عندما نذكر كلمة "الريف" فإنه سريعا ما يتبادر إلى أذهاننا الطبيعة الزراعية الخلابة بمساحاتها الشاسعة بلونها الأخضر الذى يريح النفس ويدفعنا إلى الأمل والخير وحب الحياة، ووجود الأشجار العالية التى تنبعث الموسيقى من حفيف أوراقها، والطيور تطير وتغرد فى كل مكان وكأنها تشدو بأجمل الألحان، ونسمات الهواء العليل تعبر إلى داخلنا فيشعر القلب بالسعادة والاطمئنان، فالحياة هادئة فى الريف وخالية من الصخب والضوضاء.
ونتذكر منظر الفلاح المصرى وهو ذاهب إلى حقله مع شروق الشمس ليؤدي عمله بحب وراحة بال، ويعود مع الغروب مصطحبا الحيوانات التى تساعده فى زراعته فيجد زوجته فى انتظاره وقد أنهت أعمالها المنزلية كصنع الخبز والجبن والسمن أو تربية الطيور بمختلف أنواعها، فهى تكافح مع زوجها لتعينه على صعوبات الحياة، كما أن للأبناء دور فى مساندة الوالدين سواء فى الحقل أو أعمال البيت بجانب اهتمامهم بدراستهم فمنهم من يصبح طبيبا أو عالما أو مهندسا أو معلما .. وغير ذلك، فالريف المصرى كان مليئا بالخير والأخلاق الكريمة السامية والقيم الدينية التى كان يحرص كلا الأبوين على غرسها فى أبنائهم، والجميع راض وسعيد بهذه الحياة البسيطة الخالية من التعقيد والتى يشملها الحب والتعاون والترابط الأسرى، فالريف المصرى كان جنة الفلاح ورمزا للأصالة.
ولكن ومع الأسف الشديد قد تبدلت الأحوال جميعها وخصوصًا بعد ثورة يناير حتى شمل هذا التغيير المناطق الريفية شكلا ومضمونا. فنجد أن الأراضى الزراعية قد تقلصت وكادت أن تختفي تماما بعد ازدياد العمران عليها وتخلي الفلاح عن أرضه إما بالبيع أو البناء فوقها، فكثيرون قد بنوا منازلا فخمة ذات الطراز الحديث على أراضيهم بعد أن كانت البيوت مبنية من الطوب اللبن وعبارة عن دور واحد وكلها بجوار بعضها البعض، وأصبح الكل يتخلى عن عمله كفلاح ويبحث عن الوظيفة الحكومية أو الخاصة وكأن هذا العمل صار وصمة عار عليه أو أنه يقلل من شأنه.
ومن المؤسف أيضا أن التطور التكنولوجي قد أثر على الأسرة الريفية ودورها فى تنمية المجتمع وأدى إلى تفككها فقد أصبح داخل كل بيت جهاز كمبيوتر أو مع كل فرد تليفون محمول فانشغل الجميع بذلك عن الدور المنوط بهم. فالزوجة الريفية "سابقا" لم تعد تقوم بدورها كما سبق فهى تسرع فى إعداد الطعام حتى تمسك بالموبيل لتتحدث إلى الأخريات لساعات طوال دون اهتمام أو رعاية لأبنائها ومتابعتهم من الناحية الدراسية أو الأخلاقية مما أفقد الأولاد أهم وأبسط أصول التربية والدين، كما أصبح شغلها الشاغل كيف تكون أفضل من جاراتها فى النواحي الشكلية (كالملبس والمأكل والمسكن) والتى يتباهى ويتعالى بها البعض على البعض مع غياب الجوهر تماما. و كل هذا يعتبر من سفاسف الأمور. ونلاحظ تغيرا ملحوظا فى ملابس الفتيات الريفيات والتى فيها تأثر بالغ بفتيات المدن بل أنهن قد تجاوزنهن بمراحل، وهذه الملابس تتصف بالجرأة وإنعدام الحياء. ولقد تعدت الجرأة الملبس لتشمل كل تصرفات البنات وتحديدا أخلاقهن وهذا عيب كبير فى حق البنت الريفية التى كانت تتسم بالطيبة والسماحة وحسن الخلق ويرجع ذلك لافتقاد القدوة داخل البيت ألا وهى الأم التى انشغلت عن توجيه ابنتها للصواب وتركتها تتأثر بالعوامل الخارجية.
فالريف المصرى -الذى كان مصدر إلهام للشعراء فى كتابة قصائدهم والكتاب فى صنع رواياتهم- أصبح يعانى تدنيا وتدانيا فى كل النواحى. فانتشرت البلطجة وتجارة المخدرات والتحرش اللفظي أو الجسدى والأخلاق الفاسدة، وأذكر واقعة أن شابا حاول خطبة فتاة وعندما رفضت انتظرها فى مكان وقطع وجهها بمشرط فهل هذا كان موجودا سابقا في ريفينا؟ طبعا لا، و أيضا غياب الوازع الدينى لغياب الكتاتيب التى حفظ جميع الأدباء والمفكرين والكتاب والعلماء القرآن الكريم فيها، كما تربوا على القيم الدينية هو سبب أيضا من أسباب فساد الأخلاق واضمحلالها.
ومن العوامل التى ساعدت فى تدمير الريف المصرى أن بعض الأثرياء من أهله قاموا بإنشاء عمارات سكنية لكى يسكن فيها الغرباء عن الريف مما جعلهم يتوافدون بأعداد كبيرة لقلة الإيجار فيه، وكان لهؤلاء الغرباء التأثير السلبي الأكبر على أهل الريف فى كل شىء فتغيرت ملامح الريف واختفت معالمه المعروفة لدى الجميع.
وبعد أن كنا نلوذ بالريف وبهجته وأحضان طبيعته لنستمتع بجماله ونريح أعصابنا ونهرب من حياة الحضر بازدحامها الشديد وضوضائها، فلم يعد للريف المصري هذا الوجود وذلك التأثير، فقد تبدل كل شىء ولكن للأسوأ.
فالريف المصرى يحتضر وكيانه يتمزق وتنعكس مظاهر التمزق على إنتاج وتنمية هذا المجتمع. كما أن روحه أصيبت بالانفصام فهو لم يعد ريفا كما كان ولم يرتق لدرجة أن نطلق عليه اسم مدينة؛ فتاه أهله وأصبحوا لايعرفون هويتهم. فواجب علينا الآن أن نحافظ على البقية الباقية منه من الطيبة والأصالة والأخلاق الراقية. ولكن هيهات أن يتم استرجاعه كما كان على عهده السابق.