في بيت خالٍ من الأثاث، سوى (فجة) تغزل من الشرائط القديمة البالية بعد طحنها، ويفرش بها البيت تحت فراش الصوف، وموقدة للنار، وقدر لطهي الطعام، وبعض أواني المطبخ من جِفنة لوضع الطعام بعد طبخه، وقربة ماء للشرب من الجلد.
أهل البيت لا يملكون مالاً ولاطعام . زوج وزوجة لشدة فقرهم انحازا جانباً من القرية. لكن هذا البيت تفيض منه السعادة والحب التي ربما لا تجدها في بيت حيطانه من ذهب وفضة، وسقفه من ألماس. ولا يملك هذه السعادة والحب الغني الذي يأكل بملعقة من ذهب ويلبس الحرير والديباج، وبيته مليء بالأواني المذهبة والمفضضة.
وحوله حراس للمحافظة على الأمن والأمان، وخدم لخدمة أهله، ولأن السعادة قد لا تجدها عند أصحاب القصور الشاهقة والأثرياء، فهي ليست متاعاً كمتاع الدنيا، بل هي رزق من الله قد لا تجدها عند أصحاب العروش، وتجدها عند أصحاب الحصير والفراش، وقد تجدها عند السقيم، ولا تجدها عند الصحيح، أو عند الضعيف، ولا تجدها عند القوي.
كان لديهم رحى لطحن الحبوب، ويحيط بالبيت أشجار البلوط الجميلة ، ويغمر المكان فيتامينات السعادة، وبروتينات الابتسامة، وإنزيمات الفرح والسرور.
فكان الزوجان يعيشان في هذا البيت، يملاه سعادة وحب، فيبدو كأنما يملكان الدنيا بأسرها، وقد صفت نيتهما. فناما في البرية بأمن وأمان. وكانت أم كرم قد جففت بعض ثمار البلوط وطحنته، وتصنع منه القهوة والطعام. وفي يوم من الأيام، رأى أبو كرم رهطاً قادماً لضيافته، فصاح على زوجته: لقد جاءنا ضيوف، فلنستعد لاستقبالهم، ولكن يا أم كرم، لا يوجد ما نكرم به الضيوف.
فقالت له: لا عليك، يا زوجي العزيز. ما عليك إلا أن تستقبل الضيوف، وتظهر البشاشة في وجوههم والسعادة في قدومهم، ولك ما يرضيك ويسرك ويطيب خاطرك، ويرفع رأسك أمام ضيوفك واترك الباقي عليّ.
فقام أبو كرم باستقبال الضيوف ورحب بهم أحسن ترحيب، وبقي معهم جالسًا يضاحكهم ويتحدث إليهم كي لا يملوا ويذهبوا من بيته. وفي أثناء الترحيب، نادت أم كرم على أبو كرم وناولته دلة القهوة، التي قامت بدقها على المهباش من حبوب البلوط، وقالت له: خذها وأكرم ضيوفك إلى أن يجهز الطعام. فقدم أبو كرم القهوة للضيوف، ثم قامت أم كرم بجمع حبوب البلوط وجلست أمام الرحى وبدأت بطحن حبوب البلوط حتى أصبحت كالطحين الناعم. ثم قامت بإشعال موقد النار ووضعت في القدر ماء، وأضافت إليه طحين البلوط وبدأت بتحريكه حتى نضج، وفاحت رائحة الطعام في المكان.
رائحة لذيذة حتى أن الضيوف تعجبوا من هذه الرائحة الرائعة، وأنها رائحة تُشتهى . وعندما نضج الطعام، سكبته أم كرم في الجِفنة، ونادت أبا كرم ليقدمه للضيوف. تناول أبو كرم الطعام، و وضعه أمام الضيوف ،
وقال لهم: تفضلوا على المقسوم، وهذا ليس واجبكم. واجبكم أكبر من هذا، ولكن الجود من الموجود، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
فقال له كبيرهم: أكرمك الله بالجنة كما أكرمتنا، وكثر الله خيرك، ورزقك الله من فضله.
وتقدم الضيوف وبدأوا في تناول الطعام.
ومن شدة لذة الطعام وطيبته لم يبقَ منه شيء.
فلم يعلم أبو كرم والضيوف ما اسم هذا الطعام. وكان يسأل أم كرم عن هذا الطعام الطيب واللذيذ بعد أن غادر الضيوف وذهبوا في سبيلهم، لكن أم كرم لم تجبه لأنها قررت أن تحتفظ بهذا السر لنفسها.
فشكر أبو كرم زوجته على صنيعها، وأنها بيضت وجهه أمام الضيوف، ورفعت رأسه وشأنه أمامهم.
ثم قال لها: ما دام عندي زوجة مثلك، فأنا في قمة السعادة، زوجتي الحبيبة.