يأخذ نفسًا عميقًا، كي يستطيع أن يُدخل ذلك الزر العنيد في عروته بعد عدة محاولات فاشلة؛ ينجح هذه المرة وتنفرج أساريره، يتنهد بارتياح، فيتمدد كرشه الدائري، ليطير الزر في أقصى الغرفة. ليتني ما تنفست بسرعة هكذا، ما باليد حيلة، مضطر أن أشتري قميصًا جديدًا، ربما يطرق الحظ بابي بعد أن خاصمني كل تلك السنوات.
يخرج من غرفته يقف أمام تلك المرآة التي تُظهر جسده كاملاً ويتعجب!
منذ متى عندي كل هذا الكرش؟! لقد كان عندي ( سيكس باكس) هيه أيام، لابد أن قيادة التاكسي ما فعلت بي ذلك، لا ربما أكل الفول والفلافل كل يوم، وهل لنا غيره؟! لقد انتفخت معدتي من الفول وماء الطرشي، لو كنت آكل… ماذا؟ ما هذا؟! منذ متى بدأ شعري في السقوط؟
يتحسس رأسه بحسره، ويقرر أن يعتني بنفسه، وربما يذهب للطبيب، لكن بعد أن ينتهي من سداد أقساط زواج أخته الصغرى التي قصمت ظهره، لكنه مرتاح البال أنه أنهى المهمة التي كلفته أمه بها قبل وفاتها وزوّج أَخواته الأربع، رغم أنه تجاوز السادسة والثلاثين دون زواج، ينظر لصور والده ووالدته المعلقة بجواره على الجدار،
أرجو أن تكونا راضيان عني، رغم أني مازلت أعاني من اختيارك لي يا أبي، رحمك الله صممت على أن أدخل كلية الألسن وأدرس اللغة الروسية؛ فقط لأنك كنت طباخ عبدالناصر وذهبت معه إلى روسيا، وشكرك الرئيس الروسي على طهيك الجيد، ولم نرى منه أو من عبدالناصر غير ذلك. وتحملت أنا تبعات اختيارك، فعندما عملت في السياحة ضُربت، تركتها وطرقت أبواب الترجمة، لكن بلا جدوى، لا أحد يترجم للروسية. ليتك تركتني أدخل قسم اللغة الإنجليزية، كنت سأصبحت من أصحاب الحسابات البنكية لو عملت في التدريس، الدروس الخصوصية يا أبي نهرًا جاريًا من الأموال. لا تغضب مني أنا فقط أفضفض لك، ولا تقلق عليّ ربما يفتح لي الحظ بابه غداً في تلك المقابلة.
يفتح محفظته ليَعد ما بداخلها.
_ أعتقد مئتا جنية كافيتان لشراء قميص جيد، ويتبقى معي خمسون جنيهًا لشراء زجاجة عطر فاخرة. لا سوف أشتريها بسعر أقل لأوفر ثمن حلاقة شعري، رغم أن الحلاق أصبح يتذمر من العشرين جنية، لولا أني أشتري له بعض المستلزمات أحيانًا من وسط البلد، لقص رقبتي بدلاً من شعري، معه حق عنده كومة من اللحم يريد أن يربيها، بل أكوام من اللحم، ابنه الصغير يزن نصف طن وحده.
يبتسم ابتسامة الموجوع..
_ الحمد لله أني لم أتزوج وأحمل نفسي عبئًا على عبئي ..
يستمع إلى الإذاعة كعادته وهو في طريقه إلى المقابلة، أَزعجته الأخبار التي تشي بنشوب حرب بين إيران والسعودية بعد ذلك الصاروخ الإيراني الذي سقط بالقرب من الحدود السعودية، يهش الفكرة من رأسه، فذلك ليس وقت للسياسة الباردة.
_اليوم لا وقت للانزعاج من شئ.
يركن سيارة التاكسي بجوار الرصيف، ينظر في مرآة السيارة نظرة رضا عن شعره الذي غمز الحلاق بخمسة جنيهات زيادة من أجل ضبط القَصة، ينزل من السيارة وهو يُعدل من هندامه ويمسح حذائه بمنديل ورقي بعد أن مسح وجهه اللامع فيه، لطالما امتلك بشرة دهنية تلتهم الغبار التهاما، وضع نظارات شمسية رديئة الصنع كان قد استعارها من صديقه الوحيد الذي أقسم عليه أغلظ الأيمان أن يحافظ عليها لأنها غالية جداً عليه، إنها هدية من حبيبته الخامسة التي لا يذكر اسمها..
مالها أظلمت هكذا؟! يا ابن ال…. وتقسم أنها من النوع الجيد! لا أكاد أرى كيف أعبر الشارع من نظارتك، أمري لله سوف..
