في إحدى ليالي الشتاء بعد إنتهاء خدمتي .. نسيت أن أعرفكم بنفسي أنا هاني ضابط شرطة .. عمري 34 .. وما أقصه عليكم حدث منذ سنوات ومازال يثقل كاهلي حتى قررت أن أحكيه
كنت في السيارة ومعي سليمان السائق .. الطريق آمن وأنا أقلب بصري بين الشارع وهاتفي كلما جاءني إشعار جديد أدفن رأسي قليلا في صفحة الهاتف وأرفع عيني لمتابعة الطرق .. سليمان تعود على الصمت فلا يتحدث إلا إذا وجهت إليه الحديث
الشارع هادئ والأنوار صفراء خافتة باهتة تضفي مسحة من الكآبة على الطريق السريع الذي خرجنا إليه
فجأة ،،
رأيت فتاه تلوح لي مستنجدة بنا .. لابد أنها لمحت سيارة الشرطة وتستغيث بها .. صحت توقف يا سليمان .. توقف
رد سليمان بسرعة وهو يضغط على الفرامل .. - حاضر يا باشا ..في ايه
تجاهلت الرد عليه وفتحت الباب ونزلت للفتاه التي كانت تجري في كل الإتجاهات وتسقط على الأرض وتنهض من جديد وما إن نزلت حتى تقهقرت قليلاً ثم أدارت جسدها وبدأت تهرول بعيداً عن طريق الأسفلت
تبعتها .. أعلم تماماً تلك اللحظات المرعبة التي تعيشها فتاه تتعرض للخطف أو السرقة أو الإعتداء .. من المؤكد أنها مصابة بصدمة عصبية
أخذت أجري خلفها وسليمان خلفي يتساءل عما رأيته وأنا أتعجب من غبائه .. ما الذي سيبقيني وفتاه في ورطة وتستغيث بي
اقتربت قليلاً منها ومازلت أجري وأهتف بصوت عالي
- متخافيش .. أنا شرطة .. متقلقيش .. هتكوني في أمان
لكنها لم تستجب ولم ترد مع انها تلتفت لي .. أي أنها تسمعني !!
وبدأت ألمح شكلها وملابسها تحت ضوء القمر .. كانت فتاه في العشرين أو أقل .. ترتدي فستان مشجر طويل وعليه چاكت چينز أزرق اللون وشعرها طويل أسود حالك السواد وحذاء خفيف بلون فاتح لم أتبينه جيداً
وفجأة اختفت من أمامي .. نظرت حولي وحاولت ان أهدئ من أنفاسي بسرعة لكي يتسنى لي سماع صوتها .. لم أسمعها .. لكني سمعت صوت أنين .. ثم تحول لصرخة مكتومة .. تنبهت لها بسرعة والتفت إلى مصدر الصوت .. سمعت الصرخة بصوت أعلى وشخص ما يقول .. " اصرخي .. ولا حد هيسمعك .. الحتة دي مفيهاش صريخ ابن يومين"
هرعت إلى مصدر الصوت فوجدت سيارة أجرة ورجلين في العقد الثالث من العمر وفتاه صغيرة .. أحدهما ممسك بالفتاه من يديها والآخر يمسك بها من عند القدمين .. والمسكينة تنتفض كطائر ذبيح وواضح عليها علامات الضرب التي نالت من قوتها حتى أنها تقاوم بشراسة رغم اليأس الواضح عليها من ذلك المكان المقفر
ما ان رآني الرجل الأول حتى هب واقفاً وسارع بالهروب أما الثاني ظل مكانه كمن أخذته الصاعقة وانفرجت أسارير الفتاه المتعبة من النجدة المفاجئة فأمسك سليمان بالرجل الثاني أما انا فطاردت الذي هرب حتى وصلنا أثناء المطاردة إلى أول الطريق ولم يتردد لحظة في عبوره رغم المخاطر .. بدأت في تحذيره من السيارات وأن عليه تسليم نفسه أفضل ولكنه لم يصغ إليّ .. وقد كان المتوقع .. سيارة مسرعة صدمته وقذفته على مسافة بعيدة قبل أن ينتبه السائق ويتوقف ... جرينا عليه أملاً في إنقاذه إلا أنه كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وعلامات الرعب مرتسمة على وجهه ويهذي بكلمات غير مفهومة ولم أسمع إلا "غصب عني .. كان غصب عني " .. عدت إلى المجرم الآخر أصرخ فيه منفعلا " فين البنت التانية ؟"
اندهش قائلا "مفيش بنت تانية يا بيه والله"
أمسكته من كتفه وقلت " يعني هربت ؟ " فرد في توسل "والله البت دي بس اللي كانت معانا .. والله ما في بت تانية " .. استشعرت الصدق في كلامه فآثرت الصمت ..
هدأت الأمور من حولي بعد إنقاذ الفتاه الصغيرة ذات الخمسة عشر عاماً وتحرير محضر ضد المجرم ونقل الآخر إلى المشرحة .. ثم بدأت أتذكر تلك الفتاه ... تذكرت سليمان وهو يتعجب من حدسي بأن هناك فتاه تغتصب بعيداً عن أعين البشر .. تذكرت أن تلك الفتاه لا تشبه تلك التي استغاثت .. ثم أن المجرمين كان يحكمون سيطرتهم عليها .
ولكني حمدت الله لأنه جعلني سبباً وقدرني على إنقاذ ضحية بريئة مسكينة .
