من فوقَ وِسادتين يستند إليهما وهو ينظر إلى الصورة المُعلقة أمامه والتي تمثل صورة زفافه على ابنة عمه، محاولًا الإمساك بتلك الصورة إذ يخيل له. أمسك "سعيد" علبة السجائر وأخرج منها واحدةٌ وغرسها في طرف فمه ثم أشعلها وأغمض العين التي تعلو هذا الطرف نصف إغماضه بسبب الدخان المتصاعد. مما جعله أشبه بأحد مجرمي العصاباتِ.
وبينما هو_هكذا_ يجتر أفكاره، غير آبه بالحياة، يداوم السعي والتَرقي، محاولًا فتح الباب للفراغ، يناشد البلوى بالكتمان وهو قابض على اليقين بالشكِ؛ كان جهاز التلفاز يبثُ الأغنية الأكثر ألمًا ولوعة من أي أغنية لعبد الحليم أطلقتها حنجرته. حتى "سعيد" الذي لم يكن عاطفيًا يومًا ما، تأثر حتى أحشاؤه وهو يستمع لهذا الأغنية.
وقتئذ ظهرت "فاطمة" كالوطاويط التي تنخر في مؤخرة الرأس عند الباب، بقميصٍ قطينًا أزرق وبنطلونٍ من الكتانٍ الأصفرِ.
وضعت فنجان القهوة من يدها فوق الطاولة، وهي تشدو وتُبدع مرددّةٍ كلمات تلك الأغنية الحزينة .
سألها "حسن" وكأن ساعة توقيت كونية كانت قد ظُبطت لإخراج سؤاله هذا:
_كم الساعة الآن؟
استغرقت "فاطمة" بعض الوقت قبل أن ترد. بدت كأنها تأتي من سفر بعيد على مهل، وبحركة بطيئة أكثر، راقبت وضع العقارب وقالت:
_يبدو أنك على موعد.... ؟ وأضافت بغمغمة: الساعة الآن الواحدة ظهرًا
لم ترَ "فاطمة" أي معنى ظاهر في سؤال "سعيد" وانتظرتْ أن يقول شيئًا آخر كعادته في يوم العطلة الأسبوعية له
" أنا مشغول اليوم، عندي موعد، أريد أن أسترح...."
صمتت "فاطمة" لحظات وهي تحدق به، مستندة بكوعها على حافة الباب، وإحدى يداها على خاصرها.
امتعق وجه "حسن" وأخذ يلعب بلسانه في جانبي فمه
بعد شعوره بأنه مراقب وأقرّ بأن في وقفتها هذه شيء من السخافة أو على الأقل من الصبيانية.
أثناء ذلك أطلقت الساعة المُعلقة على حائط الغرفة حركتين وأصدرت طنينًا، معلنة الواحدة والنصف ظهرًا، نهض "سعيد" من فوق سريره. وقف وراء النافذة ليستقبل ضجيج النهارات المتقيّحة. كان المنظر من خارج النافذة، أبيض مصبوغ بالرمادي، قد غطى الثلج كل ملامح البيوت، والشارع أصبح بلا هوية، والأمطار لا زالت تهبط بتماوجها المترنح من أعلى. تعمد "سعيد" أن يزفر أنفاسه خارج النافذة، وكأنه يريد أن تقيس برودة الجو بحواس يراها أكثر حساسية، قضي بعض الوقت يتملّى لوحةً مرسومة بتجاعيد الأمطار _في الحقيقة بدا سعيد بمثل هذا الجو _رفع ذراعاه لأعلى ليزيح الكسل عن جسده، وتابع بحركات إيقاعية مماثلة في كامل الجسد، تبدو للمرء كحركات رياضية، لكنها في واقع الأمر صادرة من جراء البرد القارس لهذا اليوم.
ارتدى ثيابه على عجل وألتقط معطفه الطويل لابسًا اياه بمهارة وسرعة، وبثلاث خطوات وجد نفسه أمام المرآة، يتفحص وجهه ويحملق بعيون ملتهبة وبؤبؤاه يحدقان في انعكاسه على المرآة. استدار مجددًا ناحية النافذة وبيدين معروقتين أزاح الستائر وراح يضحك ويهذي كالمجانين ملوحًا بيديه للنافذة المقابلة. أحسّ بأنفاس مُتقطعة على مقربة منه، استدار بحركة عفوية، وجد "فاطمة" تقف خلفه، وقد علَت ثغرها ابتسامة وادِعة لكن ماكرة.