اااااااااااه ..(يصرخ وهو يمسك رجله)
تنزل مسرعة من سيارتها، تميل عليه لتطمئن على حالته، ينسى رجله، وينظر لها كالأبلة من شدة جمالها، تتلعثم وهي تسأله: هل هو بخير ؟ يفهم أنها ليست عربية، يخبرها بالإنجليزية أنه بخير فترد ويبدو أنها لا تتقن الإنجليزية أيضًا..
_(مــســتشــفااا ) تنطقها بصعوبة كأنها تسأله أن تصطحبه للمشفى، يجيبها أنه بخير وأن الأمر لا يستحق، تخرج بعض المال من سيارتها وتناوله إياه، يرفض بشدة، ويتركها ويرحل على عجل..
يجلس بقاعة الانتظار الفخمة بذلك النادي الرياضي الشهير الذي اشتراه أحد رجال الأعمال الذي بالرغم صغر سنه، قفز تلك القفزة التي جعلته من أهم الرجال في البلد، وإن لم يكن في العالم العربي كله، لا أحد يدري بالضبط مصدر تلك الثروة الضخمة التي تكونت في عدد أعوام لا يتعدى أصابع اليدين..
ينظر لصورة رجل الأعمال الشاب المعلقة في كل حائط رآه مذ دخل النادي ..تبدو في مثل سني تقريبًا، أيها المحظوظ، ناس لها نادي ملك وناس لها تاكسي باليومية، ماذا يميزك عني لتمتلك كل هذا؟! وبالكاد أملك قوت يومي، لم أسمع أنك تخرجت من أحد تلك الجامعات المرموقة أو أنك ذو عقليةٍ فذه، أو أنك سليل الحسب والنسب الذي ورث ما يعينه على شراء تلك المصانع الضخمة، أو هذا النادي وغيره .. يقطع عليه حبل أفكاره ذلك الصوت الرخيم لتلك الحسناء وهي تقول له تفضل جاء دورك، يسابقه التوتر في الدخول إلى ذلك المكتب الذي لم يرى مثله ولا حتى في الأفلام والمسلسلات، وإذ به يتفاجئ مفاجأة عمره..
هل هذه هي؟! إنها هي بالفعل، تُرى ما الذي تفعله هنا؟ ربما كانت زوجة صاحب النادي! أو زوجة أحد أعضاء مجلس الإدارة، أو ربما كانت هي نفسها عضوة بمجلس الإدارة، لا لا بالتأكيد هي زوجة صاحب النادي…
كل تلك التساؤلات دارت في رأسه خلال الثواني المعدودة ما بين دخوله من باب المكتب ووصوله للكرسي المعد له للجلوس عليه، بادرته بابتسامة مُطَمْئنَة، قبل أن يسمع صوت ذلك الشخص الذي لم يلحظ وجوده إلا عندما سأله عن سيرته الذاتية وبعض الأسئلة المتوقعة في مثل تلك المقابلات، ثم قال له وهو يغمز بعينه:
أترى تلك الجميلة؟! أرني كيف تجري معها حوار بالروسية، وتثبت لي أنك شاب مصري أصيل وتنول رضاها…
تلعثم بشدة، وطاشت الحروف من رأسه (ماذا يريد ذلك الملعون بالضبط، وما تلك المقابلة العجيبة، لماذا يختبرني بتلك الطريقة؟! علّه يريد الاطمئنان فقط)
لاحظت شروده؛ فبادرته هي بسؤاله عن اسمه، وانتهت بعد عدة أسئلة مماثلة كانت سهلة بالنسبة له..
بعد عدة أيام لم تكن الدنيا تسع فرحته؛ بعد أن جاءه ذلك الاتصال الذي يخبره أنه تم قبوله بالوظيفة الجديدة بالنادي، ذهب للنادي للمرة الثانية والآلاف من الأحلام والطموحات معلقة على أكتافه، توقع أن يراها في النادي، لكن خابت ظنونه، جلس معه رجل آخر ذو وجه تحمل قسماته صرامة رجال الشرطة، أخبره أن وظيفته هي الترجمة التي ستقتصر في الوقت الحالي على الإيميلات، والترجمة لأي زائر أو مدرب روسي يُدعى إلى النادي، خاصةً أن صاحب النادي سوف يأخذ الفريق كله احتفالاً بوصول مصر لكأس العالم، لحضور المونديال بروسيا على نفقته الخاصة، وأنه سوف يكون المترجم الوحيد لهم هناك، وألقى له ببعض الكلمات المتوارية أن معظم اللاعبين يريدون التعرف على روسيا والجمال الروسي (وهو يرسم منحنى انثوي بكلتا يديه حتى أن هيبته وصرامته تبددت في تلك اللحظة).
