في تلك الليلة الباردة من طفولتي، عندما كان قلبي الغضّ لا يزال يجهل معنى الفقد، غاب وجه أبي عن عالمي، غرقت روحي في صمتٍ لم أكن أعرف له اسمًا.
كنت في الخامسة من عمري، والعالم بالنسبة لي لم يكن أكثر من دفء كفه حين يمسك يدي الصغيرة، ونبرة صوته التي تبدد شبح خوفي كضوء الفجر الذي يتسلل ليضيئ ماخلفه الليل من عتمة.
فجأة، وفي ليلة مظلمة، اختفى كل شيء. لم يعد لصوته صدى في أرجاء البيت، لم تعد نظراته تحتوي ارتباكي كما كانت تفعل.
تحولت الأيام إلى جدران صلبة مصمتة، لم أكن أفهمها إلا من خلال دموع أمي التي كانت تحاول إخفاء انكسارها خلف ابتسامةٍ منهكة.
في تلك السنّ الصغيرة، كنت أظن أن الفراق مجرد لعبة، وأن أبي سيعود عندما يحين وقت المساء، كنا ننادي عليه بأعلى صوتنا كلما شاهدنا طائرة تحلق في السماء -حيث كان يعمل طيارًا- لعله يسمع أنين نداءنا وصرخاتنا المكتومة فيهبط إلينا، يروي عطش قلوبنا بحنان أبوته؛ لكنه لم يعد… حينها لم يدرك قلبي الصغير أن للحزن وجهًا لا يرحل.
مرت السنوات، وكبرتُ وأنا أحمل في داخلي فجوة لا تملؤها الأيام، بل تتسع كلما اشتقت إلى حضوره.
أدركت أن فقدان الأب، هو غياب دائمٌ لركيزة كانت تحمل عالمي، وأنني سأظل يتيمة طوال حياتي، محرومة منه، وأن الطفولة التي تُسرق مبكرا لا تُستعاد، ستبقى سهمًا غائرًا على ما ضاع إلى الأبد.
ورغم ندرة الذكريات العالقة داخلي، في كل لحظة أحتاج فيها إلى سند، أجد أبي حاضرًا، يواسيني يربت على قلبي فهو لم يغادرني يومًا، يعيش بين حنايا قلبي، بين ضلوعي.