أنني لم أرَى شيئًا. لكنه أخذ ينشج فلم أستطع أن أتفاداه. أقتربت منه وأخذت أتشممُ ثيابه المُبللة وكنت قد قررتُ أن أتركه وأنام. كانت يداه على المنضدة؛ أخذتُ أنظر إليه من جديد كانت نظرة مُدهشة له. فتح النافذة ومد رأسة للخارج. أزعجه النظر من خلال الزجاج، ففتح النافذة ومد رأسة. وطلب مني الخروج معَا؛ جلسنا على المقهى المجاورة. قدّم لنا القهوة رجل ضخم ذو وجه مشوّه بالجدري. انحنت يداه العريضتان على المنضدة بعد أن ترك القهوة. شربت جرعة. ذهب الرجل إلى مقدمة المقهى. رأيت كتفيه تهتزان قليلًا، راقبته جيدًا فعرفت بعد قليل لدهشتي إنه يبكي ولابد أن هناك سبب. أدهشني الأمر حقيقًا، وخشيت أن يراه أحد غيري. كان الرجل يائسًا بالتأكيد. أشرتُ إليه. جاء وجلس معنا. أنطفأ الضوء، أشعلتُ سيجارة وعلى الضوء المُنبعث من الثقاب المشتعل أنعصر الصمت المُتخشب ، فوق دهاليز الوقت النافر.

حينها كنت أحاول أن أجمع ماأشاء من الماضي وأتحرك حركات هلامية تقطع الأبد بالأزل في لحظة. نظروا إليّ نظرة بهية بهيجة تفَضتْ بعدها بكارة صمتي، وتحت كل ثنية اهتزتْ كلماتي فانفرط عَقد لساني. بهذا المزاج الغبي المنمق، ودون أن أجد تبريرًا واحدًا لجلوسي بمفردي على تلك المقهى؛ إلا أني وجدتُ نفسي في سريري أتخبط في الأحلام التي تفضي بي دومًا للكوابيس. حينها وقد تخلى الليل عن سواده وأستيقظتُ صباحًا، بعد الساعة السابعة، على ما أظنُ، وكانت الغرفة مستضاءة بالكامل. أستيقظتُ بوعي كاملًا. فتحتُ عيني فجأة. كانت واقفة عند الباب تمسك بسكين عريضة في يدها. أغمضت عيني سريعًا، وتظاهزتُ أني أغط في نوم عميق. أقتربتْ منّي ووقفت فوق السرير. ظننتُ أنها ستقتلني، فتحتْ عيني على ورب. كانت تنظر في عيني مباشرة والسكين صار عند رقبتي تمامًا. ألتقت عيوننا، عدت وأغمضت عيني . علا صراخها وضرب أذني وهي تقول : لماخنتني_أنت خاين _أنت خاين. فزعت ونهضتُ من النوم، لم أرى شئ! أنرتُ المصبايح ونظرت نحو النافذة، وكان الليل مازال يضرب أركانها، وتأكدتُ أنني كنتُ أحلم! نظرت نحو المرآة وكان يفصلني عنها كرسي صغير، جلست فوقه وأغمضتُ عينّي؛ سمعتُ طرق خفي يأتي من الخارج، مددتُ رأسي نحوه ونهضتُ بدوري؛ خرجت من الغرفة، أصغتُ السمع، ثمة أحد يطرق باب الشقة، فتحتُ الباب كانت "ليلي"!! كانت مفاجأة غير متوقعة!! قلت لها وأنا ألقي نظرة سريعة على الدرج : كيف عرفتي عنواني؟ أزاحت يدي بقوة من على باب الشقة ودخلت، ثم قالت : أنا أعرف أنك تعيش بمفردك وهذا السبب مادفعني أن أجيئ دون اتصال.

_لكن يا"ليلى" أنا سألتك كيف لكِ معرفة عنواني

_هذه "وأخرجت من شنطتها بطاقتي الشخصية، كنت نسيتها في شقتها. ألتقت البطاقة من يدها، وقلت لها : لبد من أن تخرجي الآن، الشقة المقابلة شقة عمي، رأخشى أن يراكِ أحد. نظرت إلى بنطالي من المنتصف وأسلتقت على الكرسي في وضعية غريبة، خلعت حذائها ذات العنق الطويل، ومن بعده جوارابها الشفافة السوداء، وأخذت تدعك أصابع أرجلها وهي منحنية للأرض. كان شعرها الأسود ينسدل على وجهها، وأنا أبتلع ريقي حتى بدأت يدي تغلق الباب بهدوء. نظرت إلى وضحكت ثم قالت : هذا البنطال ضيق جدًا عليك الا تشعر به، نظرت إلى بنطالي وقد كانت محقة في قولها!!. نهضت من على الكرسي وخلعت البالطو الجلدي، ثمة أضاءة أنارت الشقة، يبدو أنها من جسدها البض!!. أستدارت وطلبت منّي فتح سوستة البلوزة التي ترتديها لأنها تشعر بحرارة، قمت بدوري وحاولت فتح السوستة! لكن هتف بي هاتف "لا تفعل" وتذكرت "موران". تراجعت وأستدارت هي وأمسكت أزرار قميص وفتحتهم وغاصت بيدها اللينة بين شعر صدري، وأحتضنتني بقوة وغرست أظافرها في كتفي. سقط البنطال، وسقط معه عقلي، دخلنا غرفة النوم ولعبنا لعبة "الحجلة!" دق جرس الباب، خرجت وأغلقت على "ليلي" باب الغرفة، وفتحت باب الشقة، لم يكن أحد بالخارج أستغربت ودخلت وغلقت الباب، فتحت باب الغرفة وقبل أن أدخل رن الجرس مجددًا، فتحت باب الشقة لم أرى أحد! وتبع هذا مرات كثيرة... ولايوجد أحد بالخارج. خرجت "ليلى" من الغرفة وقالت لي : ممكن نشرب قهوة؟؟. أشرت له على غرفة الطعام فدخلت لتعد القهوة بينما أنا أقف خلفها، ألتصق بها من الخلف وأداعب شعرها. قالت لي يمكنكِ الخروج لأني لاأسطتيع عمل القهوة في وجودك. خرجت للصالة وأنا أنتظرها برغبة عارمة، أتصبب عرق وألهث مثل ال..، رن الجرس مجددًا فلم أهتم به وتركته يرن!. خرجت "ليلى" بالقهوة وجلست لجواري. أرتشفت رشفة من الفنجان وأخرى من شفاتيها اللاذوردتين، رن الجرس مجددًا لكن بعنف، أغتظت وغضبت، أشرت ل "ليلي" للدخول في الغرفة، فتحت الباب وكانت الصدمة بل كانت الكارثة.؛"موران"تقف خلف الباب!!

