يستيقظ الطالب الجامعي سليم، ويبلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا. يملأ وقار الرجال وجنتيه، كالبدر، والتاج الأبيض على ذوائبه كالنجوم في ليل مظلم.
وقد صعد أول أدراج سُلم الشيخوخة.
ينهض قبل الشروق في الشروق، والظلام قبل الشروق الثاني عابس وقاتم.
يتمطى في فراش دافئ يُخيفه صرير الريح العاتية، ولكن هذا لا يحول بينه وبين تحقيق أحلامه التي طالما جاهد وكدح وكافح ليصل إلى النجاح والفلاح فيما يسعى إليه.
يعود إلى البيت بعد الغروب في الغروب، والغروب الثاني حالك، وقد تثاءب هذا الغروب من تعب ووصب ونصب، ومن وعثاء السفر، وعناء الصيف والحر. والرياح التي تتصارع مع الأحلام والآمال.
وكان في معاناته في رحلته الدراسية، هذه المعانات بالنسبة له ألذ من شهد العسل الممزوج مع الصبار في وعاء مصنوع من الصبر، حيث كان يبدأ الدراسة على ضوء المصباح ويعود إلى منزله على ضوء المصباح. كان الظلام بالنسبة له كوحش مفترس، له فم في مقدّمته وفم في نهايته، وكأنه يدخل من فم ويخرج من فم آخر.
وانطلاقًا من قناعته بأن العلم من المهد إلى اللحد، فإنه يجب على الإنسان أن يطلب العلم ولو كان في الصين. وعلى الرغم من أن العلم في الصغر كالنقش في الحجر، إلا أن هذا لا يمنع الإنسان من طلب العلم في جميع مراحل حياته. فما زال العالم يتعلم، فإن قال علمت فقد جهل.
وصل إلى الجامعة متأخراً ودخل قاعة عطوفة الدكتورة فاطمة التي تدرس مادة م.م. طرق الباب وأنفاسه تنازع الرمق الأخير، فسألته عطوفة الدكتورة فاطمة : هل أنت طالب؟ فأجاب: نعم. ثم سألت: هل أنت مسجل في مادة م.م؟ فأجاب: نعم.
أدخلته إلى القاعة، وطرق الباب خلفه عشرات الطلاب والطالبات، فقامت الدكتورة فاطمة بطردهم، وأغلقت الباب.
معتذرة بأن من يدخل بعدها لن يستطيع دخول القاعة، ثم أغلقت الباب وبدأت بخطابها الصارم، حيث تُوحي إليك كلماتها بأنها أنهت خدمتها برتبة قائم مقام.
كما قالت في خطاب يسمعه جميع الطلاب: حتى لو دخلت بعدي، اعتبر نفسك كطالب غائب.
بعد دخولي القاعة وأخذ الحضور والغياب، من يدخل بعد هذا الوقت لا يلومني بل يلوم نفسه، وهذا الكلام لجميع الطلاب بلا استثناء.
بعد انتهاء خطابها التهديدي والوعيدي، لطالما كان هذا الطالب - منذ عشرين سنة ونيف - يسمع هذه العبارة أثناء خدمته في الجيش وهي: (الخير يخص والشر يعم).
وهي قاعدة لا يعرفها إلا من، دخل في سلك الجندية وقضى نصف عمره في خدمة وطنه، لكثرة تكرارها أثناء التدريبات العسكرية.
في نهاية المحاضرة، يُراجع الطالب الدكتورة ليعلم هل هو مع الحاضرين أم مع الغائبين. فتقول له عطوفة الدكتورة إنه غائب. فيقول لها: إذا تكرمتِ يا عطوفة الدكتورة أن تأخذي الغياب في نهاية المحاضرة، فأنتِ تعلمي أيتها الدكتورة الفاضلة، إن المسافة بعيدة بين الكليات، وقد أغلقت رئاسة الجامعة جميع الأبواب، مما يضطر الطلاب للدخول والخروج من باب واحد، مما يسبب ازدحامًا عند الباب وبالتالي نتأخر. فتجيب الدكتورة بابتسامة: إذا كنت أتكرم، ستبقى غائبًا، فهذا هو نظامي ولا أحب أن أغيره. وإذا كان لديك أو لدى أي من الطلاب مشكلة، فليُراجع العمادة. ثم تخرج الدكتورة من قاعة المحاضرة.
