صارت أمى كالمجنونة تبحث هنا وهناك إختنقت الكلمات بحلقها فخرجت متقطعة:
-دور معايا يا محمد..الورق بتاع أبوك فين؟
قلت لها مترفقا:
-يا أمى إهدى شوية ..يعنى هيكون فين؟لما أرجع من الجامعة أدورلك عليهم
قالت وفزعها يتنامى:
-أنا لسه هستناك..دا أبوك هيطين عيشتنا
واعتكفنا أنا وإخوتى على البحث خوفا من بطش أبى
بكت أمى بحرقه والدموع تحرق وجنتيها:
-ياولاد دوروا كويس دا ورق مهم
-حتى لو مش مهم هنتبهدل زى كل مرة
هكذا ردت أختى الصغيرة
وبعد ساعات من البحث المضنى وجدنا الأوراق
إلتقطت أمى أنفاسها
-الحمد لله..الحمد لله
هكذا كانت دائما ترتعب من كل شئ يخص والدى.إزدرد أخى ريقه بصعوبه وبصوت مرتعش قال:
-الحمد لله..احنا مش ناقصين كل يوم خناق ونكد
عشنا سنوات من العراك والغضب الجامح الذى نتلقاه من أبى ولانعرف له سببا واضحا
لما يكره أمى إلى هذا الحد؟ولما هو قاسي علينا لا يحنو ولا يرق؟
أسئلة كثيرة كانت تخامر أذهاننا لسنوات ولانعرف لها إجابة واضحة إلى أن اكتشفت شيئا غريبا فى تلك الليلة المشئومة..عندما إستيقظت فى منتصف الليل وسمعت أبى وأمى يتحاوران بل يتشاجران وأصواتهما تشق سكون الليل تتسلل من فتحات الأبواب والنوافذ ..أسمع ثرثرة وبكاء وعويل وكلمات غير مفهومة..أثار الفضول شغفى،وقررت النهوض والتوجه خلسة تجاه غرفتهما لفك طلاسم ورموز تلك الكلمات المبعثرة المبهمة
-انتى السبب
-لا
-أفكرك ياهانم
-والله ماليا ذنب...ماتفتحش فى القديم..مش كفاية قطعتنى منهم السنين دى كلها
كلمات تكررت كثيرا ولم أعرف لها معنى ..السبب فى ماذا؟ وماهى الحكاية القديمة التى دمرتنا جميعا ؟ ولما أبى يمنع أمى ويمنعنا من الاختلاط بأهلها
هكذا سألت نفسي،واقتربت أكثر لأعرف الإجابة وأشبع رغبتى فى الاكتشاف لأجد سببا واحدا مقنعا لما يحدث لنا طوال تلك السنوات؟لما نتجرع المرارة ونكتسي بالحزن ؟ لما لانعيش فى سلام كبقيه البشر؟
وظللت أفكر وأبحث لأيام عن دليل أو اشارة أو حتى معنى لما سمعته..لكن دون جدوى
إعتدت متعمدا السهر كل ليلة أتنصت لكل همسه وكل حرف ترقبا لمعرفة المزيد وأثناء شجارهما المعتاد أثارت تلك الكلمات الشك بداخلى
-يا أخى حرام عليك بقي..إنت مش هتنسي أبدا
-عمرى ماهنسي اللى عملته فى أخويا ..إنتى أكيد زيها
-كفاية ظلم.. حرام عليك..آهى ماتت وارتاحت منكم
إزدادت حيرتى
من هى؟ أهى جدتى لأمى التى توفاها الله منذ أعوام بعيدة ؟وماعلاقتها ب عمى وأى عم من أعمامى ،وماذا فعلت به بالضبط؟
مرت شهور وأنا أحاول البحث عن اجابة ..كلما سألت والدتى لا أجد إلا الصمت ولاتجيبنى سوى دموع عينيها الغزيرة المتلاحقة ..صمتها المخيف كان يزرع الشك بداخلى أكثر
-أمى ليه أبويا بيكره أهلك؟جدتى عملت حاجة معاه أو مع حد من أهله ؟؟
تنظر أمى بوجه بائس ترتسم به كل علامات الحزن والتوسل ،وكأنها تقول :إرحمنى ..يكفى ما أنا فيه
أستشعر كل يوم بمدى ماتعانيه من ذل وانكسار وحسرة ..على شئ لم تفعله ..شئ لا أفهمه..الناس تغضب تثور تحكى تعبر عما بداخلها من سخط واعتراض ..لما لاتعترضى يا أمى ؟ لما لا تثورى وتغضبى ؟ لماذا تعيشي وترغمينا على العيش معك داخل كم من علامات الاستفهام والألغاز؟
لقد حفر الزمن الهموم بداخلك واستوطن الحزن بقلبك..لما عيونك مليئة بالإنكسار ؟ فأنتى دائما مكسورة وحزينة..أفصحى لنقف بجانبك لنتحمل عنك ونعيد لك كل حقوقك المسلوبة ..صوتك المكسو دائما بلذعه الألم والشقاء يثير بداخلى الرغبة لمعرفة المزيد..أهملت دراستى وعافت نفسي كل شئ الكلام.الخروج.حتى الطعام والشراب
أسهر ليلي كله أبحث عن كلمة أو تفسير وأنام النهار لا أطيق النظر لأحد. تعلقت بأمى تلك الفترة وكأننى عدت رضيعا..لايشغلنى سواها .أراها دائما فى كل شئ ..لا أتمنى فى الحياة سوى أن تخرج من صمتها الذى كسر نفوسنا وأطاح بنا جميعا ..دافعى عن نفسك يا أمى أخبرينا فلم نعد صغارا..لكنك تصمين أذنيك وتغلقى عينيك عنا تظنين أنك تحمينا ..لا بل أنتى تقتلينا تذبحين كل آمالنا بالحياة تفرضين علينا الذل والإهانة وترغمينا على القبول كما قبلتى أنتى منذ سنوات..عندما أعرف سأثور عليك.ربما يكون السبب أتفه مما تظنين ولايستحق كل تلك المعاناه ..هل والدى يشك فى سلوك جدتى ؟لما قال إنتى أكيد زيها؟ تمر الكلمات بعقلى وتأتى غيرها وتعود لتمر نفس الكلمات وتدور وتلف وتأتى غيرها وعقلى المسكين لايتحمل .