_أهلًا "موران" أنتِ جئتي قبل ميعادكِ؟

_أهلًا "كمال" أراك لم تفرح لرؤيتي

_لا_بالعكس، لكن أنتِ أبلغتيني إنكِ ستصلين بعد أسبوع

_كنت أنوي عمل مفاجأة لك، أنت وحشتني

_أنتِ أيضًا وحشتيني

مدت يدها وأحتضنتني وأنا أقف كالمصلوب. لمحت بعينها فنجانين القهوة فوق الطاولة، فأسرعت للدخول للصالة، وأمسكت الفناجين وقالت لي : أنت معك أحد؟ فقلتُ لها وأنا أرتجف : كان أحد أصدقائي هنا منذ ساعة وخرج، تفحصت الفناجين جيدًا ثم نظرت نحوي وقالت : يبدو أن صديقك يهتم بنفسه جيدًا! ويبدو أيضًا أنه يستعمل قلم روج مثل اللي أنا أستعمله!! أنت بتخوني "يا كمال" ورمتني بالفناجين في رأسي، وظلت تبحث في الشقة حتى دخلت غرفة النوم وبعدها سمعت صراخ، وبعض الجيران جاءوا ليعرفوا ما الأمر، خرجت "ليلي" مسرعة ومن بعدها "موران" وخلعت حذائها ومتني به ثم بصقت في وجهي وأزاحت الجيران بأيديها ودخلت شقتهم. مر على هذه الحادثة سنتين، وقد تملك منّ اليأس من كثرة المحاولات لإرجاع "موران" لي.

الآن أفكر : "أحيانِا ما تعطينا الحياة أطراف الدلائل كحجة على أكثر الحقائق"

سيدركني الموت قريبًا بصرف النظر عن أي شئ، ربما الشهر القادم، ربما بعد سنة، سنتين، ثلاث سنوات.... فأن احتياجي لجمال الحياة قد أنتهي! وأستطيع أن أموت بكل رغبة، لكن أتمنى أن أموت بهدوء. أو على الأقل آسامح نفسي على كل نزواتي، ورغباتي، التي كاتت تقتصر على لا شئ تقريبًا، والتي تشكل بخاصة من الرغبة في أن أبقى وحيدًا. في طفولتي، كنت حاقدًا ومنتقمًا، وقد فقدتُ وأنا أتقدم في السن _أي سن المراهقة_هذا الجانب الخسيس العائد لحساسية مفرطة، والذي أسميه أنانية محضة، هو هو الجانب الذي أضاف على قلبي الحب!. ألوف الأفكار تنبجس دفعة واحدة، والعدد عينه من القصائد أيضًا تشع بدون جدوى " إذا فقدت من تحب فالكل شبيه بالآخر" بقيت عندي العواطف الصغيرة، نسمة هواء عليل في زواية ريف غير مطمئنة، تبدو كأنها تقتل روحي، موجة بعيدة من عزف جوقة نائية. تثير فيّ أنغامًا تتخطى من بعيد كل السيمفونيات. أجمع داخلي كلّ شروط السعادة لكي أكون سعيدًا ماعدا السعادة نفسها. لاتملك مايمكن لها أن تكون، هذه الشروط أي روابط فيما بينهما.