فيلتقي الطالب سليم بصديقه الطالب سالم، فيسأل سليم صديقه: هل تعرف هذه الدكتورة التي ندرس لديها هذه المادة؟
فيجيبه صديقه سالم: الدكتورة تخصصها مواد قانون. فيسأل سليم صديقه: لماذا الدكتورة...؟
تتصرف هكذا، وأنت تعلم أن البنية التحتية للجامعة مبنية على جبل. نحن في حالة صعود ونزول، والمسافة بعيدة. لا شك أننا سنعيد الفصل، لا سيما أنني خريج هذا الفصل. أخشى أن أفقد فصلاً دراسياً بسبب هذه المادة.
فيرد عليه صديقه سالم: هون عليك يا صديقي، كل ما تفعله الدكتورة إنما هو لضبط القاعة،
ولكي يلتزم الطلاب بالمواعيد.
بالأمس، دخل بعد الدكتورة عشرات الطلاب، مما سبب إزعاجاً للدكتورة وغضبها. وأنت، لا تعلم لأنك لم تحضر بالأمس لأنه كان أول دوام في الفصل.
فيجيبه سليم: لكن يجب أن تكون الدكتورة أكثر تعاطفًا ورحمة مع الطلاب، وأن تراعي المسافات التي نقطعها للجامعة، ناهيك عن البنية التحتية للجامعة. فيقوم سالم بالرد قائلاً: أيام وتعدي لترى الدكتورة من يلتزم بالدوام معها ومن يحضر محاضراته ومن يتهرب. فلا تحمل همًّا، ستجدها من أروع المدرسين والدكاترة في الجامعة، فالأمر مجرد مسألة وقت، صديقي.
فيقول سليم لصديقه سالم مازحًا: بعض النساء ينبغي أن يبقين في المطبخ، وإذا خرجن منه فسيحدثن كوارث .
ثم أنشد قائلاً لصديقه:
يا ليتك لم تخرجي من المطبخ
وغطستِ في طنجرة ضغط.
كرهتِ في العلم كل طالب،
ورفعتِ في عروقه الضغط.
فتبسما معًا من هذا المزاح فقال له صديقه سالم: دعنا من المزاح يا صديقي، ولكن الدكتورة فاطمة رائعة وذات صفات كاريزمية يحبها الطلاب وتحبهم، وجميع الدكاترة يحبونها كذلك ويحترمونها.
سترى ذلك واقعًا عمليًا بنفسك من قوة الحضور، والصراحة، والصدق، وكسب الثقة، وقدرتها على القيادة. تُظهر الابتسامة دائماً، وانفعالاتها مناسبة، واهتمامها بالمظهر العام. كما تظهر لغة الجسد المناسبة.
فيرد سليم: لابد أنها حين أدخلتني القاعة راعت كبر سني، وتولد الشيب في لحيتي واشتعال الرأس شيبًا.
لا شك أني أخطأت في انطباعي الأول عن هذه الدكتورة الفاضلة، ولا شك أن الانطباع الأول غير دقيق مئة بالمئة.
الانطباع الأول، يا صديقي، يشبه الحلم من حيث الوقت والتقدير. فهما يتشابهان في المدة؛ حيث يستغرق الحلم نحو ثماني ثوانٍ، وكذلك الانطباع الأول يتكون في سبع إلى ثماني ثوانٍ. أما من حيث التقدير، فمن الممكن أن يتحقق الحلم ويصبح واقعًا، أو قد يكون خيالًا فلا يتحقق.
كذلك، فإن الانطباع الأول ليس بالضرورة صادقًا دائمًا في تكوين الفكرة عن الشخص. فسرعة الحكم على الأشخاص لا يصح، فلكل إنسان ظروفه الخاصة.
من مستوى تعليمي واقتصادي، وتطور، ونجاح، وخلفية دينية، وعرقية، وسياسية، ورغبة اجتماعية، وتوجيه، وثقة، ومصداقية، وكفاءة، وصدق، وهو ما يعرف بقاعدة ١١/٧.
فقد يكون الخير كامنًا في الشر. كما علمنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: لا تَّهرف بما لا تعرف.
أرجو الله أن يغفرلها ولنا ويرحمنا.