رحل أبي بسرعة غريبة...في يوم أهاتفه وأتفق معه على زيارته قريباً...نمزح ونتبادل بعض النكات والقفشات الكلاسيكية...أقول له -بعد أن علمت بمرضه- إنني سأعجل بزيارتي فيقول "لا تغير ارتباطاتك من أجلي فسأنتظرك".....بعدها بأيام قليلة يفارقنا فلا نستوعب رحيله حتى هذه اللحظة...قضى جلّ حياته مغترباً فلعل عقولنا تعابثنا وتقنعنا بأنه لا يزال على سفر وسيفاجئنا بحضوره ليلة رمضان كما فعل عدة مرات....رحل كريماً مهذباً خفيف الظل والروح كما عاش ...كنت في طفولتي أرافقه في زياراته لوالديه وألمس البهجة التي تدخلها زيارته على قلبيهما فأقول لنفسي "يوماً سأكبر وأستقل عن والديّ ولكني سأحرص على زيارتهما كما يفعل" متصوراً أن القدر سيمهلني لأفعل ما أشاء وقتما أشاء....أتذكر اليوم كل رغبة له لم أحققها وكل لحظة كان يمكنني أن أقضيها معه واخترت ألا أفعل...أتذكر قراءتنا للشعر العربي معاً...ونظرته المستنكرة وتصحيحه الحاد يوم أنشدتُه ما ندرسه من أبيات لعمرو ابن كلثوم فسهوت وحركت نهاية الفعل المجزوم في قوله "أبا هند فلا تعجلْ علينا"....أتذكر قراءتنا للقرآن معاً وتصحيحه لأخطائي في التجويد وترقبي لأخطائه القليلة لأرد له التصحيح وأثبت له جدارتي...
كنت وإخوتي ننتظر عودته في إجازته السنوية محملاً بالهدايا...نلتف حوله على سرير عريض فيفتح حقائبه ويبدأ في توزيعها مستمتعاً بترقبنا وبهجتنا الطفولية...تحتبس أنفاسنا وكل منا ينظر إلى ما يحصل عليه الآخرون ويقارنه بنصيبه...أشياء كثيرة لنا..وأكثر منها لأمي...وأقل القليل لنفسه...فقط أدويته وملابسه الشخصية المستعملة...كثير من السعادة وكثير من الدعاء يلهج به لسان أمي...محاولاتها لإنقاذ أكياس الحلوى والمكسرات من بين أيدينا لتحفظ منها أنصبة أقربائنا قبل أن نفتك بها....وتمر السنوات ونكبر وتظل لعودته نفس البهجة...أطلب منه ألا يشتري لي ملابس من الكويت فذوقه لا يناسبني فيقول "أشعر بسعادة في شراء ملابسكم فلا تستكثروها علي، ولك ألا ترتدي ما لا يعجبك"....
أتذكر عشقه لحديقة منزلنا الصغيرة والساعات الطويلة التي كان يقضيها في ترتيبها والعناية بها...وإهمالنا لها بعد سفره بأسابيع...إهمالاً لا يقطعه إلا الريّ الروتيني الذي لا يغني النباتات عن حبه لها فتذوي منتظرة عودته لتورق من جديد...يناديني فأقول ضاحكاً "بدأنا الفقرة الزراعية" فيضحك ويسميها كما أسميها...يسألني ما رأيك في الورود الجديدة..فأشيد بها وأنا لا أكاد ألاحظها...وهو يعرف ذلك ويقول "متقولش أي كلام بص كويس"...يطلب مني مساعدته لنقل بعض آنية الزرع فأحملها على مضض لأريحه من عناء ثقلها ويسألني عن أفضل مكان لها فأمتنع عن إعطاء أي رأي فني وأكتفي بالعمل اليدوي لإرضائه...يجلس وتفر منه دمعة شكر لربه ويقول "الحمد لله...كنا فقراء فاغنانا الله من فضله "..يحكي عن طفولته ومباهجها برغم رقة الحال...يحكي عن أمه الراحلة وحنانها وحكمتها الريفية الفطرية....يحكي كيف احترق كفاها وهي تنقذ المخبوزات من فرن المنزل لكي يتذوقها قبل سفره...يحكي وتختلط دموعه بابتساماته بتعليقاته الساخرة في مزيج ساحر لا أعرفه في غير أبي...
لم أبك يوم وفاته...لم أتأثر كثيراً لحمل جثمانه الخالي من الحياة...شعرت بأنه ليس أبي...فأبي روح وحياة وأخلاق وذكريات ومواقف.. أما هذا الجسد فقد أدى وظيفته في دنيانا وانتهى دوره....لم أبحث عن كرامات ميتافيزيقية مما يتشدق به ذوو المتوفى في المعتاد....يقولون إن الجثمان كان خفيفاً وكأن النعش يطير محمولاً على أكتاف الملائكة...يقولون إن رائحة المسك كانت تفوح من قبره...يقولون إن وجهه كان مضيئاً بنورسماوي غريب....ووالله لم أجد شيئاً من هذه التجليات ولم ألمتسها يوم وفاته...فما فعله من خير لا يزال حاضراً في قلبي وقلوب من عرفوه...ورحمة الله ومحبته أوسع وأعمق من أن تُلتمس في هذه التجسيدات السطحية...رحمه الله...كان شاكراً ذاكراً...رفيقاً رقيقاً وكأن يد الرحمن مست قلبه فأودعت فيه عذوبة ومحبة جارفة للإنسانية.... لم يغلظ علينا يوماً بقول أو فعل...ولم يُهنّا ولم يبخل علينا...
اليوم نفسه بين يدي ربها... ولا أملك إلا الدعاء له بالرحمة والمغفرة...ولا أملك لكم إلا النصيحة بألّا تؤجلوا برّكم بآبائكم - حفظهم الله وأطال اعمارهم- فلا أقسى على النفس ولا أمض من تلك اللحظات الفائتة...