السردية العاشرة

_الذكرى_

"الخروج عن سبب الحرق بالاحتراق بلا حرق"

 شدَت العجوز شالها البالي حول كتفيها لاتقاء برد الخريف الذي غزا غرفتها في وقت مبكّر هذا العام. أحسّت بالبرودة تخترق عظامها، فحاولت تحريك أناملها برفق علها تُرخي مفاصلها اليابسة. يجب أن لاتخونها يدها الآن. يجب أن تنتهي من خياطة المعطف القطيفة لتهديه إلى حفيدتها. كانت تدرك أن تلك المهمة هي الأخيرة لها على وجه الأرض. كادت بقية الحياة في جسدها الذابل تضمحلّ. لسنوات طوال وعظامها الهرمة مُثقلة بحزنها الصامت. لم يبقى معها من ابنائها سوى اثنان. كانت حفيدتها الأبنة الوحيدة لأبنها الأكبر؛ هي نعمة حياتها، وبصيص النور في الأوقات الحالكة التي ربضت فيها كوابيس الذكريات المروّعة على قلبها. كانت فكرة الموت الداني منها تثير حزنها خشية أن تترك حفيدتها الوحيدة دون أن تراها مستقرة في حياتها مع زوج يحبو عليها. رفعت وجهها المتجعد وتأملت النجوم البهية في السماء الصافية، وأحسّت _كالعادة_بروعة الخالق. هتف داخلها : ماوراء تلك النجوم تنتظرها أرواح أحبّ أحبائها إليها زوجها، وهي تحس أنها اليوم أقرب إليه. همست في اذن السماء الداكنة :"فلتكن مشيئتك" واستدارت بخطى بطيئة إلى الداخل. تنفست بعمق وهي تحدق في عين حفيدتها النائمة. كانت نظرات  تشعُ دفئًا وحنانًا. كانت في غرفة العجوز صندوق خشبي كبير. توقفت العجوز عن النظر إلى حفيدتها وقامت من مقعدها ومشت ببطء نحو الصندوق. جثت بحذر على ركبتين رقيقتين، وفتحت الغطاء الثقيل. وإذ نظرت إلى الوراء فوق كتفيها شعَت في وجهها ابتسامة طمأنينة وثقة. استدارت نحو حفيدتها وأشارت إليها أن تقدمي. نهضت "موران" ومشت بسرعة ناحية الجدة، وجلست على الأرض لجوارها. أخرجت الجدة من الصندوق طرحة فرحهها البالية، وطقم أسنان مُذهب، ضحكت في وجه "موران" قائلة : هذا العالم عبارة عن استعارة مكنية من فن النحت وواصلت ضحكها بصوت عالي. كانت "موران" تنظر إلى يدي الجدة اليسرى التي تخبأها وراء ظهرها. مدت "موران" يديها إلى يد الجدة بعد أن أحكمت قبضتها وسحبت منها صورة ورقية. نظرت "موران" إلى الصورة بضع دقائق والعجوز تراقب تعابير الفرح على وجهها. ثم استدارت ونظرت نحو النافذة في إيماءة سريعة لعل الله يستجيب لها_كانت دائمة الدعاء لحفيدتها بأن يرزقها الله رجل صالح يحبو عليها_قالت لها "موران" كيف حصلتين على هذه الصورة؟ نظرت العجوز للأرض ولم تبدي أي رد. قامت "موران" وتوجهت نحو التسريحة وأخذتْ القاطع وحاولت تقطيع الصورة لكن الجدة قفزت عليها كما يقفز الأسد على فريسته وألتقطت الصورة منها ووضعتها في صدرها. استغربت "موران" مما فعلته العجوز وأردفت قائلة : لم تحتفظين بشئ لم يعد مهمَا ياجدتي؟

_قالت الجدة وهي مبتسمة : آلم يعد هذا الشئ مهمًا الآن؟ ألم تعد هذه الصورة مهمة؟

صمتت "موران" واستدارت ناحية المرآة وجلست على الكرسي واضعة يديها الأثنان فوق وجهها لتخفي عينيها اللتين أمتلأت بالدموع. وضعت الجدة يدها وربتت فوق كتفها وراحت تذكرها بالأيام الماضية،تلك الأيام التي كانت ترى فيهم حفيدتها وهي سعيدة. واصلت "موران" التحديق في الصورة ثم أرتمت في حضن الجدة. قالت الجدة في نبرة قاسية : أأنتِ تحبيه لماذا تركتيه؟ نظرت "موران" نحوها وقالت : أنا لم أتركه لكن... لكن هذا هو الوضع الطبيعي أنسيتي أننا مهما كنا نحب بعض؛ فمسيرنا للفراق؟ هزت الجدة رأسها وقالت : أنتِ محقة ياأبنتي.. الفراق من نصيبكم مهما طال اللقاء!! لكن ياأبنتي الذكريات لابد من المحافظة عليها.

طلبت "موران" من الجدة أن تدعها تذهب لغرفتها بعد سحبت الصورة من صدرها.

جلست على أريكة في غرفتها ممسكة بالصورة، تتأمل فيها. أرجحتها الحيرة، صارت ريشة خفيفة تلعب بها الذكريات؛ أضجعت علقت نظراتها في الهواء تنظر بين حين وآخر إلى سقف الغرفة، قامت وسحبت ألبوم الصور الخاص بها، وبدأت تتصفحه ببطء، كانت قد حفظت كل ما فيه عن ظهر قلب لأنها شاهدتها مرات كثيرة. كان معظم صور الألبوم مأخوذة لها ومعها صورك يا "مصطفي" ظلت "موران" تتأمل في الصور وتتذكّر الأيام التى عاشتها منذ الطفولة وتقول في نفسها :

"كلما أمرُّ من أمام مدرستنا الإبتدائية المشتركة أكتشف أن قلبي ذلك العابر بنعالٍ من ريح وضحكات لايزال قابعًا في تلك الفصول المتراصة في الذاكرة وعلى نفس المقاعد التي علاها الصدأ والنسيان"

