ظنت أنها نجحت في إنهاء حياتها، كل شيء كان متوفراً لها لتفعل خيبة، حزن، وحدة.
اتجهت إلى ثلاجتها تناولت الكثير من الأدوية، وذهبت إلى فراشها.
أضواء تحيط بها من كل مكان، أين كانت وأين أصبحت؟ هل هي في الجنة؟
مستحيل، من يفعل فعلتها لا يرى الجنة.
أيضاً هي ليست النار.. أصوات وهمهمات وأثقال تقيد جسدها، تتنفس بصعوبة، تسمع أنفاسها مع أنها لا تشعر بها. أغمضت عينيها بقوة علها تستفيق، أو تذهب إلى مكان تعلمه، ولكنها كلما حاولت فتحهما، تجد نفس المكان.
بدأت تشعر بألم، طعم الدماء يملأ فمها، تحاول مقاومة جسدها المنتفض، وأنفاسها المتلاحقة، ولكنها فشلت، وذهبت إلى عالم آخر.
لم تعد تدرك الزمن، لكنها أدركت ما حولها. عادت إلى الحياة، وجدتهم يقفون حولها بعيون مترقبة. أرادت أن تصرخ فيهم: "ابتعدوا، لا أريد أحداً منكم، يكفيني ما حدث"، لكنها لم تقوَ. يبدو أن شيئاً ما أصاب حنجرتها. تريد الذهاب، لكنهم يعيدونها عنوة.
فلا تجد سوى الدموع الحارة، التي اعتادت منذ أسابيع أن تكوي وجنتيها بها.
أفاقت من شرودها عندما رأت شخصاً لا تعرفه.
من هذا الأخير؟ سمعته يقول:
كانت في خطر، يجب أن تستريح، اعتنوا بها جيداً، فقد كادت أن تفقد جنينها.
مفاجأة مؤلمة، انتظرت سماع هذا الخبر كثيراً، والآن وبعد أن أصبحت بمفردها، تسمعه.
بينما تريد الرحيل، يجبرها كل شيء على البقاء والعودة.
مر أربعة أيام من الألم المتتالي.
إبر تغرس في يدها، لا تستطيع الأكل فيعتمدون على المغذيات الصناعية. استسلمت لهم، تركت نفسها لأيديهم تفعل بها ما تشاء. فقدت الكثير من روحها، ولكن حاولت أن تكفر عن ذنبها؛ فالتزمت بصلاتها وسألت الله الفرج.
تركوها جميعاً فجأة، لم يفعلوا في الأيام السابقة. بحثت بعينيها ولم تجد أثراً لأحد. أراحت رأسها وأغمضت عينيها، ربما تجد الراحة، حتى عندما سمعت صوت الباب لم تهتم لتعرف من القادم. وبالرغم من أن خطواته تقترب منها، لم يثر هذا فضولها. لم تتحرك إلا عندما شعرت بأنفاسه تقترب، تعرف عبق تلك الأنفاس جيداً، فقد استنشقتها لسنوات. فتحت عينيها، فتوقف عن الاقتراب منها. اضطربت أنفاسها فطلب منها الهدوء:
إهدئي، من فضلك، أنت متعبة.
أشاحت بوجهها بعيداً، فأردف:
افتقدتك. أعلم أننا انفصلنا، وأنك تكرهينني. تعلمين أنني لم أكن أريد الابتعاد عنك، ومفارقتك لي كانت كمفارقة الروح للجسد. ولكن ما قلتيه...
انظري لي، من فضلك، تعلمين أنها كلمة في فمي، بإمكاني ردك حتى دون إرادتك.
نطقت بصوت خفيض مبحوح:
اتركني، أرجوك.
لن أتركك. وبعد أن علمت بحملك، لا أستطيع.
وضع يده فوق بطنها قائلاً:
ما انتظرناه طويلاً ينمو في أحشائك الآن، لن أتركه أو أتركك.
أخذت واحداً وحرمتني رؤيته، والآن تريد أخذ الآخر؟
كان خطأً، سامحيني. فعلت ذلك في لحظة غضب. كلامك لي كان قاسياً، لم أكن أعلم أنك تشعرين بكل هذا الألم وأنت بجواري. لم أحتمل كلماتك عندما أخبرتني أنني سأفقدك وأنني عرضتك لأن تبحثي عما ينقصني في شخص آخر.
أردتك أن تنقذني، أن تمد يدك إلي. لم أكن أقصد ذلك حرفياً، لم ولن أكون لشخص آخر، غيرك. فقط أردتك أن تشعر بي، أن تكون لي كل شيء أحبّه، حتى أربط على قلبي. لم أطلب المستحيل، كنت زوجي وحلالي. ليس عيباً أن أخبرك بما أريد.
لم أفهم وقتها. تعلمين ما مررنا به قبلها. سعينا للإنجاب مرة أخرى وضغط والدتي عليّ لأتزوج. حتى ما تعرضنا له من مشاكل، وخوفي المرضي عليك. كل هذا أثر فيّ وجعل كلماتك تشعرني أنك لا ترينني بل وتريدينني شخصاً آخر.
أنا أراك، وأعلم كل ما تقوله لي، ولكن أردت منك محاكاة العقل. لست وجهاً جميلاً وجسداً، أنا إنسان أعيش وأتنفس. أريد مساحتي من الحرية. بيتك أصبح سجني، لم أعد أشعر بجماله، فقط أشعر أن جدرانه تضيق عليّ، وتكاد تخنقني. خفت من الموت حية. طلبت منك أن تتركني أفعل ما أحب، لأستطيع الاستمرار فقط.