ولأنها تعرف زوجها جيدًا، ولا تطمئن مطلقًا لخططه وألاعيبه، تقدمت ناحية النافذة، وأسدلتْ ستائرها بأصابع بردانة وراحت تتفرس في وجهه قائلة: يبدو أنك كنت تتأكد من أن السماء في موضعها الآمن.
تصاعدت أنفاس باردةٍ من فم "سعيد" واحمرت وجنتاه الغائرتان، فهذه إحدى المرات الكثيرات التي تتعمد فيها زوجته حرمانه من الوقوف خلف النافذة.
أمسك "سعيد" هاتفه :
_نصف ساعة وأكون هناك قالها "سعيد" بعد أن تأكد من خروج زوجته من الغرفة، ودون أن تشعر به، تسحّب خِلسة إلى باب الشقة.
الساعة الآن الثالثة ظهرًا، وبعد تناول وجبة الغداء، فيما "سعيد ونسمة" يتمشيان كأثنين عاشقين بين الأزقة والممرات، خلعت "نسمة" حذائها البني ودسته في شنطة يدها، وبعينين زائغتان وشعرٍ أسودٍ يشبه قطعًا من اللّيل، راحت تتمايل أمامه على قدمين حافيتين. وبيدين تفحَّان بريق وشهوة أدرعتْ بشالِها البني فوق رأسه وسحبته كالضحية إليها. تمطى "سعيد" وشعر بأن جسمه بحاجة لمزيد من الكافيين، دخلا للمقهى المقابل وجلس على الطاولة المجاورة لباب الدخول، ولم ينتظر "سعيد" إلا قليلًا، طلب من النادل فنجان قهوة سادة.
رفع فنجان القهوة بيديه، وتنشق رائحة البن القوية، وغب نفسًا عميقًا من الهواء المعبأ برائحة التبغ، تلفت حوله يمينًا وشمالًا، كانت جميع الطاولات في المقهى قد امتلأت بالرجال والنساء، وكان معظمهم من السياح، والمتقدمين في السن، ألتقط "سعيد" بفمه من علبة السجائر واحدة، وأشعلها. كانت" نسمة" تراقب حركاته، مُمسكة بيدها كوب من عصير البرتقال.
وما أن لبثت حتى قالت له: أشتاق لفنجان قهوة.
لأول مرة منذ أن تعرّف سعيد بنسمة _منذ عام على أقل تقدير _يسمعها تقول له: أنا أشتاق لفنجان قهوة. تعجب "سعيد" من طلبها هذا، لكن ازداد استغرابه حين طلبت من النادل فنجان دوبل.
تبسم لها قائلًا: أراكِ في تقدم!
أراكِ في تقدم" أعادت "نسمة كلامه وهي متعجبة وأردفت: تقدم؟ لأني طلبت فنجان قهوة، يبدو أنني آتية من العصور الوسطى. أمسكت" نسمة" الفنجان وقربته من فمها ومع أول رشفة تناثرت قطرات القهوة من فمها دفعة واحدة، كالتي تتقيأ شيء غير مرغوب فيه، وبعينين سوداوين تطقان شررًا من فرطِ الصدمةِ، وبفم عنكبوتي تنهدت نفسًا معلنة إحباطها، ضغط" سعيد" عينيه كمثقابين غائرين نحوها في حرجٍ بعد أن غض بصره عن قدميه اللتين كانتا يعملان كترسين مطاطين ، بينما هي تحدق خلفه، وأصابعها تجري بعبث على طرف الفنجان، استدار "سعيد" برأسه ليرى ما تنظر إليه؟
عينان مُبصرتان يحدقان في عينيه المطفأتين، وفم يرتجف ويَدُ تخلع من يَدَ ميثَاقً كان غليظًا
لم يكن "سعيد" يملك وقتها أية كلمات سوى الصمت!
صمت مطلق عميق، يفيض ندم وذلا. في هذا الصمت الذليل تسللت يد "فاطمة" تتحسس مكان الدبلة التي أسقطتها من اصبعها، فيما "سعيد" ولا زال ناكس الرأس مقوّس الظهر لم تٌطْرف له عينا بعد أن رأى زوجته تقف خلفه. أمّا الحاضرون جميعًا فقد تطلعوا مبهورين بعد أن حبسوا أنفاسهم. فيما" نسمة" وقد شهقت شهقة خرساء وسرت برودة في أطرافها، وتسمرت قدميها الحافيتين. بينما "فاطمة" وهي لا تزال تحملق في زوجها ومع فعله بها من خيانتها مع أقرب صديقة لها. استدارت "فاطمة" دون أن تعاتب أحد، اكتفت بدهس الدبلة تحت حذائها.