تصبح الحياة القاتل الحقيقي للأحلام عندما تسير بالمرء على خط مستقيم، لا جديد يذكر سوى الزهد في الإِقْبال على الأحلام التي تقتطعها الأيام المتكررة، الدقائق والساعات حتى الأشهر والسنوات تتشابه أحيانًا فتصبح عبارة عن فيلم بائس متكرر دون ملل من مشاهده، لكنني منذ صغري متمردة أصوب إرادتي نحو ما لا أمتلكه أو ما لا يسمح لي به، فيصبح رفيق رأسي على وسادتي كل ليلة، ثم أشرع في اللهث خلفه بالنهار ولا أهنأ إلا بعد تذوق حلاوته، ورغم خسارتي الجسيمة الناتجة عن أحلامي وفيضانات تمرداتي لم أُخطئ سوى في إخفائي لتلك الأحلام وعدم مصارحة أمي بها، ويبقى عتابي الوحيد لنفسي أنها لو سمعت بما أحلم لعاونتني به بالقدر المتاح لنا بالطبع، الآن وبعد أن زَخَرَت زَكيبة تمرداتي بما بها أواسي نفسي أن السير في الخفاء هو ما زاد الأمر حماسًا.
وأفضل تمرد قمت به هو أنني تمردت على حياتي ككل، على مدار مراحلها كاملة كل مرحلة بها كان لي هدف أصيبه بلعنة عصياني فيتم سحقه أسفل أقدام حالة الملل التي لا تنفك عني، إلى أن وصلت إلى محطة الحافلات، أتمتع بكامل حريتي خارج نطاق أنظار أبي ومعلمتي الشمطاء، ودعوات أمي بالسداد والصلاح تطوقني.
**
منذ خمسة عشر عامًا من الآن أي في منتصف المرحلة الابتدائية بدأ إدراكي لرتابة الأيام؛ فقررت التغلب على ذلك الشعور الذي يصيب روحي بالشحوب؛ فكنت من حين لآخر استيقظ مستجلبة الدموع إلى عينيَّ الناعستان وارسم تشنجات وجهي الكاذبة حتى إنني كنت أصول وأجول بوجهي قرصًا ولطمًا على وجنتاي كي تتلونا بالأحمر وترتفع درجة حرارتهما؛ فتظن أمي أنني أعاني من التهاب الحلق أو التهاب الأذن الوسطى، أي منهما تختار هذا يعتمد علي مدى قسوة يدي على وجهي.
ومتى فشلت كل محاولاتي كان الجيران يشتكون من الضوضاء المنبعثة من صراخي المدعي لألم المعدة فتقول أمي "نامي يا صغيرتي برد البارحة لم يكن هين، يبدو أن معدتكِ تحسست مره أخرى" عندما كنت أزعم هذا الوجع ما كنت أتطلع التخلص من ساعات المدرسة الثقيلة على روحي فقط وإنما أكون قد اشتهيت كوب من الأعشاب الدافئة يتبعه صحن من حساء الخضروات و قطع من لحم الدجاج التي تسبح به، متوج بدلال أمي وسيل من قبلاتها على جبيني، حدة أبي في التعامل معنا كانت تعكر صفو ذلك المشهد حين تتلقي منه أمي كلامه اللاذع " تفرطين في دلال ابنتكِ، والبنات لابد وكسر ضلع لهن لا كسرهن لكلماتنا" كان يقول كل مرة تنجح بها خطتي في التملص من الذهاب إلى المدرسة، وكأن لديه حدس يخبره بحقيقة آلامي المفتعلة.
استمر بي الحال على هذا المنوال إلى أن اكتشفت ميول أخرى تتأجج بداخلي في المرحلة الاعدادية، المرحلة الانتقالية في حياة كل فتاة، وصار التطلع لمجاراة أشباه النساء أو من يقفون على حافة الأنوثة الغير لائقة بهن ومازالت كشوف المراهقات تمتلئ بأسمائهن شغلي الشاغل، فبتّت أعتمد التنانير الضيقة التي ترسم باحترافية منحنيات مستجدة تبزغ بجسدي، وترك الحرية لبعض من خصلات شعري أقضي الليل كله في تمليسها لتنساب خارج حجابي، الابتكار في مزج ألوان طلاء الأظافر التي تتزين بها أصابعي كان أكثر ما أجيده بتلك الفترة، بالرغم من التقريع الذي كنت أتلقاه من قبل الأخصائية الاجتماعية بالمدرسة بالرفض التام للحضور بأية مظاهر للزينة وأن هذا الأمر يتنافى مع قدسية المدرسة، ويا حبذا لو سنحت لي الفرصة وسمحت أمي بالخروج للتنزه أثناء غياب أبي بالعمل، فكان بنطالي ذو الأرجل الواسعة والضيق باستفزاز صريح من عند الخصر والفخذ يقوم بدور هام، حينما أسير بتقصَّع أجتذب أنظار اليافعين الملتصقين بناصيات الشوارع، وأنتشي فرحًا حين ألتقط نظرات مرتادي المقهى المجاورة لمنزلنا المحدقة بي، هذا ما كانت تصوره لي نفسي الأمارة بالسوء؛ من كان ينظر لطفلة شتان بين جسدها وبين الأنوثة، والطامة الكبرى أنها ابنة عقيد بالجيش.