هل أذهب إلى خالى عمر ؟نعم..وأخيرا أضاء عقلى العقيم وأنار بتلك الفكرة ..فعلا خالى عمر هو الوحيد الذى يزورنا ويتصل بنا سرا خوفا من غضب أبى ،وعلى الفور ذهبت إليه وسألته عن جدتى وعلاقتها بوالدى وعائلته ولم ألحظ فى كلامه شئ يثير القلق
-عادى ..كانت علاقتها عادية بيهم
هكذا قال وعدت وسألته بلهفه
-عادى ازاى ؟ يعنى كانت بتزورهم ؟
-تزور إيه ياابنى ..جدتك كانت مريضة جدا لما أمك إتجوزت أبوك..لا كانت بتشوف ولا بتسمع ولا بتتكلم مع حد
دارت رأسي وعدت بخفى حنين ..سيدة مسنة لاترى ولاتسمع ولاتتكلم كيف لها أن تكون ....لا..لا..أستغفر الله العظيم ..إذن من هى
وتعود الكلمات تدور فى عقلى :
-إنتى زيها....انتى زيها
من هى؟ إنطقى يا أمى وماذا فعلت لتقلب حياتنا إلى جحيم
تزدادحيرتى وأزداد حنقا وغضبا للجميع أبى إخوتى أصحابى حتى أمى ..ها أنا أوشكت على بغضك أنتى أيضا
سأترك البيت وأهرب ..أذهب لأى مكان لعلك ترتاحين يا أمى وتتمتعين بصمتك وتسعدين بالذل والانكسار وتذلين من تشاءين معك إلا أنا سأثور حتى عليك..سامحك الله يا أمى ،وأعددت حقيبتى وجمعت كتبى وملابسي وأدواتى فأنا فى السنة النهائية بكلية الهندسة ..لا سامحك الله يا أمى ..ستضيعين مستقبلى ومستقبل إخوتى جميعا فالجميع سيعلمون يوما ما وسيلحقون بى ليهربون من سجنك وظلم أبى ،وقررت المغادرة ليلا وأثناء تسللى على أطراف أصابعى فى الظلام سمعت الشجار المعتاد ..فلم ألقى بالا ،وتطورت إلى الضرب..هكذا أنتى رضيتى يا أمى إنعمى بالعذاب تحملى لآخر عمرك .فقد قسوت عليك وفقدت بسببك كل ذرة حنان كنت أدخرها لك ..أبى مازال يضربها بعنف وصراخها يتزايد ..لا أنا لا أسمع شيئا .كذلك أوهمت نفسي ولما يشغلنى ذلك فأنا ذاهب على كل حال..أمى تصرخ:
-أنا ذنبى إيه؟أتعاقب سنين على اللى عملته أختى
إستوقفتنى تلك الكلمات .ألقيت بحقيبة السفر وهرولت تجاههم لأسمع أكثر وأكثر
صاح أبى:
-أختك خانت أخويا وهربت مع غيره
ذهلت لما أسمعه وحدثت نفسي
-أختك!! أنا لى خاله..أين هى؟
وعلى الفور إقتحمت الغرفة لأدافع عن أمى وأخلصها من بين أيديه وأنا أصرخ:
-كفايه يا بابا هتموتها..كفايه
قال أبى بحنق شديد :
-انت إيه اللى جابك؟
نظرت إلى أمى وسألتها بشغف:
-أمى..مين أختك وعملت إيه؟ أمى ..إتكلمى..اتكلمى
وأخيرا نطقت أمى بعد ما طفح الكيل:
-أختى كانت متجوزة عمك عزت وقالوا انها خانته وهربت وبعدها ماتت فى حادثة
-أمى..كل ده بسبب أختك؟!
وهنا ثار أبى:
- إخرسي..انتى زيها
وهنا وقفت لأبى وأمسكت بيده قبل أن يهوى بها على وجه أمى وصفعنى أطرحنى أرضا وصرخت أنا :
-اهربى ..اهربى يا أمى ..دافعى عن نفسك
طارت أمى إلى المطبخ يتبعها أبى كالمجنون
إستيقظ اخوتى فزعين من نومهم وهرولنا جميعا خلفهم استشاط غضبا وقام بضربها بقسوة حتى ارتطم رأسها بحوض المطبخ وسقطت مضرجه فى دماءها وتركنا ونزل جلسنا بجوار أمى والهول والرعب يتملكنا لاندرى ماذا نفعل نضع على رأسها البن ولكن الدماء غزيرة فاتصلنا بخالى وقولنا ان أمى سقطت وارتطمت بالحوض وأبانا غير موجود خوفا من أبى ومن بطشه حضر خالى على الفور ونقل أمى للمستشفى وكانت الصاعقة توفيت أمى متأثرة بجراحها ماتت والمرارة تملأ حلقها
تمت بحمد الله