كاد يرقص عندما علم مفردات مرتبه الذي لم يكن في الأحلام، لكن صرامة ذلك الرجل الذي لم يعرف من هو بعد أرجعته لعقله…
مكتبٌ رائع له وحده، شاشة كمبيوتر أمامه وشاشة تلفاز ضخمة معلقة على الحائط، بريد الكتروني واحد مطلوب منه ترجمته، لم يستغرق الكثير من الوقت في ترجمته، فبالرغم من كرهه للروسية إلا أنه كان يتقنها جيداً، فتح التلفاز ليُضيع الوقت حتى موعد انصرافه من النادي، قنوات معظمها روسي مصفوفة خلف بعضها، ابتسم ابتسامة رضا، هؤلاء الناس يعلمون شغلهم جيدًا، قناة روسية تعرض خطاب للرئيس الروسي، يعتدل في جلسته ويتذكر أباه الذي طالما أحب أي شيء يخص روسيا كي يحكي حكايته مع الرئيس الروسي التي حكاها مئات المرات بنفس الفخر، تُفاجئه لهجة الرئيس الروسي المحذرة للملك السعودي، وإعلانه دعمه الكامل لإيران في حال فكرت السعودية في أي خطوة متهورة على حد قوله…
مرتب شهر مقدم استلمه من مدير الحسابات في يومه الأول من العمل، رغم أنه لم يتبقى إلا اسبوع واحد على بداية الشهر الجديد، حالما يجهز كارت الائتمان الخاص به...
يبدو أنها ستلعب أخيرًا؛ بركاتك يا أبي فلتحيا اللغة الروسية، إنه مبلغ كبير حقاً سوف أشتري بدلة تليق بعملي الجديد، وربما حذاء بدلاً من ذلك المهترئ، سوف أملأ ثلاجتي بالطعام وأُلقى بعُلب الجبن التي استعمرت الثلاجة منذ زواج أختى، لا جُبن بعد اليوم، ولكن أولاً سوف أذهب لمطعم محترم لأضمد جراح معدتي ببعض حساء اللحم والكباب والكفتة، ثم أدللها بطبق حلوى فاخر…
يتناول الطعام على مهل، ويمضغ بتأنٍ واضح، كي يستمتع بكل مضغة حُرم منها طويلاً، طلب كوبًا من الشاي لا متسع له في معدته، لكنها عادة تربينا عليها نحن المصريون نأكل ثم نحبس، ولا ندري ما الذي يُحبس بداخلنا غير الهموم والضغوط، انتبه لنقاش دائر بين شخصين على المنضدة المجاورة له، يرجحون دخول السعودية في الحرب خاصةً بعد خطاب روسيا المتجاوز، هز رأسه نافياً ودخل معهما في الحوار، أن السعودية لا قبل لها بتلك الحرب، فرد آخر أن مصر لن تترك جارتنا وحليفتنا وحدها خاصة أننا نمتلك أقوى جيش في المنطقة...
عاد لبيته محملاً بالكثير من الحاجيات المنزلية، وبدلة وحذاء جديدين، ألقى بنفسه على السرير لأول مرة وهو يشعر بالراحة رغم تعبه في الدوران في المحلات كي يحصل على أرخص سعر للبدلة التي تفاجأ بسعرها المبالغ فيه خاصةً وأن معظم المحلات تعرض الموديلات التركية باهظة الثمن، طار المرتب كالهواء، لم يتوقع ذلك لكنه مطمئن لأنه سيمتلك مثله أول الشهر الذي لم يتبقى على وصوله غير اسبوع…
اسبوع فقط مر تعرف خلاله على معظم اللاعبين الذين يمازحونه دومًا أنه تذكرة مرورهم لقلوب الفاتنات الروسيات، حتى أن بعضهم أحضر له الهدايا، ود لو رأى تلك الفتاة الروسية مجددًا ليشكرها التي علم من أحدهم أنها راقصة روسية تعمل بأحد الملاهي الليلة في شارع الهرم، وهي التي رشحته دونًا عن كل المتقدمين لنيل الوظيفة، دخل عليه أحد سعاة النادي يخبره أن صاحب النادي الذي لا يزور النادي إلا فيما ندر يريد رؤيته، أحس بالاضطراب من داخله، وذهب مسرعًا، سلم عليه بود وسأله بعض الأسئلة عما إذا كان متزوجًا أم لا، وإذا كان مرتاحًا في عمله، وإذا كان المرتب يكفيه أم لا هو شاب ويعلم المصاريف، والغريب أنه مازحه في نفس موضوع فتيات روسيا وأنه يريد منه أن يشتري ملابس جيدة تليق بالحدث وأمر له بمكافأة خاصة لهذا الهدف، خرج من عنده وهو مغتاظ فلأول مرة يتأكد من هدف وجوده في النادي، إنه اصطياد الروسيات….