مصير هذه الفترة من حياتي كان كمصير حياتي كاملةً، تجربة الشيء بولهة في البداية ثم زهده عندما تعافه نفسي، أو إدراكي أن تخطي مرحلة عمرية ما بتفكير يفوقها سننًا وخبرة تفتقر لهما بأفعال يغلفها التهور، لا يجلب سوى أخطاء كارثية بحق النفس وأحيانًا بحق الجسد.
أصبحت لا تستهويني الملابس الجاذبة للأعين أو اتباع صيحات الموضة بين الفتيات، ووجدت روحي تميل للسكينة والنضج المبكر، حين وقفت على أعتاب السادسة عشر وبزغت بقلبي أحلام وددت تجربتها كي أضيف بعض الحياة إلى حياتي المشعة بملل الأيام المتشابهة، وكان الاستئذان من المعلمة بذريعة مرض أمي المفاجئ أو ذهاب والديَّ لزياره أقربائنا في المحافظة البعيدة حجة لي في المرحلة الثانوية كي أنصرف قبل الموعد بساعتين أو ثلاث، حيلة وجع المعدة وآلام الأذن لم تكن محبذة فالاعتياد على أمر متكرر يصيبني بالاختناق.
تلك السويعات القليلة كانت الهدف الذي أعيش من أجله طوال الأسبوع؛ وكأنني أنال مكافأة لي على أخلاق حميدة لم أكن أتحلى بها، وصوت خفيض مهذب لم يكن من حسن خلقي بل ميلي للعزلة جعلني أنفر من مشاركة من حولي في الحديث، صمت تام كنت أمارسه طوال الأسبوع أفكر أين أذهب حين أطلق العنان لقدماي كي تسيران بالطرقات؟ والحال أنني كل مرة كنت أجدني في نهاية المطاف أقف بمحطة الحافلات أحملق بداخل العربات، أراقب المسافرين إلى بلاد لا أعرفها ولم تجرب قدمي خشونة طرقاتها، وعند الواحدة كنت أتحرر من النفس الأمارة بالسوء التي توسوس لي بكلامها المعسول "ماذا سيحدث إن جلستِ على أحد هذه المقاعد وذهبتِ مع الذاهبون في رحلة ذهاب وعودة، منها تجربة شيء جديد ومنها كسر رتابة الأيام" لكن الخوف من التأخر دقيقة واحدة على أبي الذي يحكم البيت كما يحكم كتيبته في المنطقة العسكرية التي يعمل بها كان المانع الوحيد لخوض تلك التجربة، استمر هذا الحال سنوات إلى أن تم كشف أكاذيبي حين جاءت معلمة جديدة كمنتدبة إلى مدرستنا وكأن مجيئها كان خصيصًا لكشف سري الدفين، فبعد ملاحظتها إنني أغادر المدرسة لأسباب عده مرة بالأسبوع؛ هاتفت أمي تخبرها بفعلة ابنتها الشنعاء، ولا داعي لذكر عدد اللطمات التي تلقيتها من أمي قبل مجيء أبي ووصف حجم تورم قدمي التي كسرت حين عاقبني أبي بسخاء وجربت لأول مره عصا جدي التي كان يسير مُتَّكئًا عليها، فقد رفعها أبي بيده اليمنى وانهال علىَّ بعدة ضربات على قدمي اليمنى "التي سارت إلى وجهة مشبوهة طوال سنوات وهو نائم على أذنه" على حد قوله، والحال أنني كُنت أسير إلى وجهة معلومة حيث حلمي الدفين الذي لا أعرف ما هو، كل ما أعلمه أنني وددت البحث عن جديد أفعله، وبتّت بعدها أسير لكن بقدم ونصف وأصبحت العرجاء التي تذهب فقط لأداء الامتحان والحجة ذلك الحادث اللعين الكاذب الذي تعرضت له وأنا عائدة من المدرسة في يوم غابر، ثلاثة أشهر أتضرع لربي كي تنال تلك المعلمة من رتابة أيامي ما يجعلها لا تطيق حياتها، الفيلم المتكرر لم ينتهِ فقد قضيت آخر عام في المرحلة الثانوية أجرب كل زاوية بمنزلي أبحث عن جديد أفعله بين قضبانه، كل صباح استيقظ من الجهة اليسرى، أنظر إلى الحياة نظرة عدائية، خصلاتي المجعدة ترسل دلالات للأحياء خارج جدران البيت أن هناك سجينة بالداخل تبحث عن جديد يهبها الحياة لأول مرة، بعد أن سقطت صريعة آثام ارتكبتها حين وضعت عينيها على حياة مازال أمامها سنوات عدة لتكون على أتم التهيؤ لعيشها.