أسرعت" موران" بعد أن دست وجهها في شراشف السرير لتجفف دموعها وقامت لتفتح باب غرفتها. كانت جدتها تطرق الباب بشدة. دخلت الجدة وقالت لها وهى تتهتأ في كلامها :" ليلة أمس قابلت "كمال" عند باب الشقة وطلب منيّ أن أعطيكِ هذه الورقة!!. نظرت "موران" لأيد جدتها وخطفت منها الورقة. جلست لتتفحصها. خرجت الجدة تاركة حفيدتها تنعم بين طيات الورقة. ترددت" موران"في فرد طيات الورقة كثيرًا حتى تملكت منها الشجاعة وأخذت تقرأ فيها :"

هل كنتِ تدركين معنى الزمن وأنتِ تجلسين في أول الصف، وتضعين فوق كتفيكِ شالًا من الكشمير الأبيض الذي يشبه أجنحة الملائكة وحول عُنقكِ كوفية صوف حمراء؛ وكنتِ تنظرين إليّ بطرف عينكِ خشية أن يراكِ أحد؟وحين كانت الشمس تتسللُ من الفناء الخلفي للمدرسة لكي تضع كتبها وكراريسها بجانب شنطتكِ البيضاء لكي تتعلم من ضحكاتكِ؟

الا تزال صورتي التي كنتِ تخبئيها في جيب مريلتكِ القطنية وبين دفاتركِ وأوراقكِ التي تمتلئ بالطباشير والفراشات بنفس الابتسامة؟

ألازلتِ تصرين كل يوم على المشي من شبرا إلى كنيسة الروم الأرثوذكس وأنتِ ممشوقة وفي كامل هيئتكِ؟ وفي يدكِ كتاب الصلوات والمزامير؟ ألازال القديسين يزوركِ عصر كل يوم في غفوتكِ؟

أنتِ أيتها الرسولة الخارجة من إطار الزمن والمتمنعة بقسوة! حتى على الزمن نفسه... لم نكن نعلم _أنا وأنتِ _على الأقل في ذلك الوقت أن الزمن _هذه الأنشوطة_المليئة بالتيارات المتعاكسة والأكاذيب يمكن له أن يطعم أرواحنا الراسخة بمياهه السوداء.

ألازلتِ تذكرين أسمي الذي أسميتيني به؟ ألازال اسمكِ الذي أسميتكِ به يتردد بين مسامعكِ؟ ألا زال كما هو "زعفران" ألازلتِ تحبين أن تناديني " قطيفة"؟...... كانت "موران" مع كل كلمة تقرؤها تُذرف الدموع من جفنيها.

انزاحت جدران الغرفة وأتسعت حتى وسعت. كان نظرها ممدود ومترامي نحو اللامرئي المنظورج. انفرجت دموعها عن برق لماعٍ، صافٍ. كان يؤانس وحدتها تلك الكلمات التي أصابتها بالنهم! فأخذت تأكلُ من خبز النشوة، بعد أن صنعت فنجانًا من القهوة بالضوء، وأسدلت فوق الجدران أشعة شمس من قلب يتفتتُ حرقًا، لم يهم "موران" أن تتعافى من جديد بأي طريقة، لقد أطبقت عليها الظُلمة الصامتة الثقيلة الوطأة. بعدما لاحت لها طريقة لوضع حدّ لحياتها التعسة ومدّت يدها إليها في لحظة يأس، أخفقت مرة أخرى _كانت تنوي التسامح_فبدلًا من العثور على السلام الذي طالما تاقت إليه، أصابها ألم الخيانة مرة أخرى. ارتدت ملابسها على الفور وخرجت للشارع.

وقفتْ على الرصيف المقابل لمدرستها الإبتدائية، سمع همس يقترب من أذنيها:" ثمة خِسة، ثمة انحطاط في المشاعر، هناك نوع من الأنانية في الافتراض أن الكون بأكمله موجود في أعماقنا أو بأننا بطريقة ما نحن مركز هذا الكون أم ملخصه أم رمزه" قد تبدو واقعة الخيانة آلمتها في الحقيقة، أصبحت متنافرة مع كينونة طيبتها، بشك كامل، من دون أن يبرهن ذلك عن لا كينونة طيبة إنما بساطة وفائها.

فجئت" موران"بيد تربت على كتفيها، أستدارت كان الشيخ" درويش" يمر من جانبها، لمح عينيها الحمراويتين التي أعتلاها الدمع، وكان قد علم القصة منذ البداية، فقال لها: نحن نعطي قيمة وأهمية لأحاسيسنا، هذا نفعله بوعي أو بدون وعي، وهذا الأعتياد المتحول إلى دواخلنا والذي نصه بالحب فنحن آنذاك نصفه بحقيقة لاتقبل الشك، وهذا هو الصراع الذي يحرق روحنا، بل يحطمنا.

قالت له بعد أن أرتمت في حضنه : لم أندم على حبي له، لكني شعرت أنني رخيصة جدًا لديه، ومع ذلك لم أقدر أن أنسى، على الأقل فهو الصديق الوحيد لدّي

_ياأبنتي "كمال" تملك منه الشيطان في لحظات ضعف، لكن يمكننا أن نتسامح معه

_ماذا تقول يا شيخ؟ أتريد أن أعود له؟

_ليس بخاطركِ ياأبنتي، بل بدافع إنكِ لم ولن تنسيه!

