في زمنٍ أصبحت فيه الكاميرات تسبق الأقلام، وأصبح المشهد المصوَّر أقوى من آلاف الكلمات، بات المجتمع أسيرًا لصورة تُلتقط في لحظة، سواء كانت صورة عمل خير أو جريمة شنيعة. لكن الإشكال الأخطر هو ما يترتب على الاحتفاء المبالغ فيه بالأعمال الخيرية المصوّرة من ناحية، و الإدانة الجماعية لكل عمل إجرامي تم تصويره من ناحية أخرى.
أولًا: مخاطر الاحتفاء المبالغ فيه بالأعمال الخيرية المصوّرة
تحويل الخير إلى عرضٍ استعراضي: حين يُبالَغ في تصوير وتضخيم مبادرة خيرية بسيطة، يصبح التركيز على الشخص أو الجهة الفاعلة أكثر من قيمة الفعل ذاته. هنا يتراجع البعد الإنساني ليحل محله البعد الدعائي.
إضعاف مفهوم العطاء الخفي: المجتمعات لا تبنى على "الشو الإعلامي"، وإنما على قيم الإخلاص والصدق. تصوير كل صدقة أو مساعدة بشكل مبالغ فيه يُضعف فكرة أن الخير أسمى حين يكون صامتًا.
خلق فجوة اجتماعية: في بعض الأحيان قد يشعر المحتاجون أن معاناتهم تُستغل كوسيلة لزيادة شهرة فاعل الخير، بدلًا من أن يكون الغرض هو إنقاذهم أو رفع معاناتهم.
ثانيًا: مخاطر إدانة كل عمل إجرامي مصوّر بشكل علني
محاكمة شعبية قبل القانون: تصوير أي جريمة وانتشارها يؤدي إلى تكوين رأي عام سريع يحكم على الفاعل حتى قبل وصول القضية إلى المحكمة. وهذا يُضعف مبدأ العدالة التي تُبنى على الأدلة لا على الصور وحدها.
تأجيج مشاعر العنف والكراهية: المبالغة في نشر الجرائم المصورة تعزز شعور الرعب في المجتمع، وتُشيع مناخًا من الغضب والانتقام بدلًا من الثقة في مؤسسات العدالة.
احتمالية تشويه الحقيقة: الصورة أو الفيديو لا تعكس دائمًا القصة كاملة، بل قد يُقتطع المشهد فيُحوِّل الضحية إلى جانٍ، أو الجاني إلى ضحية.
ثالثًا: التأثير المجتمعي بعيد المدى
مع الوقت يصبح المجتمع منشغلًا بالصورة لا بالجوهر: يصفق للخير إذا صُوِّر، ويغض الطرف عنه إذا كان خفيًّا.
يتكوّن لدى الناس وعي مُشوَّه بالقيم: الخير يقاس بمدى انتشاره على وسائل التواصل، والجريمة يقاس فظاعتها بعدد المشاهدات.
يترسخ نمط خطير وهو أن "ما لا يُصوَّر لا يُحسب"، مما يقتل المبادرات الإنسانية الصادقة ويغذّي ظاهرة "المحاكمات الإعلامية".
خلاصة
إن المجتمع السليم لا يحتاج إلى مبالغات في الاحتفاء ولا إلى محاكمات علنية على منصات التواصل. الخير يجب أن يبقى خيرًا حتى في غياب الكاميرا، والشر يجب أن يُحاكم في ساحات القضاء لا في ساحات "الترند". ما نحتاجه هو وعي متوازن يرى ما وراء الصورة، ويمنح العدل مكانته، والإنسانية معناها الحقيقي.