ارتفعت أصوات الجلبة بعد إستغاثة زوجي ، استطعت تمييز صوت اللواء مجدي جارنا ضابط الشرطة المتقاعد الذي غلب بقوة صوته على أصوات الجلبة قائلا :
- مالك يا خالد يابني ؟ في ايه ؟
ثم جاء صوت أم يس جارتنا الأخرى لتؤكد على السؤال .. - في ايه يا أبو زياد ؟
ثم شهق الجميع ، وارتفعت الجلبة مرة أخرى .. ولكن بعض الإطمئنان قد تسرب إلى نفسي بعد سماع أصوات جيراني فأشرت لأطفالي بالصمت وعدم الخروج من مكان إختبائهم ، وخرجت أنا بهدوء .. كانت خطواتي غير مسموعة وكأنني ألمس الأرض بريشة .. وأصبحت بينهم لأتساءل عما يجرى بعدما رأيت نظرات الفزع في عيونهم.. سرعان ما اكتشفت الحقيقة المؤلمة .. لقد رأيت الأثاث محطم .. والدولاب مفتوح والملابس ملقاة على الارض ومبعثرة كأنه شخص ذو بطن مبقور .. ثم رأيت نفسي !
نعم .. رأيت زوجي يشير إلى جسدي المسجى على أرضية غرفة النوم وقد تلطخ بالدماء .. أووه .. لقد كان المنظر بشعاً .. ثم تبعتهم حتى رأيت جثث أطفالي في غرفتهم .. كان المنظر أكثر بشاعة ... يا أطفالي المساكين .. لقد قتلني وقتلهم المجرم .. أخذت أصرخ بينهم : إنه القاتل ... لا تصدقوه .. ليسوا لصوص ولم تكن سرقة كما يدعي أمامكم الآن .. هو الذي حطم الأثاث بعد قتلي
لا أحد يسمع صوتي .. فقط يسمعون صوت جارنا الذي قال ببعض البرود لجميع الحاضرين :
- محدش يلمس حاجة .. خلوا كل حاجة زي ما هي لحد ما توصل الشرطة .
في تلك الأثناء كان زوجي يصطنع البكاء بحرفية شديدة.. كان ينتحب وينشج وينادي على أسمائنا ويدور في الشقة وأنا خلفه أقول له :
- انت اللي قتلتنا ... ليه يا خالد .. اتجننت ؟؟ لا متجننتش انت مجرم .. طب ليه عايز تفّهم الناس انها سرقة .. عشان تفلت من العقاب ؟؟
واستطردت : مش هتفلت يا خالد .. مش هتفلت
وبينما أصرخ وهو لا يسمعني .. جاء صوت جارنا مجدي الذي حاول أن يواسيه قبل أن يسأله عن مكان وجوده أثناء الحادث
وبصوت باكي متحشرج يأتي صوت زوجي بأنه كان أمس مع أصدقاء له بينهم عمل ولإنجاز الصفقة كان عليه أن يسافر إسكندرية ليوم واحد .. ثم ينتحب قائلا : لو كنت هنا كان زماني مُت معاهم .. ياريتني كنت معاكوا يا حبايبي .
ياله من ممثل بارع .. ياله من وقح
ليس هناك دليل على أنه عاد أمس .. لقد تأخر متعمداً حتى يظن الجيران أنه لم يأت .. وهذا بالفعل ما حدث .. الجميع يعلم ان مواعيده منتظمة وانه ليس معتادا على التأخير.. وعدم وصوله في ميعاده المعتاد معناه صدق روايته المزعومة
لابد أن يخطئ المجرم خطأ بسيط .. أين هذا الخطأ الذي يستعيد حقي وحق أطفالي الأبرياء.. إنه رسم خطة محكمة للتخلص مننا دون دليل .
***
حاول جارنا إبعاد السيدات اللاتي كن يبكين بشدة من هول المنظر .. لكنهنولم يرحلن بل ترتفع الجلبة اكثر كلما طلب منهن الرحيل .. لقد كانت هناك موجة عارمة من التعاطف مع زوجي .. الأب المكلوم في نظرهم .
فجأة تذكرت الكاميرا ... نعم .. الدليل هو الكاميرا ..