_أنا نسيت هذا الموضوع، والآن فقط هي الذكرى والذكرة هي من دفعتني للمجيئ إلى هنا

_لكنكِ تحبيه

سكتت "موران" وأستكملا طريقهم للبيت، دخل معها الشيخ "درويش" الشقة، وفتح غرفة المكتب الخاصة ب "بمرقس" فوجده ينظر إلى السقف ويبول : " لقد أجهضتُ الملاين من الأحلام الصغيرة، ومن على مكتبي هذا وعب الليل الرنّان أنتظر الفجر وهو يبزغ على عصا الليل البردانة؛ لقد شاهدتُ المسيح وهو يمشي في الأسواق"

ضحك الشيخ" درويش" فأنتبه له "مرقس" فقال له "درويش" : سلامًا أيها الغبار الراسخ مثل فم، لم تكن في يوم من الأيام بلا قدمين ضالين، ولم تكن كذلك بلا أسنان" مابك يا "مرقس"؟

_أشعر أنني مجهد يا "درويش" طال العمر ولم يبقى الكثير وكما ترى أبنتي هي كل حياتي، أريد أن أطمئن عليها.

_لاتخشى على ابنتكِ فهي في حماية الله

_ونعمة بالرب، لكن أنت تعلم أنني لم أترك لها سند، ولا أخ يخاف عليها

_أدعي لها بالتوفيق.

وقف" مرقس"في شرفته التي تحتضن الأطالس العملاقة المشبوكة على بكرة من الخيط الحريري، ونظر إلى السماء كأحد الثيران الجريحة، فيما كان يكرز بيديه الخشنتين علي تمثال من الرخام الأبيض "للمسيح" وركع أمامه، فتركه "درويش" وحاول الخروج إلا أن "مرقس" صرخ في وجهه : لاتخرج وتتركني، جلس الشيخ "درويش" مجددًا، وأخذا يتحدثان عن "موران"

قال الشيخ "درويش" :

 أريدك أن تأخذ هذا من الرف، وأشار للكتيب الذي أشارت له "موران" من قبل، قتح "مرقس" الكتيب واضعًا أصبعه في المنتصف وأشار به للشيخ قائلَا : هذا الكتيب أهداه لي الأب "باخيموس" حين حجيت للقدس قال لي : إنه من أندر الكتب، لكن ماأمره هذا الكتيب يا شيخ؟

تبسم الشيخ وقال : لم تحكي لك "موران" عنه؟ هز "مرقس" رأسه نافيًا. حكى" درويش" الحلم الذي رأته "موران" مما شد إنتباه "مرقس"، دخل غرفة "موران" وسحبها من يدها بعد أن ملس على شعرها، وقال لها بعد عاود الجلوس مع الشيخ : الحلم الذي حكاه لي الشيخ رأيته مرة واحدة؟ هزت رأسها : مرة واحدة.

فقال لها أبيها : أنتهى الحلم عند موت الملك "أخاب"ولحس الكلاب دمن؟ قالت له : كان نفسي أكمل الحلم وأعرف ماذا حدث في المملكة!!.

قال الشيخ "درويش" أنت يا "مرقس" أكيد تعلم، رد "مرقس" لا_لا_لاأعرف لكن أيد مكتوب في الكتيب، أخذ "مرقس" يقرأ في الكتيب بصوت مسموع :