تصرخ أمي باسمي "أحلام" مؤكد تضحكون الآن أليس كذلك؟ أحلام لديها أحلام تود تحقيقها!
خوفًا على قدمي اليسرى كنت أسير أتراقص بانكسار ما إن تم استدعائي؛ لكي لا يسمع أبى بخطأ لي وتتم معاقبتي بعصا جدي التي لا تعرف الرحمة وتقتل الأحلام لا تكسر الأقدام فقط.
كان اليوم يمر وأنا أعاون أمي في تحضير الطعام بما تسمح به قدمي العرجاء، استذكر دروسي رفقة أنغام فيروز على أمل أن الذهاب إلى الجامعة هو طوق النجاة، بعد أن اكتشفت قبح أخطائي.
أسرتي مثلي الرتابة سمة أساسية في يومهم، فبعد تناول وجبة الغداء تذهب أمي في زيارة إلى جارتنا أم عبير ويذهبان في رحلة الإسهاب في الشكوى من ثقل الأيام وصعوبة الأعباء المنزلية وسوء تربيه أبنائهما ونفور زوجيهما منهما، أما أبي كان لا يتخلى عن آخذ قيلولته كل يوم حتى وإن اندلعت الحروب في الخارج، إخوتي أَيْضًا كان لهم طقوس لا يتخلون عنها، ولأن صاحب الداء السيء لا ينفك عنه حتى وإن كسرت قدمه كنت فور انطلاق كل منهم إلي وجهته أعدو إلى سطح المنزل بلهفة أتابع المارة والجالسون على المقهى أتفحص الحاجة وسوء الحال اللذان يرتسمان على وجوههم، بائع الفاكهة الذي يضع كيس أسفل الطاولة ممتلئ بفاكهة في طريقها للعفونة يتم توفيره باستمرار، وبعد تكبد المشتري عناء اختيار حبات الفاكهة حبة حبة ويعطيها له ليتم تبديل الأكياس أسفل الطاولة. ولأول مرة تكتشف نفسي أن الفتاة التي بداخلي لم تتذوق حلاوة الممنوع كما يجب أن يكون برغم كل السوء الذي ارتكبته، حين أصابني الحنق الشديد عندما رأيت وردة حمراء اللون تحلق بالهواء بين بنايتنا والبناية المقابلة لها وجارتنا فيروزة تلتقطها، ثم تقبل بتلاتها وتعانقها بهيام حين تضمها لصدرها الذي يتزين بقلادة يتدلى منها ملاك بجناحين أظنه تذكار من عشيقها السري، أذكر الغبطة التي أصابت نفسي حين نظرت إلى يديّ التي لم تمسك بوردة تحمل بصمة رجل من قبل.
اتصل جبل بؤس أيامي بأيام أخرى أكثر بؤسًا إلي أن حانت اللحظة التي انتظرتها أشهر طويلة، حين حملقت بشاشة الحاسوب وقرأت الجملة التي أصابت معدتي بألم لا يحتمل غير مفتعل، وتسللت على إثرها حبات العرق من جبيني إلى أسفل قدمي، فدغدغت الرهبة من تحمل المسؤولية أو الفشل ثنايا روحي"جاري تحميل نتيجة الطالب" وكانت هذه النتيجة السبيل إلى أن أجرب ما حلمت به لسنوات، وأصبحت عرجاء بفضله، أو اعتذار على ما بدر مني بحق نفسي وقدمي، وقد خطت الشاشة مجموع درجاتي "تسعة وتسعون بالمائة" وكانت لحظه ابرام عقد تصالح مع أبي الذي قبل جبيني مباركًا لي، لن أنسى نظرة عيناه حين رأيت بهما اعتذار عما بدر من يده التي لم تحسب عواقب ما قامت به.
هذه النظرة لن تؤلم قلبي بعد الآن، سأعدها إشارة وتذكرة لي أنني دفعت ثمن تجربة كل جديد غاليًا، وصرت أسير عرجاء أحمل حلم لا تتوقف روحي عن التطلع إليه، والمهم أنني الآن استقل الحافلة وحدي في رتابة فيلم يومي لا أريد له أن ينتهي؛ طالما هناك رواد جدد للحافلة يجاورونني وأقرأ بأعينهم حكايات جديدة أكثر إِثارة، ومارة يجولون بالطرقات يحملون أحلام أرتشف منها ما يرويني أو بؤس هو السبيل لحمد ربي آلاف المرات على قدمي العرجاء، ذاهبة إلي جامعة الإسكندرية حيث كليه الفنون الجميلة التي تعلمت بها رسم كل ما جالت قدمي لتراه عيني و ترسمه يدي التي ستذيله بإمضاء أوهام أحلام.
تمت بحمد الله