ماذا تظنونني أيها الحمقى؟ قوادًا! هذا ما تريدونه ولا معنى آخر لها؛ فما أقوم به من عمل لا يستحق مترجم خاص ولا رصد هذا المرتب الضخم له، أأترك العمل، وماذا أفعل بعدها؟ أعود للتاكسي والإجهاد والملاليم كل يوم، عاد لبيته والأفكار السيئة تراوده عن نفسها، حتى غرق في النوم..
لم يكن علم بالأمس عن الصاروخ الذي وجهته إيران للحدود السعودية مجددًا، وأن السعودية هي الأخري ردت بصاروخ دمر أحد طائرات الجيش الإيراني التي اعتادت الطيران على الشريط الحدودي للسعودية في الآونة الأخيرة كنوع من اجترار المشاكل، وها هي حدثت بالفعل، كان يومًا ساخنًا، خطابات ورسائل من معظم قادة العالم وُجهت للجارتين، كان أهمها الخطاب الأمريكي الذي دعم الحق السعودي في الرد على الاعتداء الإيراني، ونظيره الروسي الذي أعلن صراحةً الوقوف جنبًا إلى جنب مع حليفته إيران، وآخرها الخطاب المصري الذي أعلن تضامنه الكامل مع الجارة الأخت السعودية، بل أعلن بدء تأهب القوات المصرية على الحدود السعودية للتدخل في أية لحظة لنصرة العربية الشقيقة ضد العدوان الشيعي الغاشم، في إشارة واضحة منه للتحزب الديني بين سني وشيعي في العالم العربي، انقسم العالم أجمع بين مؤيد لتلك ومؤيد لتلك، حرب عالمية ثالثة وشيكة ،المجنون الكوري أدلى بدلوه هو الآخر، هو دومًا في الجانب المعادي لأمريكا حتى في حرب لا ناقة له ولا جمل فيها..
قرار عربي موحد بعدم الاشتراك في أي تجارة أو حدث عالمي تشترك فيه إيران وروسيا، وبالتالي تعليق اشتراك الدول العربية في كأس العالم..
ياله من اسبوع! ما حدث فيه لم يحدث في عشرات الأعوام، بدأ الضرب بالفعل بين العدوتين، بل إن المصريين يقفون في الخطوط الأولى للمواجهة على أراض لا يعرفون عنها شيئًا، جدلٌ واسع بين صفوف الشعب بين مؤيد لاشتراكنا مع جارتنا باسم العروبة والدين، وبين رافض دخولنا في معترك لا يخصنا، كل يوم تشابك بالأيدي بين المصريين وأنفسهم على القهاوي وفي الأسواق والأتوبيسات، يفضونها أحيانًا وحدهم، وأحايين لا تُفض إلا بقوات الشرطة.
كان يراقب كل ذلك من بعيد لا يميل لقرار اشتراكنا في تلك الحرب منذ البداية، ويتساءل ما ذنب هؤلاء الشباب الذين أُقحموا في حرب لا تعنينا، بل الأعجب من ذلك أنه يرى الكثير من الشباب يذهبون للتطوع في الجيش والذهاب للحرب، حتى علم بأمر المبالغ الضخمة التي يتقاضونها هناك، إنه باب رزق لمن لا يجد عمل من الشباب، وهو كأي عمل آخر محفوف بالمخاطر، وإن مات أحدهم سيموت شهيدًا مثلما يقولون، وبالتأكيد سيتقاضى أهله مكافأة كبيرة، وربما يطلقون اسمه على أحد المدارس أو الشوارع…
كان قد أدرك التغير الملحوظ في تعامل إدارة النادي له، وأهب نفسه لاستقبال قرار فصله، حتى جاء اليوم الذي قرر مدير النادي إخباره أنهم لم يعودوا في حاجة لعمله بعد وقف المشاركة في كأس العالم والذهاب للعدو روسيا بل ووقف النشاط الكروي بشكلٍ مؤقت، خرج من النادي بوجهٍ فاتر، عاد لبيته مسرعًا، لملم بعض الأوراق من الدرج، أخذها وخرج بنفس السرعة.
يقف أمام منطقة التجنيد التابع لها، ينظر نظرة تأمل المقامر الذي يلعب بآخر ورقة يمتلكها...
أريد أن أتطوع للذهاب للحرب…