بعد أن مات "أخاب" في المعركة وجلس على عرش المملكة آبنه "أخزيا" وكان شريرًا مثل أبيه " عمل الشر في عيني الرب، وسار في طريق أبيه وأمه، وطريق يربعام بن نباط الذي جعل إسرائيل يخطئ!، وعبد البعل وسجد له، وأعاظ الرب إله إسرائيل حسب كل ما فعل أبوه" أخذ "أخزيا" يضاجع جميع نساء المملكة والتي ترفض، كان يأمر بقطع ثديها وتركها لتموت، وكانت أمه تعلم هذا وتشجعه،وفي أحد الأيام كان" أخزيا "يتمشى في أعلي قصره في السامرة، وأستند إلى كوة هوت به إلى الأرض! فأصابته رضوض وجروح كثيرة، ولم يتجه فكره إلى الله بل اتجه إلى صنم اسمه "بعلزبوب" الذي كانت تتعبد به أهل" عقرون" بإعتقاد منهم أنه سوف يذهب عنهم الذباب الذي يسيئهم، ذلك الإله الذي يجمع حوله الذباب والقذورات فلما امتنع بنو إسرائيل عن عبادة الأوثان أطلقوا على هذا الصنم "رئيس الشياطين" ولما كان أهل "عقرون" يؤمنون أن "بعلزبوب" يشفي من المرض، فقد أرسل الملك "أخزيا" يسأل هذا الإله الشفاء، حينها أرسل الله ملاكًا إلى "ايليا" يقول له : "أصعد للقاء رسل ملك السامرة، وقل لهم : هل لأنه لايوجد في إسرائيل إله، تذهبون لتسألوا بعلزبوب إله عقرون؟ فلذلك هكذا قال الرب : إن السرير الذي صعدت عليه لاتنزل عنه بل موتًا تموت" أطاع" ايليا" دعوة ربه، وذهب يقابل رسل الملك أخزيا قبل أن يصلوا إلى" عقرون" وأبلغهم تلك الرسالة. فرجع الرسل إلى الملك" أخزيا"وأستغرب" أخزيا"سرعة عودتهم، وسألهم عما حدث فقالوا له : قابلنا رجل أشعر متمنطق بمنطقة من جلد على حقوية، ثم أبلغوه رسالة" ايليا"وأدرك الملك أن النبي "ايليا" هو الذي كلمهم واعتاظ من "ايليا" كثيرًا، وقرر أن ينتقم منه، وأرسل إليه ظابطًا وخمسون جنديًا شداد، فصعد الظابط والجنود إلى رأس الجبل واستدعى النبي ليلتقي بالملك، فقال ايليا": إن كنت أنا رجل الله فلتنزل نارًا من السماء، وتأكلك أنت والخمسون الذين معك"، فنزلت نارًا من السماء وأهلكت الظابط ومن معه، ولم يفهم الملك "أخزيا" رسالة الله له، فأرسل ظابطًا آخر ومعه خمسون جنديًا، ومرة أخرى أمر "ايليا" أن تنزل نارًا لتلتهمهم، فهلكوا. ومرة ثالثة ولم يفهم الملك" أخزيا" الدر الذي أراد الله أن يعلمه له! بل أستمر في ضلالته وعبادته للأوثان. في ذلك كان قائد الجيوش "ياهو" يدبر لعملية انقلاب عسكري على الملك "أخزيا" والملكة "ايزابل" ولما علمت "ايزابل" بذلك الأمر، كحلت عينها بالأثمد، وولبست أجود الملابس وتعطرت بالعطور الفاضحة. ذهب ل "ياهو" وحاولت إغراءه، وما لبث إلا وقد نال منها، ووضعها بين ساقيه وهي تلهث من فرط اللذة، لكنه كان أشد ذكاء منها، فبعد أن شفى رغبته فيها، وهذا ماكان دومًا يحلم به، قال لها : لقد أغويتيني، وقد أصغت لكِ، وقد روتيني ورويتكُ فالآن لتذهبي إلى مصيركِ، وأمر الحرس بإلقاءها من نافذة القصر حتى سال دمها على الأرض، ولحست الكلاب دمائها أيضًا كما تنبأ لها أيليا. فيما كان "ايليا" وقد شعر أنه لبد من الذهاب للملكة الجنوبية في محاولك منه في نصح ملكها؛ أرسل رسالة إلى الملك يهورام، الذي كان ملكاً على المملكة الجنوبية، ونعلم من تاريخ بني إسرائيل أن مملكة الملك سليمان انقسمت إلى قسمين: المملكة الشمالية وعاصمتها السامرة، وكانت تتكوَّن من عشرة أسباط. والمملكة الجنوبية وعاصمتها أورشليم وكانت تُعرف بمملكة يهوذا. وكان اللّه قد دعا النبي إيليا ليخدم المملكة الشمالية، حيث ملَك الملكُ الشرير "أخاب" ، ولكن اللّه كلَّف نبيه إيليا أن يُرسل رسالة إلى الملك الجنوبي "يهورام". لم يذهب النبي إيليا إلى المملكة الجنوبية، لكنه اكتفى بأن أرسل تلك الرسالة، وهذا يوضح لنا أن النبي إيليا لم يكن يقبل أبداً فكرة المملكة المنقسمة، وكان يعتقد أن شعب اللّه واحد في كل مكان. لقد ظهر اقتناعُه هذا عندما بنى مذبحاً قدم عليه الذبيحة التي التهمتها النار من السماء، فقد أقام ذلك المذبح من إثني عشر حجرًا، ترمز لأسباط بني إسرائيل الإثني عشر متَّحدين معاً، لذلك لا نستغرب من أن يرسل النبي إيليا رسالة إلى ملك" يهوذا – الملك يهورام" ، ملك المملكة الجنوبية. وقال النبي إيليا في رسالته:"هٰكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ دَاوُدَ أَبِيكَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ لَمْ تَسْلُكْ فِي طُرُقِ يَهُوشَافَاطَ أَبِيكَ وَطُرُقِ آسَا مَلِكِ يَهُوذَا، بَلْ سَلَكْتَ فِي طُرُقِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلْتَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ يَزْنُونَ كَزِنَا بَيْتِ" أخاب" ، وَقَتَلْتَ أَيْضاً إِخْوَتَكَ مِنْ بَيْتِ أَبِيكَ ٱلَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْكَ، هُوَذَا يَضْرِبُ ٱلرَّبُّ شَعْبَكَ وَبَنِيكَ وَنِسَاءَكَ وَكُلَّ مَالِكَ ضَرْبَةً عَظِيمَةً. وَإِيَّاكَ بِأَمْرَاضٍ كَثِيرَةٍ بِدَاءِ أَمْعَائِكَ حَتَّى تَخْرُجَ أَمْعَاؤُكَ بِسَبَبِ ٱلْمَرَضِ يَوْماً فَيَوْماً"(سفر أخبار الأيام الثاني ٢١: ١٢-١٥).