بعد ذلك
تم إستدعائي للنيابة للإدلاء بأقوالي .. وكان وكيل النيابة صديق لي فسألته عما حدث في التحقيقات وأخبرني
أخبرني أن المجرم اعتاد على الايقاع بضحاياه الإناث عن طريق سيارته الأجرة ويستدعي صديقه عن طريق الهاتف لمشاركته في الجريمة.. وأنه ينحرف بهن إلى هذا المكان لإبتعاده تماما عن أي بشر .. وان ضحاياه وصل عددهم إلى تسع فتيات في عمر الزهور .. بعضهن لم يتقدمن ببلاغ خشية الفضيحة وبعضهن امتلكن الشجاعة لذلك لكن لم يتم التوصل إليه وفُتحت القضايا مرة أخرى بإعترافه .. وضحية منهم قُتلت وهي تحاول الهرب منهم .
ماذا ؟؟ لا أدري ما الذي جعلني أربط بين الفتاه التي رأيتها وبين ضحاياه فسألت عن أوصافهن
. فأجابني وكيل النيابة بأن المتهم لم يذكر أوصاف كاملة ولكنه أخرج محضر التحقيقات وراجع أقواله .. أوصاف عديدة وأشكال مختلفة .. ذات الشعر القصير وذات الشعر الطويل والمحجبة .. واحدة ترتدي بنطالاً أسود .. لا .. ليست تلك .. الأخرى كانت ترتدي قميص أصفر .. ولا تلك .. هذه هي .. فتاه شعرها طويل وترتدي چاكت چينز وفستان .. لم يذكر لونه .. أظنني أعرف .. ماذا عن تلك الفتاه ؟؟ سألته في ريبة ؟
أجابني بهدوء أن تلك الفتاه هي الضحية الوحيدة التي قتلت .. دفعت حياتها وهي تحاول الهرب من قبضة يد المجرمين
استبد بي الخوف والحزن معا .. مشاعر مرتبكة ومختلطة لم أفهمها ولم أشغل بالي بفهمها .. فقط شعرت بأن تلك الفتاه مسئولة مني وأن واجبي هو المطالبة بحقها .. بدأت بالإهتمام بكل تفاصيل الواقعة الخاصة بتلك الفتاه بالذات .. إهتمامي بمتابعة القضية والتحقيقات أثار علامات استفهام كثيرة لدى زملائي وأصدقائي ولا سيما وكيل النيابة الذي تولى التحقيق فيها ..
ما يهم هنا هو ما وصلت إليه من معلومات .. حسب أقوال المتهم .. الفتاه كانت مجهولة .. عندما خطفها المجرمان حاولت الهرب منهما ولكنها كانت تتعثر بسبب الأحجار المتناثرة .. وصلت إلى الطريق السريع وحاولت إيقاف السيارات ولم يراها أحد فأخذت تجري على الطريق مبتعدة عن المكان .. المتهم الثاني استقل سيارة الأول لكي يلحق بها وكلما زادت سرعتها أزاد سرعته حتى صدمها بقوة وقتلها .. ولإخفاء الجريمة كان عليهما إخفاء جثتها فدفنوها في الصحراء مع كل متعلقاتها .. وبالتالي لم يعلم عن الجريمة أحد .. سألت المتهم عن سبب اعترافه رغم عدم وجود دليل على جريمتهما .. فانهار باكياً وقال إنها تهددني !!
- تهدده ؟؟ أمجنون هو ؟؟
وكأنه أدرك تساؤلاتي فبادر بالحديث كمن يلقي بحجر عن صدره .. وملخص حديثه أنه يراها بوضوح منذ تلك الليلة(يقصد ليلة القبض عليه)
وأنه كان يراها قبل تلك الليلة وكان يعلل ذلك بأنها تهيؤات لأن ضميره يوخزه .. قال إنها تحدثت إليه وطالبته بالإعتراف وإلا ستطارده وتطارد كل عزيز على قلبه ..
كنت أستمع إليه وهو يتحدث معتقداً أني أجاريه في الحديث وأني أراه مجنوناً .. لكني كنت أراه حديثا منطقيا بالمقارنة مع ما رأيته تلك الليلة .
تركته متعبا .. ولم أذهب إلى منزلي .. ذهبت للبحث عن بلاغات الإختفاء المعاصرة لوقت الحادث .. ووجدتها !!
عرفت ان اسمها أميرة مجدي .. طالبه في الجامعة .. عرفت أنها من بلدة ريفية .. لذا كانت تقيم في المدينة الجامعية.
أخذت عنوانها وذهبت لقريتها .. ولم أجد أهلها .. أين ذهبوا ؟؟ .. تركوا القرية .. لماذا أسرة بأكملها تغادر وتترك المنزل والأرض بتلك السهولة ؟!!
كدت أبكي مما سمعته .. إبنتهم دخلت عامها الأول في الجامعة وبعد ثلاثة شهور اختفت .. لم تظهر هي ولم تظهر حتى جثتها . لابد ان ذلك من إغراءات المدينة ... كثرت الأقاويل انها هربت و ... و... و ... .. كل إشاعة كانت أقسى وأصعب من الإشاعة التي سبقتها
كان عليهم مغادرة القرية حرصاً على إخوتها وشرفهن الذي تلوث بسببها .
وعدت مقرراً البحث عنهم .. لابد أن هذا هو ما أرادته الفتاه المسكينة مني .. هذا هو حقها الضائع الذي أقلق روحها المعذبة
بعد خمس شهور وجدتهم في إحدى ضواحي الجيزة .. أخبرتهم بما حدث لابنتهم .. أخبرتهم بالحقيقة .. شعرت بعدها بنجاح وسعادة لم أشعر بها في حياتي .. لقد ساعدت روحاً معذبة وهي الآن ارتاحت بعدما طهرت سمعتها وتسلم أهلها رفات جسدها لدفنه .. وإلى الآن لم أخبر أحداً بما رأيته لئلا يتهمني أحد بالجنون .