لم يكن طلبي صعباً أو مهيناً.
قالت كلماتها وشعرت بجفاف حلقها. سعلت كثيراً حتى شعرت بطعم الدماء مجدداً.
ذهب راكضاً ليحضر الطبيب.
جعلتها تتحدث كثيراً، مازالت مريضة.
فليذهب الجميع، اتركوها ترتاح.
غادر، ولكن كلماته لم تغادر. نظرات الرجاء أيضاً لم تغادر.
صمت فمها، ولكن عقلها لم يصمت.
صرح لها الطبيب بالمغادرة، فجو المشفى أتعب نفسيتها أكثر.
اصطحبها والدها إلى المنزل، ساعدتها والدتها في تغيير ملابسها. أمسكت وجهها بكلتا يديها واحتضنت رأسها.
تركت نفسها في دفء أحضان والدتها فقد عانت لأسابيع من البرد.
دلف والدها وأخوها إلى الغرفة، والتفوا حولها. قال والدها بحزن:
أصبحت تكرهينا يا ابنتي؟!
لم أكرهك يا أبي، أنت كرهت كوني فتاة. عاملتني كهم تريد الخلاص منه مبكراً وكأني جبل تريد أن تزيله من على كتفيك. لم أكن سيئة لهذه الدرجة، لتكون خائفاً حتى من احتكاكي بالعالم الخارجي. ساعدت زوجي على احتجازي بحجة الحماية.
كنت أتمنى أن تعلموني كيف أحمي نفسي بدلاً من فرض الحجر عليّ. أنتم لا تعلمون شيئاً.
(لا تعلمون أن التلاعب بالأعصاب والقلوب مدمر. فض العفوية أقوى من فض البكارة. اغتصاب العقول أقوى من اغتصاب الجسد.)
استغرب والدها من كلماتها وتساءل:
من أين عرفت هذا يا ابنتي؟ مازلت صغيرة.
منذ متى تراني صغيرة يا أبي؟ لمَ زوجتني إذاً إن كنت تراني صغيرة؟
ثم أردفت بحزن:
تعلمت هذا من احتكاكي بالناس. أقبلت عليهم بقلبٍ عفوي، فسلبوا مني سلامي النفسي واحترامي لذاتي.
أرجوك يا أبي، لا أريد الكلام. أظن أن رسالتي وصلت.
قبل أباها رأسها وتركها لتستريح.
بعد قليل، سمعت جرس الباب. ثم سمعت والدتها تهلل باسم ابنها. قامت مسرعة، وكأن ضعفها تحول فجأة إلى قوة. ركضت نحوه،
جثت على ركبتيها وفتحت ذراعيها لاحتضانه. أقبل عليها مسرعاً وارتمى في أحضانها. بكيا سوياً كما لم يفعلان من قبل. لم تنتبه لوجود طليقها ووالدته.
أفاقت على صوت والدة طليقها تقول:
قومي يا ابنتي، ما تفعلينه خطر على ما في بطنك.
ساد الصمت، رفعت رأسها ونظرت إليها بتحفز، أردفت بحنق:
منذ متى وأنا ابنتك؟! ماذا تغير؟!
أصبحت تخافين عليّ؟ لم أرَ هذا وأنتِ تصرين على أخذ ابني مني، ولا عندما هددتِ ابنك بالغضب عليه إن لم يستجب لكِ ويتزوج. ليتكِ اعتبرتني ابنتك حقاً.
كررت قولها:
إهدئي يا ابنتي، هيا سأساعدك لتستريحي بالداخل.
نظرت إليها ولم ترد. فأقبل أخوها ليساعدها. أراحت جسدها على السرير، وابنها بجانبها يلتصق بها. سألها والدها عن الموافقة على العودة إلى بيتها.
وافقت، ولكنها طلبت بعض الوقت لتستريح. ستكمل الأسبوع على الأقل.
وافق الجميع على ذلك.
وبالفعل جاء زوجها ومعه الشيخ آخر الأسبوع؛ ليردها إلى عصمته.
أخذها وذهب، كان سعيداً.
وكانت شاردة. استقبلها حارس العقار وزوجته بالترحاب. رأتها بعض الجيران فسلموا عليها وأخبروها أن العقار حزين بدونها. ربما كانت عاداتها العفوية غريبة عليهم في البداية، ولكنهم أحبّوها للغاية لحسن عشرتها وشعروا بفقدها. أسعدها ذلك.
فتح باب شقتهم وطلب منها الدخول. شعرت بالغربة، وهي تدلف إلى الداخل. ذهب بابنه إلى غرفته، وذهبت هي إلى غرفتها. كانت صامتة جامدة. لم تحاول حتى فتح حقائبها وتبديل ملابسها.
لحِق بها، احتضنها، ونزع عنها حجابها، ضمها بقوة مستنشقا عبيرها. قالت بضعف:
أنا متعبة.
قال بشغف:
أنا أيضاً متعب. متعب للغاية.
استسلمت كالعادة.
كانت تعلم أن التغيير لن يحدث في يوم وليلة، وربما لن يحدث أبداً، ولكنها لم تعد تمتلك القرار بين طفل لا تريد أن تحرم منه ثانية وطفل ينمو في أحشائها.
سيكون البقاء في بيتها هو حلها الوحيد.
تمت.