كان الملك" يهورام "قد خلف أباه الملك" يهوشافاط" الذي كان ملكاً فاضلاً، فثبَّت الربُ مملكة" يهوشافاط"وأعطاه الغنى والكرامة. وكانت تقوى اللّه في قلب" يهوشافاط"، فنزع أماكن عبادة الوثن من كل أنحاء مملكته، وأطلق على ابنه اسم "يهورام" بمعنى "اللّه مرتفع" . ولكن "يهورام"لم يعْط اللّهَ المكانةَ الأولى في قلبه، وضلَّ عن العبادة الصحيحة، وتزوج بنت الملك" أخاب" ، فارتكب الملك "يهورام" الشر وضل. ومن يضلله الشيطان ويخدعه يجعله يرتكب الحماقات، فكان أول ما عمل الملك "يهورام "أنه قتل إخوته الستة، مع جماعة من قادة الشعب.

آنذاك طلبت "موران" منهم أن تذهب للجدة لأن لبد من تعطيها دوائها

بينما كانت "موران" تجلس مع الجدة، تتحدثن عنّي، وعلمت من الخادمة أن "موران" تنوي السفر لفرنسا عند عمها، بدأت الأفكار تتخبط في رأسي وأبحت كالمجنون، لاأعلم ماذا أفعل.

اليوم التالي بعد خروج "موران" ومرقس" دخلت وتحدثت مع جدتي، وطلبت منها أن تكلم" مرقس"بأنني أريد الزواج من "موران". قالت لي الجده : لايمكن الآن،" موران"لم تنسى إنك خنتها، من الأفضل أن ننتظر، رأت الجدة في عيني الدموع فهمت وحضنتني وقالت : سأدبر الأمر في أقرب وقت.

السردية صفر

_النهاية_

"بحثك عنك في الوقت إذ ينعدم الوقت في كل وقت "

لم تشاء الأقدار بكل ماتحمل من مرارة وكبرياء أن تمدُ يديها الصلبتين في ساعة الفراق هذه، ولاتمنحني ولو لحظةٍ واحدةٍ من الشجاعة لكي أعلن الخلاص، فقط كان هناك _أنا_ذاك المهزوم، لم تشأ ليدّي أن تكتب ولو كلمة واحدة هذه اليد العميانة التي سقطت وسقط معها كل الآمال، كانت أيمامي طويلة كأحلامي المفزعة

كانت الكوابيس المبهمة، والمتعاقبة تفض مضجعي كل ليلة، فتيقظني ولم أستطيع الخلود للنوم مجددًا، الهواء يتشبع ببرد حاد، قد يكون مفدمة لمطر ربيعي. أشعلت سيجارة، إلتفت للمرة العاشرة خلفي، ثمة شئ غريب، نفضتُ رأسي في محاولة لنزع الأفكار التي تسوس في عقلي. أشعر أني جائع، ليس لخبز أو لخمر أو لضم إمرأة تأتي بفردوسها. أمضيت يومي كما بالأمس وهو بطبيعة الحال شبيه للغد. روحي دوامة سوداء، دوار سحيق حول الفراغ، تطلع محيط بدون قرار إلى ثقب في العدم، وفي هذه المياه، بالأحرى في هذه الدوامة، تطفو دائمًا الصور التي استطعتُ رؤيتها وسماعها عبر الكون الإفتراضي. عبر الدوار الجسدي، يدور العالم الخارجي حولنا.

كان الصوت الذي أسمعه صباح كل يوم وطء أقدام "موران"، أعلم انه هو أعلم جيدًا لكن.... ، أنتشلت صورة من مئات صورها المُعلقة على الحوائط والجدران، أحدثها بملئ خاطري أحدثها بكل ماأملك من كلمات : " أتركِ ليديكِ المطعمتين بالتوت البري تربت على يدّي، ساأكون لكِ حارسكِ وأضع تحت رأسك النجوم، علميني أيتها القديسة كيف يكون الحب"

نهضت من فوق الكرسي، وأرتديت ملابسي على عجل وخرجت، كانت "موران" قد تحركت بسيارتها، أستقليت سيارتي ولحقت بها عند باب الجامعة. نظرت إلي نظرة عابرة كوميض، ولم تبدي أي اهتمام، دخلت غرفة المحاضرات، وكان الطلباب يجتمعون حولها كالعادة، رأيتها تنظر إليّ من تحت نظرتها، وعينيها مملؤة بالعتاب واللوم، لدرجة جعلتني أستدير وأخرج خارج المحاضرة؛ أنتظرتها لجوار سيارتها، ولما خرجت، وقبل أن أتحدث بكلمة واحدة، وفيما راحت تحدثني كنت أفكر بأنني قد وقعت على قرار موتي وهذا الشعور سيصبح حقيقة، كانت نبرة صوتها حادة جدًا، قالت لي : ليس في الأمر يجعلك تنتظر! فأنت الآن أنت ابن عمي فقط!!  وركبت سيارتها وغادرتْ، وبقيت وحيدًا حتى هذه اللحظة، أحيا دائمًا في الحاضر وفي المستقبل الذي لاأعرفه، والماضي لم يعد ملكًا لي، لاأملك آمالًا ولا نوسطالجيات، ماذا يمكني أن أتوقع من حياتي غدًا؟ على معرفتي بما كانت حياتي حتى اليوم؛ الآن أصبحت كملك مخلوع دون أي نياشين حقيقة.

مضت بضعة أيام دون أن أسمع عنها شئ، وفي صبيحة أحد الأيام طرق بابي العم "مرقس" وقال لي أن "موران" سوف تتزوج ابن صديق لي الأسبوع القادم!