كنت قد وضعت كاميرا تسجل ما يحدث في غرفة الأطفال .. لم أشأ أن أخبر زوجي بها .. من المؤكد إنها سجلت كل ما حدث وهي الدليل على إرتكابه الجريمة .
***
حسنا .. ستصل الشرطة وتنكشف الحقيقة .. كل ما يفعله الآن لن يجدي نفعاً بعد إكتشاف الدليل
أتوق إلى رؤية وجهه بعد مواجهته بتسجيلات الكاميرا .. وبصورته وهو يطيح بالبلطة في فلذات كبده الأبرياء قبل أن يهاجم شريكة عمره ويقتلها غدراً .. مازال يدور في الشقة مفتعلا البكاء والنحيب .. حتى أتى لغرفة الأطفال مرة أخرى .. لا أرى في نظراته أي ندم او حسرة .. كيف عشت مع هذا الشخص طوال تلك السنوات ولم أكتشف حقيقته.. وقفت أمامه انظر إلى عينيه بإستهزاء ...
مهلاً !!!
هل يراني ؟؟ لقد ارتعب فجأة وتغيرت نظراته وملامحه
.. لا ... إنه لم ير وجهي بل رأى الكاميرا المثبتة في غرفة الأطفال ... لا .. لا تقترب منها .. لا تحاول ... ستأتي الشرطة قبل ذلك ولن يسمح لك الموجودين بلمس قشة واحدة قبل ان تصل الشرطة والنيابة
تقهقر قليلاً .. وبدا انه يفكر في أمر ما .. وانسل بين الناس حتى خرج لغرفة المعيشة وتحدث مع جارنا بصوت مسموع .. كان حديثه فارغاً وهو محتفظ بالوجه الباكي امام الجميع .. لقد سأله عن سبب تأخر الشرطة .. فأجاب اللواء مجدي بأنهم لم يتأخروا وان الوقت الذي مضى مجرد عشر دقائق ، وبطبيعته البشرية وجد نفسه يخرج إليه وهو يحادثه تاركاً الجثث في الغرف المتلاصقة ..
وما إن وصل إليه وتبادلا الحديث وعرض عليه كوب ماء آخر حتى بدأ زوجي في النحيب ثانياً .. وتلك المرة بشكل اشد وكأنه على وشك إنهيار عصبي
بدأت أفهم خطته الشيطانية الآن ... لقد ترك جارنا يقف في الخارج والسيدات وقفن بعيدا وغافلهم ودخل غرفة الاطفال مرة اخرى وأغلق الباب من الداخل ... كلا ... لا يمكنك ان تقترب منها او مني ... سأمنعك .. وقفت بينه وبين الكاميرا بتحدي وهو يقترب ... يقترب مني ولا يبالي حتى مر من خلالي !!! آه .. أنا هواء ..مجرد هواء امامه لا استطيع إيقافه او ردعه ... إنه يرفع صوته ببكاء مزيف ويقسم انه يريد ان يظل بجانب أطفاله بينما يخلع الكاميرا وملحقاتها وبدا يفكر في مكان ليخفيها ... كان يتحرك داخل الغرفة ومن يسمعه في الخارج يظن انه منهار في ركن ما .
خلف الباب وقف جارنا يطرق الباب بقوة ويهون عليه ويطلب منه فتح الباب محذراً إياه من لمس الجثث او اي شئ .. وهو يتظاهر بالموافقة ويواصل الحركة لإخفاء دليل جريمته .. وقفت أصرخ : يا أستاذ مجدي اكسر الباب .. ده مش بيعيط .. ده بيخفي دليل الجريمة .
أعلم ان صوتي لم يعد مسموعاً .. لكني لا استطيع ان أقف مكتوفة الايدي هكذا .. حاولت لمس اي شئ ليقع على الأرض ،ويعرف من بالخارج أن هناك حركة في الغرفة .. لكن يدي كانت تمر من خلال الأشياء ولا تحركها بتاتاً .
حانت مني التفاتة نحو صغيرتي ذات الخمسة أعوام .. لقد كان جسدها ملقى على حافة السرير .. تلك عادتها.. دائما تقفز لآخر السرير وهي تنادي بابا .. بابا عندما تراه ...
ياللمسكينة !!! إنها .. إنها كانت مستيقظة عندما قضى عليها والدها بضربة واحدة اخترقت رأسها !!!
يالبشاعة هذا المجرم
نظرت إليه بحسرة وأنا لا أستطيع ثنيه عما يريده .. رأيته يزيح بعض الكتب من المكتبة الصغيرة المثبتة في الحائط .. وألص يده على الخشب فأزاحه أيضا !!! لم أكن أعلم بأن هناك مكان سري خلف تلك المكتبة ... لم يكن يظهر أصلا .. راقبته فوجدتها فتحة متوسطة مربعة الشكل في الجدار .. وضع فيها الكاميرا وأعاد الخشب مرة أخرى فاختفت واختفى أي أثر للدليل الذي كنت اعتمد عليه .
ثم فتح الباب بعد أن أعاد لوجهه قناع التأثر والحزن والصدمة وارتمى في أحضان جارنا المسن الذي احتضنه بدوره محاولا تخفيف ألمه المزعوم
***
وصل رجال الشرطة وانتشروا في الشقة وأنا استندت إلى جدار بجانب أطفالي واكتفيت بسماع ما يدور .. فإن أملي في أن تعثر الشرطة على الدليل قد تبدد .
سمعت أقواله المزيفة المتقنة بحيث لم يترك مجالا للشك فيه .
سمعت ان المشغولات الذهبية مختفية وأموال تقدر بعشرين ألف جنيه .. سمعت أيضا ما قيل بعد رفع البصمات .. قال أحدهم " لقد كان اللص محترفاً فقد قام بمحو كل بصماته " حتى سلاح الجريمة اختفى !
وهكذا .. انتهت التحقيقات دون توجيه تهمة للقاتل زوجي رغم أن ضابط الشرطة المكلف بالتحقيق في القضية اتجهت شكوكه نحوه إلا أنه لم يعثر على دليل يستطيع إدانته به .. بل أن حجة غيابه كانت قوية وبشهادة أصدقائه الذين أكدوا أنه كان بصحبتهم طوال الليل ولم يغادرهم قط !
***
مر زمن .. لا أدري كم من الأيام مرت .. أو ربما شهور وأنا متمسكة ببيتي .. أجلس لحراسة الدليل المخبأ .. لم يتمكن زوجي من الدخول للشقة مرة أخرى .. إذ صدمته سيارة أرقدته في مشفى ما بحسب ما سمعت من العروس .
تلك العروس قد أتت مع زوجها ليسكنا الشقة بعدما اشتراها من زوجي الوريث لي وللأولاد ( فقد كانت الشقة بإسم الأولاد )
بمجرد دخول العروس للشقة قالت انها شعرت بإنقباضة في قلبها وسألته إن كان حدث شئ في الشقة .. فأجابها بالنفي
لا أعلم هل هو صادق ولم يعلم .. أم يقصد أن يخفي عنها ما حدث لئلا تتشائم .
ثم سمعته يتحدث مع عروسه عن صاحب الشقة الذي باعه الشقة لظروفه المادية بعد ما تطلبه العلاج من مبالغ باهظة .. ولكني صعقت عندما سمعت بقية حديثه
لقد قال : تعرفي انه يعتبر مليونير بس لسه عالورق !
ردت متسائلة : إزاي بقى ؟
- أصله كان مأمن على حياه مراته وولاده بملايين بس لسه الإجراءات عشان يقدر يستلم مبلغ التأمين.. بعدين هو كان حزين اوي وجت الحادثة كملت عليه
قاطعته عروسه بإبتسامة ساخرة :
ايوة .. بس بص لنص الكوباية المليان .. عقبال ما يخف وينسى حزنه شويه هيكون استلم ملايينه ويبدأ حياه جديدة خالص
لم أكن اصدق ما سمعت .. هذا إذا ما دفعه لقتلنا .. واستمات في إبعاد الشبهة عنه .. ولم تكن في نيته بيع الشقة لولا مصاريف علاجه وهو مقعد لا يستطيع حراكا طوال فترة العلاج !
انتابتني ثورة غضب عارمة ، وأخذت اصرخ وأطيح بيدي هنا وهناك .. ولم توقفني إلا صرخة مدوية أطلقتها العروس الصغيرة !!
نظرت للفوضى العارمة التي أحدثتها بيدي ووقفت مذهولة .. لقد استطعت لأول مرة تحريك الأشياء !!





