 هذا ما حدث أيها الأب "يوحنا" واليوم أملك _وبعد أن قطعت كلّ الصلات_ماعدا واحدة : بين الحياة وبيني وضوح الروح كي أشعر؛ ووضوح الذكاء كي أفهم، هذا ما يعطيني قوة الصبر الكاملة، الذي لم أستطيع إنجازه أبدًا، بل وببساطة شديدة ليس لدي منه مايكفيني لحمل حبة خردل، ما من مأساة أكبر من هذه الكثافة المتساوية، في الروح عينها أو في الإنسان ذاته، مابين الشعور الحزين والشعور الطبيعي. لكي يكن المرء أخلاقيًا بشكل لا بأس به، وبشكل مُطلق عليه أن يكون أحمق قليلًا. وهذا ما لا أفعله أبدًا. كان تسللُ العامل الاجتماعي في لعبة قراراتي غير المنتظمة. لم أستطيع يومًا أن أتخطى تأثير الوراثة والتربية خلال طفولتي، لقد نجحت دومًا في إبعاد مفاهيم النبل العميقة! كما الوضع الاجتماعي؛ لكنني لم أستطعُ التخلص منها، إنها موجودة داخلي. فبرغم وجودها داخلي إلا أنني دومًا أتجاهلها. أكتشفتُ ذلك حين كانا يتركاني أبوي وحيدَا مع الخادمة، وحدث أنني كنت أرغب في المطالعة _أي مطالعة الجانب الخفي_وكانت تلك الخادمة أيضًا رغم كبر سنها إلا أنها كانت متلهفة أيضًا لكشف الجانب الخفي. في بادي الأمر كانت تجلس لجواري وأنا أشاهد أفلام الكرتون بحكم سنّي آنذاك، وتلتصق بي وأحيانًا تجلسني فوق ركبتيها واضعة خصرها يلامس خصري، كنت أشعر بشعور فطري جدًا هو أنني أشعر بنشوة عارمة! حين تضع يدها بين ساقّي، وكانت هي ترتعش وتغمض عينها، وتتوقف فجأة عن الرعشة ثم تواصل مجددًا، تكرر هذا الوضع كثيرًا، ومع التكرار كنت أنا أكبر وأفهم، وبدءت أنا أطلب منها أن تجلسني فوق ركبتيها، لحين طلبتْ هي أن تجلس فوق ركبتي وهنا أختلف الوضع، أصبحت أعاني من إدمان هذا الوضع الممتع، ولما تركت الخادمة المنزل، ظللت أبحث عن خادمة أخرى، أو عابرة سبيل، أو شحاذة لأجلسها فوق ركبتي!!. وهذه الآن هي النتيجة؛ وجود ليلي في حياتي أثناء أرتباطي ب "بزعفران" كان أمر طبيعي لكن أختيار الوقت والمكان هو من أوقعني في هذا.

_نظر الأب "يوحنا" ناحية الباب بعد أن عقد أصابعه؛ ففهمتُ وخرجتُ للشارع أتخبط في المارة، وكان ملاذي الأخير هو الشيخ "درويش" تقابلت معه وحاولت أن أحكي ما بداخلي؛ لكن لم يعطيني فرصة وقال : أنا ياأبني أعلم كل شئ! حكت لي "زعفران" وأخذني  وصعدنا لشقته.

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
5↓الكاتبمدونة غازي جابر
6↓الكاتبمدونة خالد العامري
7↓الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓الكاتبمدونة هند حمدي
9↑5الكاتبمدونة خالد دومه
10↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑19الكاتبمدونة منى كمال217
2↑16الكاتبمدونة يوستينا الفي75
3↑10الكاتبمدونة طه عبد الوهاب147
4↑10الكاتبمدونة وسام عسكر214
5↑8الكاتبمدونة عطا الله حسب الله137
6↑8الكاتبمدونة مروة كرم144
7↑8الكاتبمدونة سارة القصبي159
8↑8الكاتبمدونة عزة الأمير170
9↑7الكاتبمدونة اسماعيل ابو زيد62
10↑7الكاتبمدونة هبة محمد194
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1101
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب701
4الكاتبمدونة ياسر سلمي666
5الكاتبمدونة اشرف الكرم585
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري510
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني432
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين423
10الكاتبمدونة شادي الربابعة406

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب350407
2الكاتبمدونة نهلة حمودة205098
3الكاتبمدونة ياسر سلمي190157
4الكاتبمدونة زينب حمدي176669
5الكاتبمدونة اشرف الكرم138398
6الكاتبمدونة مني امين118824
7الكاتبمدونة سمير حماد 112619
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي103827
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين101184
10الكاتبمدونة مني العقدة98557

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة محمد فتحي2025-09-01
2الكاتبمدونة أحمد سيد2025-08-28
3الكاتبمدونة شيماء حسني2025-08-25
4الكاتبمدونة سارة القصبي2025-08-24
5الكاتبمدونة يوستينا الفي2025-08-08
6الكاتبمدونة منى كمال2025-07-30
7الكاتبمدونة نهاد كرارة2025-07-27
8الكاتبمدونة محمد بن زيد2025-07-25
9الكاتبمدونة ناهد بدوي2025-07-19
10الكاتبمدونة ثائر دالي2025-07-18

المتواجدون حالياً

545 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع