هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • الإنترنت... بين كابوس مفزع وحلم جميل
  • لما بنزعل
  • ثبت خطاك
  • أكثر ما ينهك
  • عَتَمَاتُكَ المبصرة
  • لَا تُسَلِّمْ قَلْبَكَ لِمَا لَمْ يُصَلِّ لِأَجْلِكَ
  • التي تكتب ولا تقول… حتى الآن
  • حين يُساء فهمك...
  • يا سَيدةَ الحكايا الثقيلة...
  •  المدلل
  • طبتم وطاب ناديكم
  • مِلك ايديك
  • ونحلف انا وانت نتقاسم 
  • التربية عبر الأجيال.. ليست تحديًا سلبيًا، بل فرصة لتعزيز التفاهم العاطفي والتواصل بين الأسرة
  • الهوسُ المرضيّ
  • وفي حبّك… أنا القُربان
  • رجل من نوع آخر 
  • مسرحية هاملت: مأساة التردد وصراع الوجود
  • في حضرة الحب… لا يموت الرجال
  • استسلام من إستسلموا
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة صفا غنيم
  5. علي جبين القمر - الجزء الثاني

                               "الفصل الحادي عشر"

                                         "طيف"

أغلق "ريان" زجاج نافذته ، عائدا إلى فراشه ،  الذى جلس به ، مستندا بظهره إلى الخلف ، ماسحا على شعره الكثيف الناعم ، بأنامله الطويلة البيضاء ، ظل شارد فى الفراغ  أمامه ، لا يعرف ماذا عساه أن يفعل ، كي يمر هذا اليوم الطويل ؟! قد رتب ظروفه وساعات يومه ، على السفر مع أبيه ، ظل يمني نفسه ، بجولة عبر حدائق النخيل والعنب بمنشية  أبو القاسم ، والثرثرة كثيرا مع جده "أمين" وعمه "حمزة" ، وكم كان يحسب الساعات ، من أجل أن يقتسم مع أبيه  ، حضن جدته"آمنة" ، ويشبع جوعه من طعام دادة "سعدية" ، تنهد بقوة عندما شعر أنه فجأة ، وبدون ذنب خسر كل ما تمناه  ورتب له ، بسبب تفكير أمه ،  الذى دوما ما يكون على غير هواه وما يحلم به ، مد يديه يفتح أحد أدراج الكوميد  ، بجوار فراشه ، أخرج منها أحدى الروايات يقرأ بها ،علها تستطيع أن تسقط ساعات الأنتظار ويعود أبيه ، فهو الوحيد الذى يفهمه ، دون كلام ويشعر بما يحمله صمته ، يشعر معه أنهما روح مقسومة بين جسديهما ، أخذ يقرأ في روايته حتى توقف أمام كلمة حب قائلا:

-أين هذا الحب الذى  أقرأ عنه فقط فى الروايات ولا أجده حولى ؟!  لقد كفرت أن هناك شئ موجود أسمه حب ، ومن أين لي أن أؤمن به ، وأنا لم أراه حتى بين من أحيا معهم ؟! بين أبي وأمي ، أنني حتى الأن لم أعرف ما السبب وراء ما بينهما ؟! ولم هذه الفجوة ، التى تورثهم كل هذا الجفاء ؟! كل ما توصلت إليه  ، أنهما لم يكن هناك ما يربطهما من حب يوما ما ، كان زواجهما زواج مصلحة ليس أكثر ، حقا نصير بلهاء حينما نعتقد أن الحب ، من الممكن أن يأتى بضغطة زر ، أو عندما ننام ونستيقظ نجده يغفو بجوارنا ، الحب يحتاج إلى معطيات ، كى يعطينا نتائج ترضينا  ، وتحملنا على المضى فى الحياة ، الحب يشبه الطفل ، علينا أن نهتم به ونحتويه كي يكبر ويشتد  ويظللنا بظله ، ما أراه يحدث هنا ، بهذا البيت بعيدا كل البعد  ، عن شئ أسمه حب ، لا أدري هل سوف أجده ، أنا الأخر يوم ما ؟ أم سأصبح نسخة ثانية من أبي ، أبي  أشتقت إليك وإلى ضحكتك الحلوة ، التى تمسح على قلبي ، فتجعله بردا وسلاما ، أعلم أنك تبحث عن الحب وتفتقده ، لكن أنت المحق فى كل هذا ، محق لأنك لم تختر بحريتك،  من تسكن معها وتعطيها قلبك ، أعتقدت أن الحب سوف يأتي ، ونسيت أنه من الممكن ألا يأتي ، وأن يكون طريقه ليس نفس الطريق الذى تسير فيه ، والله يا أبي أريد لك أن تجد من تحبك ، كما أنت دون أن تطمس شخصيتك وتغير طباعك ، لكن هل تراك وجدتها ؟! وتخفيها بين طيات نفسك كى لا يراها أحد ؟ وإن كنت كذلك ، لماذا تخفيها يا أبي ؟!  فهى أكبر من أن يخفيها أحد ، مؤكد أنها تستحق أن تعترف بها أمام الجمع ، أن تقول بكل ثقة وبكل فخر ، تلك هى المرأة  ، التى أستطاعت أن تكسر الحواجز حولى نفسي ، أنها المرأة التى بدلت ظلمة أيامي نور وبرودته لدفء ، سوف أكون بجوارك  ، لا تخشي شئ علي ، لن أكون كالباقين ،  وأقف ضدك ، فأنا أحبك وأريد لك أن تحيا بعيدا عن هنا ، بعيدا عن الجفاء والقسوة والكره ، ليتك تفعلها يا أبي ، كي أفعلها أنا الأخر ، فعندما نجد من يحيون معنا يحبون ، نرى النور فى كل شئ  ، وقتها فقط يصير بمقدورنا ، أن نختار دون خطأ وأن نحيا دون خوف ، أوقفته دقات متتابعة على باب  غرفته ، رفع رأسه عن الكتاب وقبل أن يجيب الطارق ، فتح الباب وطلت أمه من خلفه ، باحثة عنه  بالغرقة ، وجدته جالسا كما هو فوق فراشه  ، ينظر إليها دون كلام ، دلفت للداخل قائلة :

-سوف أذهب الأن إلى حفل أحدى الجمعيات الخيرية ، وبعدها سوف أذهب لتناول العشاء مع مجموعة من صديقاتي ، هل  تريد مني شئ قبل أن أغادر ؟! لم يرفع عينيه عما كان ينظر به وهو لا يكاد يري  الكلمات أمامه قائلا:

-لا أريد شئ ، وإن كان الحال كذلك ، وتعلمين يا أمي أنك ستذهبين لحفل خيري الليلة ، ومن بعده عشاء ، وسوف تتركيني هنا بمفردى ، لماذا لم تدعيني أسافر مع أبي ؟ لم تذكرتي فقط ما تريدين ونسيتي ما أريده أنا ؟ فتحت حقيبة يدها الجلدية  ، ذات الماركة الإيطالية ، أخرجت منها قنينة عطر فرنسية ، تضع منها فوق ملابسها قائلة :

-لأنني كما أخبرتك أريد لك الأفضل ، من الممكن أن تشغل بالك بأى شئ نافع ، لن أتأخر عليك ، غاردت الغرفة ، مغلقة الباب خلفها ، دون أن تنتظر منه رد ، أبتسم "ريان" أبتسامة تقطر أسي ، أغلق الرواية التى كانت بيده  مُلقي بها بجواره ، نهض متجها إلي الشرفة الواسعة ، المطلة على حديقة الفيلا ، فتحها ووقف بها يجذب بعض أوراق  ، من غصن شجرة اللبلاب الملتفة حول سورها الحديدى ، شعر فجأة بنسمة باردة ، تضمه وتمسح ملامحه ، أغمض عينيه مستسلم لها تماما ، كطفل صغير أستسلم لحضن أمه  ، ودفئه بليلة شتوية ، شعر بطيف بجواره ، نظر يري من ، رأي وجه جميل به جمال الملائكة ورقة الفجر ، أبتسم له كأنسان مخدر ، سُلبت منه إرادته ، ظل هكذا ، يحاول أن يحفر ملامح هذا الوجه بقلبه ، سألها ما أسمك؟!! هل أنتِ حقيقة أم يهيئ لي؟ مد يديه كي يُمسك به ، لكنه تلاشي  ك دخان فى الهواء ، شهق بقوة ، عندما وجد يديه فارغة وكأن شئ لم يكن ، أغمض عينيه  ، عاد  يفتحهما كي يجده ثانية ، لكن ما وجد سوى الفراغ حوله ، ضم نفسه بيديه يستجدي بهما الدفء ، شعر أن الهواء حوله يسري بجسده رعشة برد ، عاد للداخل مغلق زجاج الشرفة خلفه ، وضع كفيه فوق وجهه ، كي يفيق مما هو فيه ، أشتم بهما عطر جميل لم يمر عليه من قبل ، أغمض عينيه متعجبا ، من أين جاء هذا العطر؟! هو ليس عطره ولا عطر أحد ممن يحيون معه ، إذن ما رأيته كان صدق ولم يخيل إلي ، كان وجه حقيقي وليس ضرب من جنون ، من إذن ؟ وأين أختفت ؟ يا الله أهي رسالة لك مني ، تخبرني بها أننى لست وحدي ، وأن هناك من يبحث عني مثلما أبحث عنه ؟ أم أنه طيف يبحث هو الأخر عن ونس له ؟! إن كان هذا أوذاك  ، فأنا فرح به فقد زارني في وقته ، دوما عطايا الله تأتينا فى وقتها ، سوف أجل منه مدينة أخري ، أهرب إليها كلما جافانى واقعي ، داعيا الله أن يصير حقيقة يوما ما ، يكفي أن هذا الطيف شعر بوحدتي ، وجاء يخبرني أنني لست بمفردي ، سوف أخلد للنوم عله يزورني مرة ثانية بالحلم .

                                     "الفصل الثاني عشر"

                                         "شئ منكِ"

يرحلون  تاركين خلفهم أشيائهم الصغيرة تعذبنا ، وكأنهم قد أقسموا ، مهما غابوا يبقون فى أحشائنا ، يعقدون ميثاق بين ذكرياتهم ألا تتركنا وحالنا ، يهدوننا أشياء كي يعذبون بها أرواحنا ، ليتهم حينما يقررون الرحيل ، يحملون معهم بقاياهم ، ليتهم ما كانوا يوما تذكرون بهداياهم ، أشيائهم حولنا فى كل مكان ، حتى فى الهواء الذى نستنشقه  شئ من عطرهم ، يرحلون عن المكان والزمان ، لكنهم تركوا لنا شئ فوق كل شئ ، حتى إذا ما قررنا نسيانهم ، رأيناهم  بين سلام أيدينا وضحكاتنا حتى الهمس والصمت يحمل شئ من طيفهم.

صعد "زين " إلى غرفته ، كي يبدل ملابسه ، بجلباب صعيدي من ملابس أبيه ، ما زال يرتديه كلما حضر إلي منشية أبو القاسم  ، وكأنه يستجدي به ريح أبيه ، وقف بمنتصف غرفته التى ما تزال على حالها ، منذ أن قرر الرحيل ،عن البلدة بأكملها والحياة بالقاهرة ، أبتسم  إبتسامة طفيفة وهو يقلب عينيه بأركان الغرفة ، وكأنه يري  ، سنوات عمره أمامه من جديد ، شعر أن كل شئ بالمكان يبتسم له ، يحتضنه ، شعر بهدوء وراحة نفسية بعثت بقلبه الأمان ، الأماكن أيضا تشعر بأهلها ، تتنفس حينما تراهم ، وتموت عندما يرحلون بعيد عنها ، همس بصوت منخفض قائلا:

-ليت حياتنا بأكملها بمن يحيون بها ، يبقون مخلصين كتلك الجدران ، ولا يتغيرون مع الزمن ، ليتهم يظلوا يحملوننا بقلوبهم ، ولا يجعلون النسيان  يقترب منا ، تنهد متقدم من خزانة ملابسه التى تُصر أمه ، أن تبقي نظيفة كباقى الغرفة ، أمرة "سعدية " أن تنظفها مرة كل أسبوع ، وكأن صاحبها لم يرحل عنها منذ زمنذ ، نظل باقين على عاداتنا مع من نحبهم ، حتى وإن تركونا ورحلوا ، كأننا نمد جسور بيننا وبينهم ، مد يديه يفتح خزانة الملابس ، مرر أصابعه فوق ملابسه القديمة ، التى أصر أن يحتفظ بها كما هى ، لأن كل قطعة منها تحمل ذكريات له ، شاركته لمسات من كانوا يملؤون حياته نور ودفء ، دس يديه تحت بعض منها ، أخرج علبة قطيفة خضراء صغيرة ، مسح عليها برفق ، وقد أحتلت ملامحه إبتسامة مكسورة ، سمع صوتها أتي من أعماقه قائلا:

-لقد أخترت لون العلبة أخضر ، لأنه يشبه قلبك ، وما يحمله من خير وحب يا "زين " أختطفت العلبة من يديها وهو يضحك قائلا:

-أريني ما بداخلها ، أشعر أنك أنت من سوف تتقدم لأبي ،  تطلبين  يدى منه ، ضربته يومها فى كتفه برقة ، تاركة  إياه ماضية ناحية الساقية ، التى كانت تدور فتخرج معها الماء عذب رقراق ، يغسل هموم  كل  من يراه ، توقفت أمامها تنظر إلى مياهها ، وهى تنحدر فتلقى على وجهها وجديلتها الذهبية قطرات منها ، لحق بها واقفا خلفها ، مقترب من أذنيها هامسا:

-هل أخجلكِ كلامي ؟ أم أنك لا تودين أن أرى حبك لي يحتل نظرة عينيك ؟! عقدت يديها  أمام صدرها قائلة :

-لا شأن لك بي ، وسوف تري من منا سوف يتقدم لخطبة الأخر ، وقتها سوف أجعلك تنتظر بدل اليوم عام ، كى أصرح بموافقتي على الإرتباط بك ، فلتت من بين شفتيه ، إبتسامة تحمل كثير من الإنفعالات وصوت ما زال يتذكره يضحك قائلا:

-من قال لكِ أنني سوف أترك لك فرصة للتفكير ؟ أنا رجل صعيدي الجذور ، لا تنسين ذلك ، وضعت يدها بخصرها قائلة:

-من أين لك  بتلك الثقة أخبرني؟! تنهد مشيرا بكفه ناحية قلبه ، قائلا بصوت يشوبه الحنان:

-هذا من أخبرني تلك الحقيقة ، هذا من يقسم لي كل صباح ، أنه ينبض فقط لأنكِ تحيين به ، كتبت أسمك فوق كل خلية من خلاياه ، فصار لا يعرف كيف يكون العيش بدونك ؟! قلت لك أنني لن أنتظر ردك ، بالقبول على الزواج مني ، لأنني وقتها لن أترك المكان ، حتى تكونين معي بيدى ، لن أنتظر مزيد من الوقت ، وأسمك مقترن بأسم ، غير إسم "زين العابدين" ، يكفي كل دقيقة تمر بي ، وأنت بعيدة عنى  ، تطعنني كخنجر مغروس بصدري ، كلما جئت أتنفس مزقني سائلة إياي ، كيف تحيا وهى بعيدة عنك آيها الأبله ؟! أحبك ولن أتركك لأحد غيري ، ليس غرور أو تجبر مني ، لكنني أعلم أنك تحبينني أكثر مما أحبك ، ظلت ناظرة إلى الأرض ،  تحفي خجلها دون أن تنطق بكلمة واحدة ، أقترب منها حتى أصبح يقف أمامها وجه لوجه ، لكنها ظلت ناظرة إلى الأرض ، مد أنامله يرفع وجهها ناظرا إليها ، رأي دموع تجمعت بعينيها ، شعر بوجع يسرى بروحه ، فزع لما رأه من دموع ، قائلا بلهفة وهو يمد يديه يمسح دموعها :

-لم تلك الدموع ؟ هل شئ يؤلمك؟ هل قلت شئ أزعجك ؟ نظرت إلى عينيه ، حتى غرقت بهما قائلة  وهى تحاول أن تبتسم:

-أبكاني كلامك الحلو ، الذى مسح فوق  قلبي ، فأوقد فيه حنين جارف ، أبكاني حبك الذى أحمد الله على أن رزقني  إياه ،  دون غيرى ، تلك الدموع دموع باردة  ، تطفئ نار الروح فلا تخف ، حتى تلك الدموع  ، أنت فيها تخبرك أنها حنين لك ، "زين " كلما أحببتك ، كلما زاد خوفي ، تنهد بشدة وكأنه يزيح عن قلبه ، وقع كلماتها التى قبلت جبينه دون أن تلمسه قائلا:

-أشعر بخوفك ، أعلم كل ما يدور بعقلك ، أشعر بالشئ قبل أن تنطقيه ، حتى وجعك أشعر به قبل أن يقع بكِ ، أظل أستحلفه بالله ، أن يتركك ويأتيني بدلا منكِ ، ما بيننا حب طاهر نقي ، الله وحده شاهد عليه ، لا تخافي لن يضيعنا الله ، وأنا لن أتركك ، هذا وعد مني أمام الله ، صدقيني ليس بيدي ولا أمتلك القدرة على تركك ، لأنني لا أمتلك القدرة على الحياة دون روحي ، والأن  أتركينا من كل هذا ، أريني هديتك التى تغفوا داخل تلك العلبة الجميلة ، بلهفة طفل صغير أهداه أحدهم قطعة سكر ، علت ثغرها إبتسامة ، ممسكة بالعلبة من يديه ، فتحتها قائلة:

-بحثت كثيرا ، عن هدية تظل معك دوما تذكرك بي ، لم أجد غير هذا الخاتم الفضي ، الذى كتبت أسمك بقلبه ، كما كتبته بقلبي منذ زمن ،  إتسعت عيناه  أعجابا ،  بالخاتم  الذى كان يحمل فص أسود اللون ، حُفر عليه  بالخط الكوفي أسم " زين" ، أمسك بالخاتم يقلبه بين أصابعه ، قائلا بفرحة:

-كم هو جميل ورقيق ، لا تسعني الكلمات ،  لتعبر عن مدى فرحتي وإمتناني  لما فعلتيه ، عليك أن تضعيه أنت بأصبعي ، هيا  وليشهد الله ، أننى لن أكون لأمرأة غيرك ، مدت أناملها تنتزع الخاتم من علبته ، برعشة واضحة  ، وضعته بأصبع يده اليمني ، تحسسه برقة ، مقرب إياه من شفتيه يلثمه قائلا:

-لن أخلعه من أصبعي ما حييت ، عاد من سفره الطويل داخل ذكرياته ، على صوت دقات على باب غرفته ، وصوت "سعدية" قائلة:

-سيدي "زين " ، خالك ينتظرك  ، كي  تذهبا سويا إلى الأحتفال بليلة النصف من شعبان ، أغمض عينيه يستجمع نفسه  ، يلملمها من شرودها وترحاله قائلا:

-دقائق وألحق بك يا خالة ، مضت "سعدية " تاركة إياه ، يهدأ من دقات قلبه التي علا صوتها وكأنها هى الأخرى أتية من سفر بعيد ، مد أصابعه ،  يمسك بالخاتم يجعله يغفو مكانه القديم يحتضن أصبعه هامسا:

-حاولت مرارا وتكرارا أن أحيا بدونك ، وإن كنت صادقا سوف أقول ، حاولت أن أحيا دون من أهدتني إياك ، لكنني  إكتشفت أنني كشجرة ،  أُنتزعت من جذورها عنوة ، أفهموها أنه من الممكن أن تحيا بأرض أخري ، وفى النهاية أكتشف أنه كان غبي لأنه صدق تلك الكذبة ، سوف تظل بأصابعى لأنني حينما  انتزعتك ، تاهت مني خطواتى  ، وضلت  قدمي الطريق ، حتى أنا لم أعد أجدني .

                                "الفصل الثالث عشر"

                                     "لن  تبرحني "

نولد ومكتوب على جبين أيامنا ،أشخاص مهما سقط من أعمارنا ، لا يسقطونا من بين ضلوعنا ، يظلوا متشبسين بأرواحنا ، وكأننا إن نسيناهم نضل الطريق إلى أنفسنا ، تمر الأيام وتسقط السنون ، يشيب الشعر ، وتحفر التجاعيد طريقها بين ملامحنا ، لكنهم يبقون كما هم ، غافيين بأمان داخل عروقنا ، نُخفيهم عن الأعين ، لا نبوح بأسمائهم ، نحتضن وجوههم ، يعتقد من يرانا أننا فارغين غير محملين بأرواح غير أرواحنا ، لا يعلمون أننا نمتلك أرث ، لا يعرف أحد حتى أسمه ، ألا حينما يرون أطيافهم تتراقص بأحداقنا ، نبتسم فى شرود ، إذا ما همست أصواتهم فى أذاننا ، نتنهد إذا ما أستبد الشوق  بنا ، ونهشنا الحنين إلى أحضانهم ، تختلط الدموع بأعيننا ونحن نلقي عليهم السلام فى سرنا ، وقتها فقط يُرفع عنا الغطاء ، الذى  أسدلناه على أسرارنا ، ليقر ويقسم أن هنا بأيسر الصدر من أقاموا محراب لهم ، نذبح فوق أعتابه ، أعمارنا التى  نذرناها  قربان لهم .

هبط " زين" الدرج  ، حيث خاله "أمين" بانتظاره ، وجد خاله جالس على أحد المقاعد ، يمسك مسبحته يسبح عليها كما هى عادته دوما ، ألقي "زين" عليه نظرة من بعيد ، وجده غارق فى شروده ، شعر أنه يفكر فى شئ أستحوذ على كل حواسه وحضوره ، جعله لا يشعر بشئ حوله حتى وجوده ، لم يشأ أن يقطع خلوته مع نفسه ، الشرود دوما حالة خاصة ، تسرق الإنسان من كل شئ حوله ، يذهب به إلى عالم أخر ، صنع على مقاسه لا يشاركه به أحد ، يهرب إليه حينما نهشه الحنين إلى وجه يحبه ، أو ذكري حُفرت بداخله ، حينما نستوحش الدنيا من حولنا ، لا نجد لنا سبيل ، سوى الشرود والسفر ، عبر رحلة بعيدة عن الأرض ، رحلة نضع بها حقائب أودعناها مشاعرنا ، نُفرغ  فوق مرساها غربتنا ، جلس "زين" على مقربة من خاله وهو صامت ، يعرف فى أى شئ يكون شروده ، يشعر به كما يشعر به هو الأخر ، كم مرت من سنوات وكم سقط من عمر وهو كما هو ، على نفس حاله منذ ثلاثون عاما وأكثر ، ما يزال يتذكرها ويتذكر حبه لها الذى طالما حكى له عنه ، والذى ما زال يتذكره "زين"  كتذكره لها ، ما زال يري  ضحكتها التى كانت ممتلأة حياة ، وهى تهديه قطع الحلوى وتقبله ، مدعية أنه يشبه خاله كثيرا وذلك سبب حبها له أيضا ، ما زال يتذكر كيف أستيقظ ذات صباح ، على صرخات خاله ، الذى لم يره بعدها يصرخ أو حتى يبكي على شئ ، وكأنها حينما غابت ، سلبته القدرة على التعبير والأحساس بكل شئ ، تنهد "زين" وهو يطالع التجاعيد بوجه "أمين " ، سامع صدى صوته الذى ما يزال عالق بحبال قلبه وهو يبكي قائلا:

-لقد أختفت "مودة "  يا "آمنة" ، أختفت وكأنها كانت سرابا  ،ولم تكن حقيقة ذات يوم ، بحثت عنها طويلا لكن دون جدوى ، ما زال أيضا يتذكر نظرات أمه الثابتة ، والتى تحمل من البرود من يشعرك أن ما يحدث لا يمثل لها أى شئ ، وهي ترفع حاجب عينيها ، تحاول أن تخفى أبتسامة تراقصت فوق ملامحها قائلة:

-هون عليك الأمر يا "أمين" ، ذهبت مثلما جاءت يوما إلى المنشية ، دون أن نعرف لها أصلا من فصل ، ذهبت وأخذت شرها معها ، من البداية لم تكن لك ، أو حتى تليق بأصلك وإسم عائلتك ، أنت فقط يا أخي ، طيب القلب ولم تتعلم بعد كيف تحسن الأختيار؟ أحتضن خاله بنظرة  إشفاق وأعتذار عندما رأى ، من جديد وجهه الشاحب ، و أنفاسه  المتلاحقة ، كمن طعن بخنجر من يد أحبها ، وهو يحاول أن يكون ثابت ، يلتقط أنفاسه الأخير ، رأه مرة أخرى يضحك والدموع تتكاثف بعينيه ، تنذرعن سقوطها قائلا:

-""آمنة" إن كان بمقدوري  ، أن أطعن بخنجر مسموم فلا بأس ، سوف أتحمله بشجاعة محارب ، الشئ الوحيد الذى لن أتحمله ، أن تكونين أنتِ خلف هذا الخنجر ، لم أتخيل للحظة ، أن تكون الطعنة منكِ أنتِ ، يا من تقاسمنا معا ، رحم واحد واسم واحد ، اقسمي أنكِ لا تعرفين ، أين أختفت "مودة " ؟ وسوف أسامحك،  واعتبر أن لا شئ حدث ، لكن أستحلفك بحياة "زين" ولدك الوحيد ورجائك من الحياة ، إن كنت تعرفين أين ذهبت ؟ أخبريني أين مكانها ، يومها أشاحت أمه بوجهها بعيدا عن خاله ،  كأنها لا تريد أن يري ،  ذنبها فى عينيها ، وقد خطت خطوتين أستعدادا لأن تغادر المكان ،  قائلة وما زالت تعطيه ظهرها :

-قلت لك مالي أنا ومال مودتك ، التى جلبتها لنا من الغجر ، ليس من مقامي أو مقام عائلتي أن أعرف شئ عنها ، تُراها قد وجدت رجل غيرك ،  أكثر ثراء ، أو بمعنى أدق أكثر غباء ، وهربت معه ، لم تكد تنهي جملتها تلك ، حتى خرج المارد النائم بصدر " أمين" ، لكنه مارد أكثر قسوة وشر ، لأنه مارد مطعون بقلبه وكرامته ، أخذ يهدر بصوت خلت نبرته من الحياة قائلا:

-طيلة عمرك لا قلب لكِ يا "آمنة" ، تحسبين الناس بما لديهم وما يملكون ، ليست للمشاعر نصيب فى حياتك ، حتى قلبك أوقات يُخيل إلي ، أنه وضع بصدرك ، كى ينبض فقط ، ينبض دون إحساس ، دون رحمة ، أو حتى حياة ، أعلم جيدا أنكِ وراء ما حدث ، أقسم بالله العظيم أن أختفاء"مودة"  لن يبرح يديكِ ، لكن سوف أخبرك شئ هام ، لم تضعينه بتفكيرك وأنت تفعلين فعلتك ، مهما حدث ومهما مر من زمن ، لن أتزوج غيرها ، لن تستطيعي مهما فعلتِ ، أن تنسيني إياها ، تعرفين لماذا؟ لأن من وضع محبتها بقلبي ، ومحبتي بقلبها ، هو فقط من يملك أن ينزعها من بين ضلوعي ، أمسك "زين" بالخاتم الفضى ، الذى  يغفوا  فى  أصبعه هامسا:

-هل كُتب علينا ، أن لا يتبقي لنا شئ من أحبتنا سوى الذكريات؟ خرجت منه تنهيدة قوية ، شعر بها "أمين" ، وشعر بوجود "زين" ، الذى نظر إليه قائلا وهو يحاول أن يبتسم:

-منذ متى  وأنت هنا ؟ لم أشعر بك سامحني ، إقترب منه يجلس بمقعد مجاور له ، واضعا يديه فوق كتفه قائلا:

-ماذا بك يا خالي ؟ أم تريد أن أناديك يا أمين سري ، كما كنت دوما أناديك به ؟ أغمض عينيه الأخير قائلا:

-أرجعتني للوراء سنوات طوال يا "زين" ، كم أشتقت لأن تناديني بهذا الإسم ، كم أشتقت لأن تروي لي أسرارك ، كما كنت تفعل دوما ، ليت الأيام لم تمر ، ليتنا لم نكبر ، ليتنا بقينا كما نحن وبقي معنا أحبتنا ، أستند " زين  بظهره إلى ظهر مقعده قائلا:

-لم يعد هناك أسرار أخفيها عنك ، لم يعد هناك ما يستحق أن أرويه علي مسامعك ، وكأن لم يعد هناك شئ له قيمة بحياتي ، بعد أن ضاعت حياتي ، أعتدل فى جلسته واضعا رأسه فوق كفه ناظرا إلي "أمين" مردافا :

-لقد أكتشفت حقيقة  ، تخبرني أن لا شئ يستحق أن نرويه ،  إن كان خاليا من الحب ، علمت بعد مرور  تلك السنين ، أن الشئ الخالى من الحب والرأفة ،  لا يخلد بذاكرتنا ، لا يمكث بداخلنا ، لا يشغل حيز من أرواحنا ، وكأننا لا نصير شئ مفهوم وملموس بغير الحب ، أنا نفسي صرت هكذا، مجرد إسم ومنصب ، لكن دون روح ، لم أعد أشعر بشئ حولى ، أحسبها أيام تمر وتأخذ من عمري معها حتى يقضي الله أمره ، ران صمت بالمكان ،  وكأن كلا منهما نبش ذكرى دفينة بداخل الأخر ، فأحيا بها جرح ، وبُعث الألم من جديد ينهش أحشائهما ، حاول " أمين" أن ينهي ما حدث ، نظر إلي إصبع "زين" ، رأي الخاتم يغفو به ، أبتسم أبتسامة تقطر أسي ، مسح بيديه فوق وجهه ،  كمن يريد أن يمنع مشاعر مختلطة ، بأن تطفوا وتخرج من مكمنها قائلا:

-من قال أنك تحيا بل حب ؟ من أخبرك أن حياتك صارت خالية من القيمة ؟ تُراك تكذب أنت على نفسك وتوهمها بهذا الهراء ؟ أنت ما زلت تحب ، حياتك مزدحمة بحبيبة وضعتها مكان عينيك ، حتى وإن صارت ذكرى مر عليها زمن ، آلا أنها ما تزال تقبع هنا ، أشار بيديه إلى قلبه وصمت.

ضحك " زين " بصوت مرتفع ، كمن يحاول أن يخفي ضعف ، كاد أن يترك ضلوعه ويصرخ معلنا عن وجوده قائلا:

-لقد نسيت منذ زمن يا "أمين" ، أما زلت تتذكر ما كان ؟!  لم يجيبه "أمين" بكلام ، كل ما فعله أن مد أصبعه  ، يتحسس الخاتم ذات الفص الأسود بأصبعه قائلا:

-كاذب ، إن كذب لسانك فلن يكذب قلبك ، وأنا دوما أري قلبك ، لو كنت نسيت كما تدعي ، ما كان هذا الخاتم هنا الأن ، مكتوب أن نحمل غصة الفراق بحلوقنا باقى أعمارنا ، مكتوب أن نتعذب بأشيائهم الصغيرة ، لأننا نراهم دوما يتراقصون بها ، وكأنهم أهدونا إياها ، يوما ليجعلوا منها سوط يلهبنا ، يعذبنا على ما فعلناه ، نهض فجأة واقفا يجذبه من يديه قائلا:

-هيا ، هيا نذهب إلى الإحتفال والناس التى تنتظرنا ، نهض "زين"  يسير بجوار خاله الذى وقف فجأة ضاربا جبهته بيمينه قائلا:

-سامحني الله ، لقد نسيت تماما أن أخبرك  ، بأن "البدر" جاء إلى هنا يسأل عنك ، ويخبرك أنه أشتاقك كثيرا ويريد أن يراك ، مؤكد  سوف تجده  هناك  بالاحتفال ، فكما تعلم هو لا يترك تلك الليلة مهما حدث ، أمسك" زين" بيد خاله فجأة يوقفه ، ألتفت إليه "أمين" متسائلا فى حيرة :

-ماذا هناك ؟ هل تريد قول شئ ؟! نظر "زين" إلى الأرض قليلا ، ثم عاد ينظر إليه قائلا بصوت ممزق شعر به "أمين" قائلا:

-هل من الممكن أن أراها الليلة  يا خالي؟ هل سيرزقني  الله رؤيتها مرة أخرى ، ويجعلنى أكحل عيني برؤية وجهها ؟  أشتاقها حد الوجع ، ضمه خاله الي صدره بقوة ، فقد أوجعته كلماته التي كانت كصفعة فوق وجهه ، شعر بألمه وما يخفيه من وجع ، ضمه يربت كتفيه هامسا:

-الله أحن علينا من كل شئ ، هو يعلم ما عانيت ، يشعر بما تقاسيه ، هو وحده قادر أن يمسح على قلبك ، حتما ستراها ، حتما لن يجعلك تتألم ، هيا بنا وكن على يقين أنك ستراها .

                       

    

                                  "الفصل الرابع عشر"

                                     " أكتمل القمر "

تمر الأيام ، نكبر ، نصير أكثر عقلانية وهدوء ، نصير أكثر صمتا ، لكنه صمتا مزدحم بالكلام ، صمت لم يجد لغة قادرة عن التعبير عنه ، وكأن الأشياء كلما عظمت ، كلما خبت فى سكون ، سكون من طراز خاص ، لا يحتاج للكلام ، بل يحتاج لأن يفر بروحه ، من كل خيبات حسن النوايا يغلق عليه بابه ، ليضع عن كاهله ما يؤلمه ، يبكي ، يصرخ ، يثرثر ، يمزق أوراقه التى كتبها ، معتذر للعمر الذى أضاعه ، وهو يقسم أن هناك من هم خارج حدود الكون ، لكن كل ذلك أيضا يفعله بصمت ، تماما كمجذوب ذهب عقله فصار صمته هو كل ما لديه .

وقفت "غالية" أمام المرآة فرحة كطفلة صغيرة ، أخبروها أن غدا العيد ، أخذت تهذب ثوبها الوردي اللون ، ذات النجوم البيضاء الصغيرة ، تاركة جديلتها حرة خلف ظهرها ، وضعت يديها بخصرها تتمايل كغصن لين ، يذهب مع الريح طواعية قائلة:

-"قمر" أنظري إلي ، ما رأيك ألا أشبه نجمات السينما  ، أصحاب الصور المطبوعة  فوق أغلفة المجلات ، التى يجلبها لي بائع الجرائد كل أسبوع ؟!  تنظر إليها "قمر" وهي تُحكم رباط وشاح أسود حول رأسها ، يشبه تماما جلبابها صاحب ذات اللون ، ليشعر من يراها ، بأن وجهها حقا قمرا وسط سماء يملأها الليل ، كان بياض وجهها  وصفائه ، ولون عينيها يصنعان معا  لوحة فنية بديعة الصنع ، لا يملك من يراها ، ألا ويسبح بالله قائلة :

-أنت أجمل بكثير من كل ما ذكرتي ، أنت جميلة  جمال طبيعي من صنع الخالق ، أما هم فنصف جمالهن صبغات وألوان وعمليات تجميل ، أنت جميلة يا "غالية" بروحك المرحة وطفولتك البريئة التى مهما كبرتي لا تتركك أبدا ، لكن الليلة سوف تجلبين لأبي مشاكل كثيرة ، تلتفت ناحيتها مشيرة إلى نفسها بأصبعها بلهفة قائلة:

-أنا يا "قمر" ؟ لم تقولين ذلك ؟ أنا لا أفتعل  مشاكل مع أحد كما تعرفين ، ضحكت الأخيرة بصوت مرتفع وهى تفتح لها ذراعيها قائلة:

-تعالي فى حضني أولا وسوف أخبرك ، تجري ناحيتها "غالية" ، ملقية بنفسها بين ذراعيها ، تمرر "قمر" كفها فوق شعرها ، طابعة قبلة طويلة فوق رأسها قائلة :

-سوف تجلبين  له المشاكل ، لكثرة المعجبين بكِ ، الذين سوف يلاحقوننا الليلة حتى باب الدار ، تضحك "غالية" وتضمها بشدة قائلة:

-حسنا هيا بنا الأن إلي الأحتفال ، كي أري هؤلاء المعجبين ، لقد تأخرنا علي "زاد" ، وهو ما يزال ينتظرنا بالأسفل مع أبي ، هيا يا "قمر" هيا ، تتركها وتجري كمهر صغير جامح ، لا يوقفه أحد ، ما زال لا يعرف شئ من خبث الحياة ، تميل "قمر" بجذعها فوق فراشها ، تلتقط شال حريرى أسود ، تخفى به الباقى من جبهتها ، ليضفى عليها كبرياء ، ممزوج بمسحة حزن جميلة ، أغمضت عينيها على شئ بداخلهما ، لا يراه أحد غيرها ، وصلت إلي أبيها ، الذى جلس  وبجواره جلس "زاد الدين"  ، يتجاذبون سويا أطراف الحديث ، الذى قطعته "غالية"بصخبها الطفولى قائلة :

-أخبرني يا "واد" هل بمنشية  "أبو القاسم" من هى جميلة مثلي ؟! ضحك أبيها يضرب كفا بكف فى حين نهض "زاد" من جواره ، ممسك بيدها يدور بها فى المكان قائلا:

-دعيني أري  أولا ، وبعد ذلك نقرر ، هل هناك من هي أجمل منكِ أم لأ ؟ دارت مرتين فى المكان كفراشة خفيفة ، قائلة بحركة تمثيلية من يديها ، التى رفعتها لأعلى بكبرياء قائلة:

-أخبرني بعد أن رأيتني ، وأنا أطير كفراشة ما رأيك بي ؟ أنحني لها "زاد"  ، إنحنائة خفيفة قائلا:

-مؤكد أنت أجمل فتاة بالمنشية كلها  ، وإن كان هناك من تسبقك،  ولا يستطع أحد اللحاق بها ، مهما فعل ومهما مر الزمن ، تعلقت عينيه  بوجه "قمر" ، التى وقفت على مقربة منهم ، تسمع وتشاهد ما يفعلانه ، وعلى ثغرها أبتسامتها الرقيقة ، نظرت "غالية" حيث نظر "زاد" مقتربة منه هامسة :

-إن كنت تقصد "قمر"  ، فأنت صادق فيما قلت ، لم  تكذب ، لكن أخبرني ما سر تلك اللمعة التى أراها بعينيك كلما رأيتها ؟ تلعثم  "زاد" وأرتدد ،  ببصره سريعا ينظر إلى "غالية" ، التى غمزت له بعينيها ، بخبث وهى تضرب كفا بكف ، تركها متجه ناحية عمه ، مائلا على يديه يقبلها قائلا:

-سوف نذهب الأن يا عمي  ، لا تقلق علينا ، سوف نعود سريعا ، ولن  نغيب عليك ، أخبرني هل تريد مني شئ أحضره لك معي  وأنا عائد من الإحتفال ؟ رفع عمه عينيه إليه قائلا:

-أحتاجك سالم غانم يا "زاد" ، أنتبه فقط على بنات عمك ، هم أمانة معك ، تعلم ما كنت أنوي تركهم يذهبون إلى هناك ، لولا وجودك معهم ، أحكم عمامته البيضاء حول رأسه ، والتى  تضفى عليه وقار  قائلا:

-لا تخشي شئ عليهن وأنا معهن ، سار أمامهن وهن يتبعنه ، ظلت عيني أبيهم عالقة بهم جميعا وهم يغادرون بوابة البيت الخارجية قائلا:

-الله معكم جميعا ، يحفظكم بحفظه ، يا رب  أجعلهم  فى معيتك وردهم إلي سالمين ، سار الثلاثة بجوار بعضهم البعض ، كان القمر مكتمل ، يُلقي بنوره فوق الطريق الترابي ، الذى يحده البحر من يساره ، والأراضى الزراعية الواسعة ، التى يمتلك "زين" نصفها بمفرده على يمينه ، رائحة نسمات البحر مع ضوء القمر ، خلقت جو مريح يدغدغ الأعصاب ، يشعر من يحيا به ، بأن كل ما يريده هو أن يصمت ، متأملا هذا الجمال ، ألا أن "غالية" أبت ذلك  ، تنحنحت قائلة:

-لم هذا الصمت ؟ هل أنتم صائمين اليوم عن الكلام ، ضحكت "قمر" التى تابعت سيرها دون التوقف أو النظر إليها قائلة:

-مهما كبرتي لن تتغيري ، حاولى أن تستمتعي بهذا الجمال حولك وأنت صامتة ، تعلقت "غالية" بذراع "زاد" قائلة:

-وأنت يا أبن عمي ، هل رأيك   نفس رأي "قمر" ؟ أبتسم لها قائلا:

-نعم  أوافقها الرأي ، أنظري إلي هذا البدر بكبد السماء  وسوف تعلمين أن "قمر" محقة ، هناك أوقات لا نحتاج الكلام  ،قدر إحتياجنا للأحساس ، توقفت "غالية" فجأة مصفقة بكفيها ، مطلقة صافرة طويلة قائلة:

-وقعت الليلة وسط أثنين هائمين ، بجمال القمر ونوره ، حسنا من العدل الأن أن نبدل أماكننا ، جذبت "زاد" بشدة من ذراعية ، ناحية "قمر " وهى  صارت مكانه قائلة:

-أبقي هنا بجوار "قمر"  ، تغزلا سويا معا ، بجمال المساء الساحر ، وأنا سوف أسير بمفردي عل الطريق ينتهي ، ونصل إلى الإحتفال ، صرت رعشة بجسد " زاد" ، حينما شعر بوجوده بجوار "قمر" ، التى رفعت شالها الأسود ، حول فمها تخفى به نصف وجهها ، حاول أن يكسر هذا السكون قائلا:

-يشبهك هذا القمر كثيرا حتى فى غموضه ، وإن كان غموضه مفهوم ، أما غموضك فقد طال يا "قمر" ، لم تجيبه ظلت صامتة ، وإن كان صوت تنهيدتها قد ضربت قلبه ، شعر أنه نهش ذكريات دفينة ، حاول أن يبحث عن شئ يقوله ، لكنه وجد نفسه يصمت وبداخله صوت يتردد قائلا:

-ليتك تعلمين كم أحبك ، ليتك تشعرين بشوقي ولهفتي وشغفي بك ، ماذا عساي أن  أفعل كي تنسي ما كان ؟ أزاحت "قمر" شالها من فوق وجهها قائلة:

-"زاد" أعلم مدى حبك وخوفك علي ، لكن ليس بيدي شئ  أفعله ، صدقني إن كان بيدي مقاليد قلبي ،  لفتحته لك وأسقطت من داخلي ، كل ما كان ، لكن أنت تعرف كل شئ وتعرف أن ما حدث لم يكن بالسهل على روحي ، لم يكن سهل عليك أنت وأبي كذلك ، لا تشغل بالك بحالي ، أبنة عمك قوية بما يكفي ، توقف الأثنين مرة واحدة ، كمن يحاول أن يسقط عبء الكلمات التى قالها والتى سمعها ، حاول "زاد" أن ينهي هذا الموقف أبتسم قائلا:

-نسيتي أن تخبريني ماذا ستحضرين من الأحتفال ؟ هل عروسة كعادتك ؟ أم حب العزيز؟ أبتسمت له بمرارة  قائلة:

-سوف أحضر الأثنين ، عادت "غالية" إليهما ، بعد أن كانت قد سبقتهما بعدة خطوات قائلة:

-هيا  أسرعا لقد وصلنا الأحتفال ، مدت يديها تجذب "قمر" من يديها تمضي بها داخل الإحتفال ، وقمر يهمس لها  قائلة:

-إنتظري "غالية" ، إنتظري ، قلبي يخبرني أن هناك شئ كبير ،  ينتظرني داخل هذا الأحتفال، وأن تلك الليلة تخفي لي مفاجأة أخشي على قلبي منها.

                            

                                  "الفصل الخامس عشر"

                  

                                           "البدر"

لا نحب أحد عبثا ، نحب من يحملون لنا بقلوبهم حب وود ، حتى وإن أختلف على ذلك الجميع ، نراهم الجمال نفسه ، وإن رأهم من حولنا خلاف ذلك ، نراهم بقلوبنا ، بمشاعرنا ، بأرواحنا ، لهذا نراهم على حقيقتهم ، دون رتوش أو تزييف ، حتى وإن كانوا كمجاذيب بخرق بالية ، نحبهم لأننا نري ،  نقائهم ولأنهم  يحبوننا دون أطماع أو مصلحة.

دلف "زين " وخاله أمين ،  إلى الحفل الكبير الذى  أمتد ،  بطول أرض أبو القاسم ونصبت به خيام  المغنيين والمنشدين وبائعي الحلوى وحب العزيز والألعاب ، رصت مقاعد كثيرة متناثرة ، ليكُون كل بضع مقاعد حلقة دائرية  ، بوسطها منضدة بيضاوية ، وفى منتصف الأرض حفرت أماكن لإشعال النار ، أرتفع صوت المنشد ، الذى يحضر كل عام لإحياء هذه المناسبة ، ومن حوله جلس الشيوخ والشباب ،  ينصتون إليه،  فى الطرف الأخر ،  من المكان تجمع النسوة والأطفال والصبايا ، يتحدثون ويحكون أخبارهم وأخبار القرية ، وقف " زين " يقلب عينيه بالمكان كمن يبحث عن شئ ، نظر إليه خاله فوجده هكذا ، أبتسم بصمت يجذبه من يديه قائلا:

-هيا يا "زين" نذهب لنجلس ، لو رأك أهل القرية سوف يتكالبون عليك ، كي يصافحونك ويرحبون بقدومك ولن ننتهي ، وأنت كما تعرف ، قدمي لم تعد كسابق عهدها ، لن أستطع الوقوف كثيرا عليها ، هم "زين " أن يتحرك معه ،  ليجد "حمزة" يخرج من بين الجمع الموجود بالمكان وهو يهلل مرحبا بقدوم أبن عمه وصديق عمره ، قائلا بصوت مرتفع ، جذب أنظار الجميع إلى مكان وقوف "زين " و"أمين" قائلا:

-أنرت البلدة والمكان بأكمله ،  يا سيادة المستشار، لم تأخرت هكذا؟  لم أشعر ببدأ الأحتفال لغيابك  هيا تعال، وضع كفه بكف "زين"  ، داخلين حيث الحفل يسير بجوارهما "أمين" ، الذى بدأ يرفع يديه يحيي أهل القرية ، الذين هبوا واقفين من أماكنهم ، يحييون "زين " و"أمين" ، فلهم بداخل نفوسهم مكانة كبيرة ومحبة عظيمة ، ليس فقط لأنهم من كبار أهل القرية ، ومن يملكون زمام أمورها ، بل لأنهم  يهتمون بالصغير والكبير ، يقدمون يد العون لكل محتاج ، يقفون بجوار الضعيف ، يأخذون له حقه من كل متجبر وظالم ، أخذ الجميع يصافح ويقبل ويهنئ ، ويدعوا كثيرا لهما ، أنفض الزحام عنهما ، ليظهر من خلفه رجل فى العقد السادس من عمره ، شعره طويل ومجعد ، له ذقن طويلة ويرتدي جلباب باهت اللون ، يكاد يكون معدوم اللون تقريبا ، ألا من بعض الرقع من ألوان مختلفة ، بعينيه عمق يحوي أسرار كثيرة ، لا يعلم أحد عنها شئ سواه ، ومن نفس العينين ، طلت منهما نظرة حب كبيرة "لزين " ، الذى ما أن رأه حتى ظل واقفا مكانه ، فاتح ذراعيه على وسعهما له ، يسرع الرجل الخطي ناحيته يحتضنه ، يحتضنه مطبق ذراعيه عليه ، ليشعر من يراهما أن بينهما قصة حب كبيرة ، عمرها سنوات وسنوات ، بقي كلاهما يعتصر الأخر داخل حضنه ، سار " أمين" بضع خطوات مبتعد ، يبحث له عن مقعد يجلس فوقه ،  قدميه  متعبتين  لا تتحملان الوقوف كثيرا ، ليقابله "حمزة"  ،  يأخذ بيديه يجلسه وهو يرمق " زين" والواقف معه بنظرات ممزوجة كره وخوف ، لاحظ "أمين" توتر "حمزة" ، ونظراته المصوبة ناحية الواقفين بعيدا عنه ، عقد حاجبيه قائلا :

-"حمزة"  ماذا هناك يا بني؟ لم أنت واقف هكذا ؟ وفيما يكون شرودك ؟ هل تلك المرة الأولي التى  ترى فيها "زين"  و"البدر"؟ يمسح "حمزة" شفتيه بظهر كفه ، ملقي بنفس النظرة ، قبل أن يستدير ويذهب يجلس بجوار "أمين" قائلا:

-لا أعرف ما سر تعلق "زين" بهذا الرجل المجذوب ؟ لا مكانته ولا سلطته ، يسمحون له بهذا ، كم حاولت أن  أجعله يبتعد عنه  ، لكنني فشلت فى ذلك ، نظر" أمين" ناحية "زين" ، ليجده يتحدث مع ضيفه ، وكأنه لا يشعر بوجود  أحد غيره ، عاد بعينيه إلى "حمزة" ، الذى أخذ يقلب بصره فى المكان ، يتطلع إلى الزحام قائلا:

-وأنا  أريد أن أعرف سر عدائك "للبدر" ؟! لا أعتقد أن أحد يكرهه فى منشية أبو القاسم بأكملها ، سواك أنت يا "حمزة" ، رغم أن منصبك عضو مجلس شعب وعمدة البلدة ، لا يسمحان لك أن تهتم بكره أحد ، "البدر" رجل طيب ، به شئ من بصيرة وضعها الله بقلبه ، يرى ويعرف ما لا نعرفه نحن ، الجميع يحبه ويوقره لذلك ، خصوصا "زين" ،  تعلم أنه منذ صغره وهو يحبه ويتفائل به ، وكم من نبؤة قالها لنا وتحققت ، هل ما زلت تتذكر حينما أخبر "آمنة" ، أن "زين " سوف يصبح قاضيا ، ويذاع صيته فى مصر؟ ألا تتذكر حينما أخبرنا بأننا سنجد قتيل غريب ملقى بالترعة وبعدها بيومين حدث ما حدث ؟! وحتى الآن لم يعرف أحد من أهل المنشية ، من هو ولا ما السر وراءه ، "البدر" رجل الجميع يحبه ، وليس "زين" فقط ، لم يكد "أمين " ينهي كلامه ، حتى رأي "زين" يقترب منهما هو " والبدر" الذى مد يديه يصافح "أمين" قائلا:

-أهلا بالرجل الطيب ومعلم القرآن ، ينظر إليه "حمزة" بطرف عينيه ، دون أن ينظر إليه مباشرة فى وجهه ، يضرب "زين" الأخير فى كتفيه  ينبهه لحضوره قائلا:

-"حمزة" ألم تصافح "البدر" ؟! زفر بضيق محاولا ألا يظهر عليه ، يمد يديه ناحيته كى يصافحه كما طلب منه "زين" ، آلا أن "البدر" نظر إليه ، نظرة جعلته يرتجف من داخله دون أن يصافحه ، تبادل "أمين" و"زين " النظرات ، منتقلين بأعينهم إلى "البدر" ، الذى تجاهل وجود "حمزة" وكأنه لا يراه ، أو يرى  يديه الممدودة له ، يقترب منه "زين" وهو يضحك  ، محاولا أن يلطف هذا الجو المشحون قائلا:

-أيها الرجل الطيب ، ألا تري يد "حمزة" الممدودة لك ؟ أنه يريد أن يصافحك ، نظر إليه وقد خرجت من بين شفتيه أبتسامة ساخرة ، مائلا على أذنيه قائلا بصوت لم يسمعه أحد سواهما :

-لا أصافح يد غير نظيفة ، بدت علامات الدهشة على وجه "زين" ، كيف أن يد "حمزة" ليست نظيفة ، وهو يراها بيضاء لا عليها شائبة ، هم أن يتحدث ألا أن "البدر" أوقفه بأشارة حازمة من يديه قائلا:

-لا تصدق كل ما تراه عينيك ، فما خفي لا يعلمه ألا الله ، لأنك طاهر تظن أن الجميع مثلك ، لا يا ولدي الجميع ليسوا سواء ، كما يوجد طيب هناك شرير ، وكما يوجد نظيف يوجد من لوثته أثامه وشرور نفسه ، لا تصدق الظاهر ، صدق ما يخبرك به قلبك ، استدار  يغادر المكان ، تارك "زين" غارق في  تفكيره  ودهشته مما قاله ، أبتعد "البدر" عنه خطوتين يهم أن يغادر المكان ، ألا أنه وقف مستدير ناظرا إليه ضاحكا قائلا :

-سوف يظهر القمر الأن ، سوف تنير ليلتك بقمر تحبه كثيرا يا "زين" ، أسمع مني لا تتركه يرحل قبل أن تأخذ من نوره ما يكفيك ، لا تدعه يغيب عنك مرة أخري ، أروي عطشك منه ، أشبع جوع روحك إليه ، خذ منه ما يعينك على أيامك القادمة ، فأنت كم تحتاج إليه ، أيامك القادمة تحمل لك الكثير والكثير ، ما بين فرح وحزن وخذلان ، حتى الدموع والدماء  ستجدهما ، لكن لا تخف ، الله معك ، سوف يُزيل كل عسير ، لا تترك قمرك لغيرك ، قمرك ما زال ينتظرك ، ما زال يحبك حتى ولو مر مائة عام ، هو كما هو ليس له نور سواك.

                         

                     

                                    "الفصل السادس عشر"

                                     "  ضربات سوط "

يغيبون عنا ولا يغيبون منا ، لا تخبو شمسهم ولا يغيب نورهم ، تمضي بنا الأيام وتتعاقب الشهور ترحل السنون ويظل حبهم كما هو ، منقوش فوق الضلوع ، مُبحر داخل أوردتنا ، نحيا بهم بكل نفس وكل دقة قلب نحملهم بها ، نتلمس بقاياهم فوق أيدينا وبأحضاننا ، نقابل كل يوم وجوه ونعرف أسماء ، تبقي وجوههم قبلتنا ، وأسمائهم  حسن الجواب ، ننتحب بصمت شوق إليهم ، نقبل رأس الأيام  ، كى تجمعنا بهم ، نقتات من ضحكاتهم  ، لمساتهم ، همساتهم ، كي  يصير لدينا شهقة نفس ترزقنا الحياة ، نهمس لأنفسنا دوما أننا أقوياء بهم ، وحينما نراهم سوف نهرول إليهم ، نتلمسهم ، نستنشقهم ، نأخذ منهم زاد للباقي من أعمارنا ، نخبر أنفسنا أننا وقتها ، سوف نمتلك كل لغات الدنيا   نحدثهم بها ، نخبرهم كم نحبهم ، وعندما نراهم أمامنا ، تتخلي عنا قوتنا ، تهرب منا شجاعتنا ، تضيع منا الكلمات ، نقف صامتين ، تائهين ، ذائبين ، حائرين ، نبحث عن أنفاسنا فلا نجدها ، نتلفت ، نتسائل أين نحن ؟ نجدنا مقتحمين ضلوعهم ، مستقرين بأحشائهم ، نصمت نتعبد بوجوههم  نمسح ترسيبات الزمن وضربات القدر وبصمات التجارب عن كاهلنا ، نُحلى مرارة أرواحنا من شهد  بسماتهم وحلو كلماتهم ، حينما نراهم يضيع منا الإنسان بسيئاته وخبثه وشيطانه ، يحل بنا طفل طاهر نقى ، لا يعرف أحد بالوجود غيرهم ، ولا يريد شئ من الحياة سوى ضمتهم التى تهبه الحياة.

ترك "البدر" المكان وذهب مختفيا بعيد ، ظل "زين " يراقبه حتى أختفى عن عينيه ، جلس "حمزة" ينفث غيظه فى سيجارة أشعلها ، بينما أمسك "أمين" مسبحته يُسبح عليها ، مبتسم إبتسامة تشفي ، لا يعرف أحد معناها سواه ،  إستدار "زين" عائدا إليهما ، مد يديه يجذب المقعد المجاور لخاله يجلس فوقه ، نفث "حمزة" دخان سيجارته فى الهواء قائلا:

-أنت من يفصل بينى وبين هذا المجذوب ، لولا أنني أعلم  أنك تحبه ، لكنت محوته من فوق وجه الأرض ، لا أعرف لم يكرهني هكذا ؟! حاولت كثيرا أن أتودد إليه لكن دون جدوى ، أشار بأصبعه ناحية "زين" الذى جلس ينظر إليه مردفا :

-لولاك أنت ما كان هناك مخلوق ينجيه مني ، هم "زين " أن يرد عليه لولا أن بادره "أمين" قائلا:

-"حمزة"  لقد تعلمت أشياء كثيرا بحكم منصبك وجاهك وما تملك من سلطان ، تمتلك نصف أطيان المحافظة ، يهابك الجميع ، يحسبون لك ألف حساب ، أتعتقد أن هذا حب؟ كلا أنه خوف وليس حب، توزع عليهم اللحم والمال ، لكنك تفعل ذلك بيد وباليد الأخرى تمسك لهم كرباج ، تتعجب لم لا يحبك "البدر" ؟! لأن الحب ليس بما توزعه من طعام ومال ، الحب عطية من الله سبحانه وتعالى يضعها داخل القلوب المخلصة و"البدر" يرى بقلبه ما لا نراه نحن ، الحب لا يسكن  أى قلب به شئ من طمع وغل الدنيا ، الحب يسكن القلب الطيب ويرتوى من نقائه ، ومهما فعلت يا " حمزة" لن يحبك " البدر" ، لأنه يرى داخلك هل فهمت؟ أشاح "أمين " بوجهه بعيدا يتصفح وجوه الناس ، يحاول أن يستمع إلى ما يقوله المنشد ، ران صمت بين ثلاثتهم ، "زين" يحاول أن يفهم ما وراء تصرف "البدر" وما يخفيه كلام "أمين" ، "حمزة" كمن  كُشف داخله وألقي بكل ما يحمله أمام الجميع ، صمت يحاول أن يلتقط أنفاسه ويلملم شجاعته وعنفوانه ويعاود من جديد يمسك زمام الأمور بين يديه ، كيف يكون للكلمة تلك القوة وهذا الوقع ؟! كيف تحدث ضجيج لا تحدثه جلبة حرب؟! كيف تغرس خنجر بالقلب دون أن تمسه يد قاتلة؟! كيف للكلمة أن توجع ضمير ذاهب فى سبات أهل الكهف؟! كانت كلمات "أمين"  أشد جلدا على "حمزة" مما فعله معه "البدر" ، تنهد "زين" بعمق ولسان حال يقوله :

-من الواضح أن هناك الكثير المخفي عنك يا أبن "أبو القاسم" وأنت لا تعرفه ، ماذا حدث فى تلك السنين التى غادرت فيها مبتعد عن كل شئ هنا ؟! أو لتكن عادلا بينك وبين نفسك وتقول ، ماذا حدث بعد أن هربت من هنا؟! نعم لتمتلك الشجاعة ولو مرة واحدة ، وتخبر نفسك بكل وضوح أنك هربت تاركا كل شئ خلفك ، حتى حب عمرك وقلبك ، ظننت للحظات أن البعد سوف ينسيك وأنك ستمتلك قلب جديد ، يكون قادر أن يحيا ويحب ، ووسط كل هذا نسيت شئ هام ، أن وشم القلب لا يفارقه ولا يمحي ألا بخروج الروح .

أنتبه "زين" على يد خاله تهزه برقة قائلا:

-أين ذهبت وفيما كل هذا الشرود ؟! قبل أن يجاوبه وجد رجل فقير من أهل المنشية يتقدم ذليل مطأطأ الرأس ، مال على يد "حمزة" الذى لم يخلو وجهه من بقايا غيظ ، يقبلها ، هم "زين" أن يمنع الرجل مما يفعله ، لولا أن أوقفه "أمين" بنظرة من عينيه ، أن أنتظر وتابع ما يحدث ، نظر "زين" إلى أبن عمه وصديق عمره ، ليجده يضع يديه بجيب جلبابه ، يخرج منه حافظة نقوده الضخمة ، رافعا بها يديه كمن يريد أن يريها للجمع ، قائلا بصوت مسموع ، ممسك ببعض  النقود أمسك يا "أسماعيل" تلك النقود وأذهب عندى بالبيت ، خذ بعض الطعام لأولادك وزوجتك ، أمسك الرجل يديه مرة أخرى بذل واضح يقبلها ، مقبض على النقود ، أستدار ناحية "زين" يصافحه بحب لم يراه فى مصافحته للأخر منذ قليل ، هم الرجل أن يقبل يديه هو الأخر ، لولا أن نزعها "زين"  من بين يديه بقوة ، ممسك بذراعيه قائلا:

-لا تُقبل يد أحد مهما كان ، رزقك وعمرك بيد الله وحده ، لا يرزقك غيره ، ولن ينفعك ويضرك أحد سواه ، اليد التي تعطي كى تُقبلها ، أقطعها ، نطق تلك الكلمة وهو يضرب "حمزة" بنظرة تخبره أنه إن فعل هذا مع أحد مرة أخرى ، سوف يقطعها هو له ، تركه الرجل ماضيا في طريقه يجر قدميه ، لحق به "زين" يمسكه من الخلف قائلا:

-"آسماعيل" أنتظر ، أخبرني ماذا حدث جعلك هكذا ؟! كنت تعمل بالأرض لدينا ، كانت حالتك أفضل من هذا ، لم تركت العمل لدينا ؟! نظر الرجل بالأرض دون كلام ، مد "زين" يديه إليه بمبلغ كبير من المال مردفا وهو يربت كتفه:

-خذ تلك النقود ، أشتري ما تحتاج إليه أنت وأولادك ، وإن أردت أن تعود للعمل بأرض أبي ، لا تخشي شئ ، عود من الغد ولن يستطيع أحد أن يمنعك حتى ولو كانت أمي نفسها ، وانهمرت دموع الرجل بغزارة ، رفع رأسه للمرة الأولى منذ أن قابل "زين" ينظر إليه ، نظرة كلها ندم وأسف ، ضيق "زين" عينيه يحاول أن يفهم ما وراء تلك النظرة ، ولكن "إسماعيل" لم يترك له الوقت  ، تركه ماضيا فى طريقه ، ظل "زين"  واقفا مكانه وقلبه يدق دقات متتابعة ، كادت أن تسمع المكان كله ، وكاد قلبه يترك  ضلوعه ويهرب ناحية تلك التى رأها آتية من بعيد.

                                      "الفصل السابع عشر"

                                          "ذابت روحي"

لا شئ يذيب أرواحنا ، ويصهر قلوبنا كرؤية حبيب غائب ، لا شئ يذيب جليد تراكم بدمائنا ، فجعلنا كدُمي خالية من الوجود ، كطلة راحل فرقته عنا الدروب وأخذته الطرق ، لا شئ يذيبنا بكل ما فينا  بعنادنا ، بثورتنا ، بجنون أنفسنا ، غير عين مُلأت بملامح من تحب ، نقف على بعد خطوات منه ، لا نريد الاقتراب  ، كي لا يرى قلوبنا وهى تنتحب مرحبة به ، لا شئ يسرق اللغة من فوق شفاهنا ،غير وقع خطواتهم فوق وجداننا ، ننسى كل شئ بملء إرادتنا ، نسقط ذاكرتنا أرضا رغما عنها  ، وكأننا نمتلك شجاعة العالم ، كي نفرغ داخلنا من كل شئ ، كل شئ عداهم ، نتصالح مع الوقت ومع العدو ، نصفح عن ظالمنا وقاتلنا شفاعة لهم ، نعلنها أننا تحللنا من كل المعاصي ، كى يليق المقام بهم ، نذوب ويذوب كل ماضي ، ونغفر لكل ما هو آتي فرح بضمتنا لهم فوق صدورنا.

فقد "زين" فجأة الأحساس بكل شئ ، بالمكان والزمان والناس من حوله ، ظلت قدميه واقفة مكانها لا تقوى على الحراك ، وكأنه سقط أرضا رغما عنه ، لم تتحرك عينيه عن الوجه القادم من بعيد ، نسيت جفونه أن تغمض ولو لحظة واحدة ، فقد الشعور بأنه يتنفس وأنه حي قادر على الحراك والسير ، دقات قلبه التى أخذت تضربه دون رحمة  أو هوادة ، هى فقط من أعطته أحساس أنه موجود ، دقات قلبه التى شعر بها وكأنها أسير حرب ، يريد أن يفك قيوده ويهرول إلى أهله ، يرتمي بين أيديهم ، يخفونه عن كل شئ يخيفه ، لم يستطع "زين" النطق ، كل ما فعله أن وضع كفه فوق قلبه ضاغطا عليه ، هامسا له دون صوت قائلا:

-بربك رفقا بي ، أهدأ ، أهدأ كى أستطع الحراك أو النطق ، بحق حبك لتلك الأتية من بعيد ، أتركني وشأني ، ولو بضع دقائق ، كي لا يرى أحدهم أنا به ، أهدأ وسامحني على ما فعلته بك ، حاول أن يغمض عينيه يتنهد بهدوء ، باحثا عن أنفاسه الهاربة منه ، آلا أنه لم يلحق أن يفعل شئ ، ليرى الطيف الآتي من بعيد ، يقف على بُعد خطوات منه ، ينظر إليه ، تعلقت عينيه بعين "قمر" ، التى أختلطت كل المشاعر الإنسانية بنظراتها له ، أختلط الحب بالرفض ، والرجاء بالكبرياء ، واللهفة بالعتاب ، توقفت هى الأخرى ، تملأ عينيه ، من هذا الواقف يتصفح كل شئ بها ، لم تنطق الشفاه ، لم تتحرك الألسنة ، كانت العيون فقط هى بطل المشهد والراوي الصامت لكل شئ ، رحلت عنهما شجاعتهم ، في دقيقة واحدة ، وكأن بينهما  إتفاق ، أن يتركهم وشأنهم مجردين من الكبرياء والشجاعة ، مجردين من العناد وقسوة القلب ، كانت شجاعتهما أرحم بهما من أنفسهما ، تركتهما كى يحتضون شوقهم ، حتى ولو من بعيد ، ظلت "قمر" تنظر ناحية "زين" ، الذى حاول أن يبتسم ، لولا أن هزمته دموعه التى طافت بعينيه دون إرادة منه ، حاول بكل قوة أن يمسك زمامها ، كى لا تهوى ساقطة أمامها ، حاول بكل قوة أن يحتفظ لنفسه بالرمق الأخير من رجولته التي استحلفها آلا تتخلى عنه ، كان يقف "زاد" بجوار "غالية" ، التى وقفت متعجبة لما يحدث ، تتسأل ماذا حدث ؟ ومن هذا الرجل الذى تنظر إليه "قمر" هكذا ؟ ومن يكون هذا الذي استطاع أن يستحوذ عليها وعلى نظرتها ؟ وهى "قمر" أجمل نساء منشية "أبو القاسم" وأغلاهم ، والذى لم يستطع رجل مهما كان هو ، أن  يحصل منها ولو على التفاتة صغيرة ، تعجبت أكثر من تلك النظرات ، وهذه اللمعة التى تراها للمرة الأولى ، بعين شقيقتها ، حاول "زاد" أن ينهي هذا الموقف ، إقترب من " زين" مرحبا به ، يمد يديه إليه يصافحه ، قائلا بابتسامته الودودة ، التى لا تتركه مهما كان ما يعتمل بصدره من مشاعر مضطربة قائلا:

-أهلا بك يا سيادة القاضي ، أنرت منشية "أبو القاسم" ، أنتبه "زين" الغارق بتلك الواقفة على مقربة منه ، قائلا:

-مرحبا بك يا "زاد"  كيف حالك ؟ كم تمنيت أن أراك ، وأري وجهك الهادئ الباسم ، وكأنك لست من أهل "المنشية"  ، ولا من عائلة تحمل لنا ثأر لا تنساه ، ترك "زاد" حضنه وهو يضحك بصوت مرتفع عائدا برأسه للخلف ، قائلا وهو يشد على يديه:

-لا عليك يا "زين" ، إن كان هناك من أشعل النيران بيننا يوما ما ، علينا نحن أن نخمدها ، أنت رجل قانون ، وأنا دارس لعلوم ديني ، فكيف لنا أن نكون مثل الباقيين ؟! ونتبع عاداتهم الخطأ ، لقد سررت برؤيتك اليوم كثيرا ، كان "أمين" قد لاحظ غياب "زين " عنه ، نهض يرى فى أى شئ  كان أنشغاله ، سار بنفس الإتجاه ،  الذي  رأه  يتبع "آسماعيل " به ، ليجده يقف مع "زاد" وعلى مقربة منهما وقفت "قمر" و"غالية" ، وضع يديه فوق فمه حينما رأهما قائلا:

-أخر  شئ كنت أتوقع أن يحدث ، كم دعوت الله أن لا يرى أحدهما الأخر ، لكنها مشيئة الله ، عله خير ، وعله رحمة من الله  ، بهذين  القلبين  اللذان  ، تشققا عطشا شوقا لبعضهما بصمت ، عل ما حدث قطرات مطر ، أنزلها الله على صحراء  روحيهما  ، كى يروى ظمأهما ، يعودان يكملان حياتهما مرة أخرى ، سار ناحيتهما  مرحبا  ، بصوت جعل "قمر" تلتفت ناحيته قائلا:

-الليلة رأيت قمرين لا قمر واحد ، رأيت قمر فى السماء ، وقمر فى الأرض ، ضحكت الأخيرة لأول مرة منذ أن رأت "زين"  ، مقتربة من ”أمين" تصافحه ، محاولة أن تُقبل يديه قائلة:

-أهلا بالرجل الطيب ، الذى علمنى القرآن ، كيف حالك عمي "أمين" ؟ أغمض "زين" عينيه يتنفس بعمق ، حينما سمع صوته ، وكأنه أخذ جرعة حياة ، عجيبة حقا تلك القلوب التى تحيا بنظرة وترتوى بمجرد سماع صوت من تحب ، عجيبة حقا تلك القلوب ، التى لو خيروها بين كنوز الأرض ، شرقا وغربا وبين من تحب ، تتنازل بملء إرادتها عن كل شئ  ، وأى شئ ألا من تحب ، تموت إذا أبتعد عنها من تحب ، وتحيا بعودة من أسكنتهم القلب ، ترفض كل ملك وسلطان ، إذا ما وضع فى كفه ، وفى الكفة الأخرى وضعوا أسم من كتبت له ، عجيبة حقا قلوب تتنفس صوت تذوب بأبتسامة ، تغفر بكلمة ممن تحب  ، صافح "أمين" "قمر" بحب واضح ، وهو يربت كتفها قائلا:

-محظوظ أنا تلك الليلة ، لأرى أبنتي الغالية  ، من ربيتها فى  كنفي ، وكنت دوما  أراها ،  أبنتى التى لم أنجبها ، نظرت "قمر" ناحية "غالية" ،  تشير إليها أن تعالي ، أقتربت منها الأخيرة وهى تنظر إلى "زين" ، الذى تعلقت عينيها به تسأله من أنت ؟ وما الذى بينك وبين "قمر" لا أعرفه ؟!وقفت بجوار شقيقتها ، التى أمسكت بكفها ، ناظرة إلى "أمين" الذى أبتسم "لغالية" قائلا:

-مؤكد أنت "غالية" ، تلك الطفلة الصغيرة ، التى لم تكن تترك "قمر" مهما حدث ، ألا تتذكرين من أنا؟! قلبت "غالية " شفتيها قائلة بشقاوة طفولية واضحة:

-كنت صغيرة جدا ، لا أتذكر شئ ، لكن إن كنت قد أحضرت لي حلوى ، ذات يوم سوف أتذكرك على الفور ، تلتفت "قمر" فجأة ،  ناحية "زين"  ، الذى كان ينظر إليها  ، دون أن تراه لترى بعينيه ، نظرة حب كبير وأعتذار أكبر ، كادت تجعلها تضعف وتجرى إليه ، نظرة أستقرت بقلبها تعطيه فسحة أمل ، تجعله يتنفس حقا من جديد ، وكأننا  أطفال صغار ، ننتظر أى شئ يمسح فوق رؤوسنا ، كى نطمئن وننام ، كانت تلك النظرة ، ك شهادة ميلاد جديدة لقلب يحتضر ، عادت "قمر" بعينيها إلى "أمين" ،  الذى كان يضحك مع "غالية" ، حتى جاء" حمزة" فجأة قائلا:

أين ذهبت يا "زين"  ، فجأة أنت وعمى "أمين" ؟!  لتقف فجأة الكلمات بحلقه ، عندما رأى "قمر" ترمقه بنظرات كره غريب ، أبتلع ريقه بصعوبة ، محاولا أن يبدو طبيعيا ، نظر إليها نظرة شهوة واضحة ، يتفحص جسدها ، من أعلي  لأسفل مرة ، ومن أسفل لأعلي مرة  أخرى  ، واقفا على شفتيها المكتنزة، مقترب منها ناسيا الواقفين قائلا :

-"قمر" أنرت الإحتفال ، إن كنت أعلم أنك سوف تحضرين ، لأفترشت  لك الأرض  ،ورود وريحان ، من أمام منزلك حتى هنا ، لوى "زين" عنقه ، متعجبا لما رأه من "حمزة" ،  فى حين فلتت ضحكة ساخرة  ، من بين شفتي " أمين" ، رفعت " قمر" حاجب عينيها اليسرى ، ناظرة إليه باشمئزاز واضح ، ممسكة "غالية" بيديها ، أقترب "زاد" منها ينحيها جانبا بذراعية ، واقفا بينها وبين "حمزة" ، يخفيها بظهره عن عينيه قائلا بغلظة:

-أما رأيت أحد من الرجال يا "حمزة" ، ترحب به وتتحدث إليه بدلا من النساء؟! أم أن عينيك لا تري سوى النساء ؟!   إستشأط "حمزة" غيظا ، فرك كفه بعنف  ، محاولا أن يرد على "زاد" ، لولا أن أسرع "زين"  ، الذى قرأ نية  أبن عمه ، مقترب من "زاد" قائلا:

أذهب أنت الأن بضيوفك ، حيث الأحتفال يا "زاد" ، أذهب كى تلحق بوقتك ، سار الأخير متجه إلى مكان الحفل  ، تتبعه "قمر" و"غالية" ، وقف "زين" يضع يديه بجيب جلبابه الصعيدى أمام "حمزة" قائلا:

-من الواضح أن هناك الكثير الذى تغير هنا  ، وأنا لا أعرف ، أخبرني يا أبن عمي ، منذ متى والرجال عندنا يتغزلون بالنساء  ، أمام الناس وفى الطرقات ؟! هل نسيت من هى "قمر" أم تراك فقدت الذاكرة ؟!

مسح "حمزة" ذقنه بيديه وهو يضرب الأرض بحذائه قائلا:

-من الواضح أنك أنت من لم ينسي بعد من هى "قمر" يا سيادة القاضي ، رفع "زين" سبابته فى وجهه قائلا بعنف واضح ، جعل "أمين" يقترب منه يمسك بذراعها قائلا:

-للمرة الأولى والأخيرة يا "حمزة" ، لا تنطق أسمها أمامى ، للمرة الأولى والأخيرة ، وإلا سوف يكون هذا فاصل بين قرابتنا وصداقتنا وسنوات طفولتنا وشبابنا ، فهمت ما أقوله ، "قمر" لا .

جذبه "أمين" من ذراعيه ، مبتعد به عن "حمزة" ، الذى ظل واقفا مكانه ، ينظر إلى القمر بالسماء قائلا:

-أراك تحلم يا "زين" ، أراك تحلم ، هل فعلت كل ما فعلت ، من أجل أن أتركها فى نهاية الأمر ، لا لن يحدث حتى ولو كان الثمن تلك المرة هو أنت نفسك.

                                     "الفصل الثامن عشر"

     

                                      " وجه  وحديث "

ظل "ريان" يجوب حجرته ذهابا وإيابا ، يحاول أن يُسقط هذا الطيف ، الذى هبط عليه فجأة ،من ذاكرته ، لكن دون جدوى ، ظل شاخصا ، أمامه  يطارده أينما ذهب ، ألقى بنفسه فوق فراشه مستندا بظهره ، إلى الخلف مغمض عينيه ، واضعا ذراعه خلف رأسه كوسادة ، مرت دقائق وهو هكذا ، حتى سمع صوت سيارة أمه ، علم أنها عادت من الخارج ، نظر بساعة الحائط أمامه ، وجدها تشير إلى الحادية عشر ليلا ، رفع ستارة نافذته ، وقف يتطلع إلى السماء بظلمتها ونجومها اللامعة ، ليرى مرة ثانية ، هذا الوجه الجميل ينظر إليه ، يبتسم له ، كمن يريد أن يخفف عنه حزنه ووحدته ، أبتسم له أبتسامة حب ، وكأنه شعر به ، يخبره أنه معه وليس بمفرده ، عاد يسدل ستائر نافذته ، عائد إلى غرفته ، أقترب من مكتب صغير ، وضع بركن الغرفة ، مال عليه يفتح أحد أدراجه ، يخرج منه قلم رصاص وورقة كبيرة بيضاء ، عاد مرة أخرى إلى فراشه يجلس فوقه ، أمسك بالقلم يرسم بالورقة ، دوما ما يفعل ذلك ، حينما يشعر أن بداخله إحساس ما ، لا يستطيع ترجمته بالكلام ، يهرب بورقة وقلمه إلى الرسم ، كثيرا ما يفعل ذلك ، عندما يغيب عنه أبيه الذى هو رفيقه وصديقه ، أخذ يرسم دون توقف ، دون أن يشعر بوقت أو تعب ، فجأة توقف ينظر إلى ما رسمه ويبتسم ، أنه هو نفس الوجه ،  الذى  أقتحم  حياته ، فجأة دون سابق إنذار ، مد أنامله يتحسسه بحنان بالغ هامسا له:

-من أنتِ ؟ ما أسمك؟ من أين جئتِ ؟ هل من الممكن أن تكوني بشر ؟ أم تراك ملاك حارس أرسله الله إلي ، يؤنس وحدتى ، ويحمل عن كاهلي تعبه ؟ لكن لا يهم كل ذلك ، لا تشغلى بالك بالمسميات ولا تبحثى عن أسباب لوجودك هنا ، يكفينى أن وجودك هو سر هدوئي وسلامي النفسي الذى صرت أشعر به مذ أن رأيتك ، هل لي أن أخبركِ شئ ، أسمعك تقولين نعم أخبرني ، حسنا الأن أطمئننت أنكِ تشعرين بي رغم بعادك ، رغم أنك لستِ هنا ، بداخلي شئ  يخبرني ، أنك حقيقة وليس مجرد طيف ، يأتيني ويرحل ، شعور قوى خفى ، يهمس لي أنني سوف ألتقيكِ يوم ، سوف أمسك يديك ، أشعر أنك حقيقة ملموسة ، كم أنا مسرور لوجودك  ، حتى ولو كان مجرد صورة على ورق ، لا أعرف كيف أعبر لكِ عن  إمتناني ، لا أملك القدرة على ترجمة أحساسي بكِ ، أحبك حتى نلتقي ، قطع حديثه صوت هاتفه ، مد يديه ، يمسك به يرى من المتصل فى مثل هذا الوقت؟ ليطل عليه أسم "المستشار عبد الرحمن مؤنس" ، يضيق عينيه باستغراب شديد قائلا:

-عمي "عبد الرحمن" ؟! ما الأمر الهام الذى جعلك تتصل بي فى وقت متأخر هكذا؟! ولم تتصل بي أنا ولم تتصل بأبي ، فتح الخط مردفا:

-مساء الخير ، أهلا بك سيادة المستشار الجليل ، صوت ضحكة عالية تجيبه من الخط الأخر، يتبعها صوت عميق قائلا:

-مساء الخير "ريان" ، دوما كلامك يشعرني بمحبتك وبراءة سريرتك ، تشبه أبيك كثيرا بني ، أخبرني أين "زين" ؟ حاولت الأتصال به كثيرا ، لكن هاتفه خارج نطاق الخدمة ، إعتدل "ريان" فى جلسته ، واضعا الصورة التى رسمها بجواره قائلا:

-أبي بمنشية "أبو االقاسم" بالصعيد منذ أمس ، هل هناك ثمة أمر هام تريده من أجله؟ تنهد

 "عبد الرحمن" قائلا:

-دوما "زين" هكذا ، عندما يكون الأمر هام لا أجده ، دائم الهرب هذا الرجل ، نهض "ريان" من مكانه ماسح فوق شعره بتوتر واضحا قائلا:

-أخبرني إذن ماذا حدث ؟ لقد بدأ القلق يتسرب إلى نفسي على أبي ، هل هناك خطب ما فى عمله ، أرتشف "عبد الرحمن" رشفة من فنجان قهوته قائلا:

-لا تخف يا بنى ، الأمر خير ،لا يوجد ما يدعوا للقلق ، لقد ظهرت حركة الترقيات ، وقد تم ترقية "زين العابدين" ، إلي رئيس محكمة جنايات المنيا ، أردت أن أخبره هذا الخبر بنفسي ، لكن من الواضح أنك أنت من سوف تنال هذا الشرف ، أهنئك يا "ريان" ، أخبر أبيك سلامي ، أراك بخير ، أغلق الهاتف تاركا "ريان" فى حالة فرح شديد ، واضعا يديه فوق قلبه ، الذى تسارعت دقاته من وقع الخبر عليه ، أخذ يضحك رافعا يديه إلى السماء قائلا:

-شكرا لك يا الله ، على كرمك وفضلك ، شكرا لك أنك دوما ترعى أبي وترزقه الخير والتوفيق فى عمله ، إستدار يبحث عن الصورة ، التى  رسمتها يديه ، أمسك بها يقبلها ناظر إليها قائلا:

-ألم أخبرك أن وجودك نذير خير ؟! أمسكها بأحدي  يديه ،  وباليد الأخرى أمسك هاتفه يتصل بأبيه ، حاول عدة مرات أن يسمع صوت هاتفه يجيب ، أصر أن يظل يحاول ، حتى يصل إليه  همس لنفسه قائلا:

-تلك هى المرة العاشرة ، التى أحاول بها الوصول إليك يا أبي ، إن لم أستطع ذلك ، ليس أمامى شئ أفعله ، سوى الأتصال بجدتى بالبيت ، وهى تخبرك أو تجعلنى ،  أتحدث إليك ، لكن الهاتف رضخ لأمنيته  تلك المرة  ، وسمع صوت جرسه يتبعه صوت أبيه قائلا بلهفة :

-"ريان" ماذا بك ؟ هل أنت بخير ؟ هل حدث لك مكروه أو لأمك ؟ ليست عادتك أن تتحدث إلى  فى مثل هذا الوقت المتأخر ، ضحك "ريان" ضحكة يعلم "زين" جيدا ، أنها لا تخرج منه ألا حينما يكون سعيد ، أطمئن قلبه لثوانى ، يجاوبه  صوته قائلا:

-هل لى فسحة من الوقت ، أجيب فيها على كل تلك الأسئلة ؟ أم أن سيادة رئيس محكمة جنايات المنيا ، سوف يرفض  إعطاء هذا الحق لأبنه الوحيد ؟! هم "زين" أن يتحدث ، لكن فجأة وقفت الكلمات فوق شفاهه  قائلا:

-ماذا قولت ؟ رئيس محكمة جنايات المنيا ؟ "ريان" هل تمزح ؟ أم تلك أمنية تتمناها لأبيك ؟ عاد الأخير يضحك بفرحة واضحة من جديد قائلا:

-مبارك يا "زين العابدين أبو القاسم" عليك رئاسة محكمة جنايات المنيا ، لقد تمت ترقيتك اليوم يا أبي ، عمى "عبد الرحمن مؤنس" أخبرنى هذا الخبر منذ قليل ، لقد حقق الله لك ما دعوته به أن يتم نقلك إلى محافظتك ، مرت دقائق و"زين" صامت تماما  ، تتسارع أمامه الأحداث والصور والوجوه ، وصوت بداخله يهمس:

-سوف أعود إلى مسقط رأسي وأرضي ، سوف أعود إلى جلباب أبي الفضفاض والساقية القديمة والحقل ، سوف أعود إلى الوجوه الطيبة السمراء ، سوف أبقي هنا ، فى بيتي القديم وأعود أرى من جديد وجه …….. ، توقف فجأة عن نطق الأسم ، على صوت "ريان" على الخط الثاني قائلا:

-أبي أين ذهبت ؟ هل تسمعني ؟ أبي أين أنت ؟ نفض "زين" سريعا ما مر بداخله قائلا:

-نعم "ريان" ، أسمعك بني ، ليبارك لي الله فيك ويحفظك ، لقد أشتقت إليك كثيرا ، جلس الأخير خلف مكتبه قائلا:

-وأنا أيضا يا أبي ، أشتقت إليك وأفتقدك ، متى ستعود ؟ وكيف حال جدتي وجدى "أمين" وعمى "حمزة" ودادة "سعدية" ؟ أبلغهم سلامى جميعا ، أغلق "زين" الهاتف ، وكانت أخر جملة له يخبر بها "ريان" ، أنه سوف يعود فى غضون يومين ، كى ينهى أوراق نقله ، إلى منصبه الجديد ومكانه الجديد .

                                     "الفصل التاسع عشر"

                                       "مسكون بها "

لا يشتم ريح يوسف ، آلا من كان له قلب يعقوب ، مهما مر العمر وسقط من سنوات ، يبقون عالقين بين الضلع والضلع ، نحملهم بمصب الوريد ، مهما غابت عنا الوجوه وفصلت بيننا المسافات ، وابتعدت خطواتنا ، تبقي أسمائهم  ، هى جوابنا حينما يسألوننا ما هو عنواننا ، نخلق من ضلوعهم ، ننزح من قلوبهم ، نبقي لهم مهما رأينا ومهما عرفنا ، نخفيهم دوما بين جلدنا وعظمنا ، تسير بنا الأيام ، ونحن محملين بهم ، نخشى أن ننتزعهم منا ، فينزف القلب حتى الممات ، سيظلون دوما هواء نتنفسه ، كلما  خنقنا النفاق ، يظلون براح أخضر نأتيه نلوذ به ، كلما ضاقت بنا السبل ، ورفضنا  الأماكن ،  وتنكرت منا الوجوه ، يبقون ونبقي عالقين ببعضنا ، يربطنا وريد واحد وشريان مشترك  ، ونبض يخبرنا أننا خلقنا منهم ، ولا نستطيع مهما فعلنا أن نحيا دونهم.

لم ينم "زين" ليلته ، لم يغفوا له جفن ، ظل يتقلب فى فراشه ، يراجع أحداث اليوم وزحمة الوجوه حوله ، يتعجب من تصرف "حمزة" مع "آسماعيل" ، مستغربا ما صار إليه حال الأخير ، بعد اأن كان يعمل مزارع بأرضهم ، وكان حاله على ما يرام ، أغمض عينيه ، حينما سمع مرة أخرى صوت "البدر" ، يخبره أن عليه آلا يصدق ما تراه عينيه ، وأن هناك الكثير المخفى عنه ، ظل يهمس لنفسه يسألها ، ما هذا المخفى الذى يقصده "البدر" ؟! وهل هناك حقا ما هو مخفى عنى ،  وأعتقد خطأ أنني أعلم كل شئ ، من خلال ما ترويه لي أمي ، وما يخبرني به خالى من أحداث المنشية ، تنهد قائلا:

-من الواضح أن هناك ما لا أعرفه ، أعلم جيدا أن "البدر" لا ينطق باطلا ، ولا يقول هراء ، حسنا سوف أكون هنا عما قريب ، سوف أعود أحيا هنا من جديد ، وقتها فقط سوف أقف على كل شئ يحدث حولي ، لكن كيف سأحيا هنا بعيد عن "ريان" ، أعلم مدى أرتباطه  بي ، ومدى  أرتباطى به ، يا الله كم أحب ولدي  ، ولا أستطيع  الإبتعاد عنه ، أخبرني كيف أنهي تلك المعضلة ؟! ليأتيه صوت أخر من داخله يهمس له قائلا :

-هناك غير "ريان" يحيا معك ، هل نسيت ، أم تراه ليس فى حساباتك ولا يهمك أمره؟! وضع كفيه فوق وجهه قائلا:

-اعلم ما تقصد ، تقصد "ناهد" ، سوف أترك لها حرية الأمر وعليها أن تختار ، إما المجئ معي إلى هنا حيث مقر عملي الجديد ، أو تظل هناك تحيا كما هي ، لن أجبرها على شئ ، ليأتيه الصوت مرة أخري قائلا:

-أعلم أنك سوف تقول هذا ، فهي لا تمثل لك شئ ، نعم هى زوجتك ، أو هكذا نسمي ببلادنا ما يربط بينك وبينها ، وهو فى حقيقته ، أبعد ما يكون عن هذا الأسم ، "زين" كن شجاعا وأعترف أنك لم تحبها ، لم تستطع تلك السنوات الكثيرة ، أن تجعل قلبك يتعلق بها ويسكنها  إياه ، أو حتى يعطيها ولو جزء يسير منه ، أتعجب حقا ، من هذا الإحساس وهذا القلب ، الذى أغلق بابه منذ زمن ، أمام الجميع ، آلا واحدة فقط ، يعتصرها دوما بين أوردته ، يسكنها شغافه ، يخفيها بين نبضاته ، وكأنه أم تخاف على وليدها ، تحمله بداخلها ، لا تسمح لأحد  بالأقتراب  منه ، كن شجاعا بما يكفي ، أن يجعلك تعترف ، أن "قمر" كانت وما تزال ، هى سيدة هذا القلب أنتفض "زين" جالسا فى فراشه ، قائلا بصوت يكاد يكون مسموع وكأنه يعاقب أحد أمامه:

-كانت وما زالت وسوف تبقي كم قلت ، سيدة قلبي ، وأبنة عمري ، وحبيبة الروح ورفيقة دربي، حتى ولو كانت بعيدة عني ، حتى وإن كانت قد كرهتني وكفرت بي ، حتى بعد أن تترك روحي جسدي ويصير تراب ، سوف أخبرهم بأن يجعلوها ،  تدوس هذا التراب بقدميها كي أشعر بها ، "قمر" مختلطة بدمي ، معجونة بلحمى ، محفورة وشم فوق عظامي ،والله لو أنتزعوا قلبي ، من بين ضلوعي ، ما أنتزعوها مني ، نعم لم أحب أحد غيرها ، حبها كأدمان ليس له دواء وإن خيروني بين الحياة بالشفاء منها ، والموت ببقائها بداخلى ، سوف أختار الموت ، على أن ينتزعها أحد مني ، "قمر" هى عمري  بأكمله ، وأحلام الصبا ، هى  نبضي ،  حتى وإن كانت لا تعلم كل هذا ، أو خُيل إليها ، أنني قد نسيتها حينما  تزوجت غيرها ، والله يشهد أنى لم أظلم "ناهد" دقيقة واحدة ، حاولت كثيرا ، حاولت مرارا ، دعوت طيلة العمر ، أن ينسينى الله إياها ، لكنني أكتشفت أنني كاذب  ، وأنني كلما جئت أطلب هذا من الله ، كنت أخبره بعدها ، آلا يصدقني ، آلا يسمعني ، لأنني كاذب وهو يعلم هذا ، سوف أبقي طيلة العمر مدين لها بثمن جرحي الذي تركته بقلبها ، لكن الله أيضا يعلم أنني جرحت قلبي بنفس السكين الذى ذبحتها به ، لن أظلم "ناهد" وسوف  أترك لها حرية الأختيار ، رغم أنني أعلم أنها هي الأخرى بعيدة عني ، حاولت أن تحبني ، لكنها لم تستطع ،وكأنها تعلم أن قلبي مرهون بغيرها ، القلوب حقا تري ، تري من يحبنا فتحبه ،وتري من يكرهنا فتبتعد عنه ، "ناهد" هى الأخري ضحية مثلي تماما ، ليس بيدي شئ أفعله ، القلوب مفاتيحها بين يدي الله ، وأنا  سأبقي أدعوا لأخر شهقة نفس بي ، أن يظل حب "قمر" يملأني ، فحبها لولاها ما كنت أنا ، دوما أراه نور وسط العتمة ، أهتدي به ، دوما يشد على يدي ، إذا شعرت بالتعب وكدت أسقط ، حبى لها هو السبيل الوحيد ، الذى يشعرني أني حي وأني على قيد الحياة ، دوما كلما توقفت قدمى فى منتصف الطريق من شدة التعب ، كنت أراها أمامي تبتسم لي ، تمسك بيدى ، تجذبني كي أكمل طريقي ، حبها ليس وجع فى جنبي ، بقدر ما هو سند ، أستند إليه بكل قوتي ، كيف أنساها ، وقد خطينا أولى خطواتنا ونحن ممسكين كلا منا بيد الأخر؟! كانت تسمعني دون صوت ، كنت أشعر بها من بعد ، كم حاولوا مرارا  وتكرارا ، أن ينتزعونا من بعض ، لكن دوما ما كانوا يجدونا ، مختفين بين ضلوع بعضنا ، يا الله هل ما يزال كل هذا الحب لها بداخلي ؟! هل كنت واهم عندما اعتقدت  أن حبي لها قد قل ؟! يا الله بيدك وحدك كل شئ ، أعلم أنك جعلتني أحتفظ بحبي لها كل هذا العمر ، بحكمة منك أعلم أنك جمعتني بها الليلة ، دون ترتيب أو أتفاق رحمة بي ، فأنت وحدك تعلم ، كم كانت روحي عطشة إليها ، وحدك تشعر بأنني كنت أحتضر بصمت ، وكنت أحتاج إلي رؤيتها ، كي تمسح فوق قلبي ،  تهبه شئ من الحياة ، يا الله أنت  أرحم من أن تعذبني بها ، أو تعذبها بي ، فأنت لا تعذب أحد بحب أحد ، لهذا كله أسألك كما حفظت حبي لها طيلة العمر ، أحفظها لي عندك فى ودائعك ، أجمعني بها ذات يوم ، قرب الخاتم الفضي من أنفه يستنشقه قائلا:

-ذهب كل شئ ولم يتبقي لي سوي ريح الأحبة الساكن بك.

                                     "الفصل العشرون"

                                      "شئ خفي "

تختلط الألوان وتتشابك المشاعر ، حينما نشعر أن هناك شئ خفي لا نعرفه ، نقف تائهين لا نجد لنا مرسي ، نقف عليه مطمئنين غير عابئين ، بما يحدث حولنا ، لأننا لا نعي ما يحدث حولنا ، نغمض أعيننا كي نستعيد ما مضي ، علنا نري وجه يخبرنا الحقيقة الغائبة عنا ، نبحث عن أسم وسط كثرة الحروف ،عله يكتب لنا ما نبحث عنه ، كل شئ يبقي زائف ، خالي من الحقيقة عندما تكون نصف الحقيقة غائب ، الحقيقة يجب أن تكون كاملة ، كي نطمئن ونهدأ ويستقر رحالنا.

كانت الساعة تشير ، إلى السابعة صباحا ، تنفس "زين" الصعداء ، حينما رأي شعاع الشمس يزحف فى السماء ، فقد حان الوقت ، كي يذهب إلى أحب الأماكن لقلبه ، ذلك المكان ، الذى دوما ما يحوى ضعفه وخوفه وتردده ، ذلك المكان الذى ولد به حب عمره ، وبنفس الأرض ترك حب عمره ، نعم لم ينساه ولن ينساه مهما حدث ، ومهما مر من زمن وأحداث ، ظل يحسب ساعات الليل ، كي يمضي ويذهب إليه ، كحبيب  يشتاق  لرؤية محبوبه ، عجيبة هى حقا القلوب ، تجد ملاذها فى أرض ومكان صامتين ، تهرب من كل شئ إليها ، تتنازل بها عن كبريائها .

هبط الدرج  ، يجد أمه تجلس مكانها ، فوق أريكتها  تصنع قهوتها الصباحية ، فوق موقد صغير ، أبتسمت حينما رأته مقبل عليها ، مال على يديها يقبلها ورأسها ، ضحكت قائلة وهو يجلس بجوارها ، لم  أشعر بك عند عودتك مساء من الأحتفال ، لقد تأخر الوقت على عودتك ، غلبني النوم  ، ولم أستطع المكوث أكثر ، تعلم أنني أستيقظ مع الفجر، عاد "زين" بظهره للخلف ، يمسك بفنجان قهوتها يقدمه لها قائلا:

-عذرا يا أمي ، فقد سرقني الوقت ولم أشعر بنفسي ، تعلمين جيدا أنني لا أري أحد من أهل المنشية ألا بتلك الليلة ، جلست مع خالي و"حمزة" ، نتجاذب أطراف الحديث ، لكننى حزين لما رأيت وسمعت ، لقد تغير حال الكثير هنا ، لقد تبدل كل شئ يا أمي ، هناك شئ خفي حدث ، وما زال يحدث ، شئ أشتم ريحه ، لكنني لا أراه ، شئ أحسه وإن كان مبهم ، هناك ما حدث وغير بعض الأشخاص ، الذين كنت أظن أنني أعرفهم حق المعرفة ، شرد بنظره أمامه  مردفا:

-لكن ما هو لا أعلم ، حتما سيأتي وقت وأضع يدي عليه ، أعتدلت "آمنة" فى  جلستها ، ناظرة إليه قائلة بأهتمام:

-ماذا حدث لكل هذا يا "زين" ؟! لم هذا الإحساس الذى  إنتابك ؟! هل حدث شئ بالأمس وأنت بالاحتفال ؟!

تنهد ناظر إليها واضع رأسه فوق كفه قائلا:

-حدث الكثير يا أمي ، حدث الكثير وإن كان غير واضح ، أشعر أن القلوب ذاتها تغيرت ، أرى الوجوه أصبحت كالحة والعيون ميتة ، منزوع منها الرحمة ، هل أنا مخطأ ، ويهيئ  لي أشياء ، هل ابتعادي  سنوات عن هنا ، جعلني أتخيل أشياء غير حقيقية ، لكن كيف وقد رأيت بعيني؟!

ارتشفت  "آمنة" رشفة من فنجان قهوتها قائلة:

-أروي لي ماذا حدث ؟! وأنا سوف أخبرك إن كان حق أم لا، طيلة عمري وأنا أخبرك الحقيقة ، أمسك "زين" بكوب ماء ، وضع أمامه فوق المنضدة ، يشرب منه قائلا:

-"حمزة" يا أمي ، أشعر أنه لم يعد كسابق عهدنا ، أشعر أن قلبه صار قاسي وعيونه أصبحت باردة ،  كبرودة الموت لا حياة ولا دفء بهما ، رأيته بالأمس وكأنني أراه للمرة الأولي ، وأنه ليس أبن عمي ، الذى تربينا هنا فى هذا البيت معا ، شعرت بغربة معه ، وكأنه لم يعد رفيق دربي وصديق عمري ، الذى كنت أنظر بعينيه ، أقرأ كل ما يخفيه عني ، أصبحت عينيه مغارة عميقة لا أعرف لها أخر ، حتى أهل المنشية ذاتهم ، بهم شئ من الخوف يُكبلهم ، شئ يخرسهم ولا يستطيعون أن ينطقون به ، لا أعرف حقا ، ما كل تلك المشاعر المتداخلة والمختلطة ببعضها ، هل عندك أنت تفسير يا أمي ؟! مالت "آمنة" على القهوة أمامها ، تُعد له فنجان قهوته قائلة:

-لا تتعجب من شئ ، ما حدث هنا بالمنشية شئ عادي ، الزمن لا يستقر على حال ، وأحوال الناس تتغير ، "حمزة" تغير ، لأنه يحمل مسؤولية ووضعه هام ، عليه أن يكون غليظ  وقوي ، كي يستطع أن يحكم الناس ، ويحافظ على منصبه ، ما يحدث وما رأيته شئ عادى ، أنت فقط يا "زين" ما زلت تحمل قلب طفل نقي ، رغم سنك ، رغم منصبك الهام والحساس ، إلا أنك إستطعت ، أن تحتفظ بنفسك كما هي ، نفس طيبة حالمة ، مثل خالك "أمين" بالضبط ، كثيرا ما ألوم نفسي أنني تركتك  له ،  ينشئك مثله ، يعطيك من روحه وسريرته ، أنا لا ألوم عليه ، أنت تعلم أنه أخي الوحيد ، لكنني حزينة من أجله ، لأنه يترك قلبه يتحكم فيه ، جعل منه عقله ، يفكر به ، يشعر به ، يقرر من خلاله ، والحياة الأن ليست هكذا ، الحياة تحتاج إلى القوي ، تحترم من يمتلك السلطة والنفوذ ، ما يفعله "حمزة" هو عين الصواب وأنا أوافقك ، مسح "زين" على شعره رافعا حاجب عينيه قائلا:

-منذ متى والناس عبيد؟! منذ متى ونحن نحكم الناس بالكرباج ، هل تظنين أننا نكسب ود الناس بالقوة ؟! لا يا أمي مخطأ من يعتقد هذا أو يصدقه ، نحن نكسب ود الناس وحبهم ، بالرحمة ، بالحب ، والاحترام ، ما تقرينه وتعتقدين أنه صواب وحق ، ما هو ألا خوف ، والخوف لا يعنى الأحترام ، بل يعنى الكره ، يكرهوننا بداخلهم ولا يظهرون هذا ، يلعنوننا كل لحظة ولا يبوحون بما يقولونه ، هناك مفاهيم كثيرة عليا أن أغيرها ، عليا أن أعيد كل شئ  ك سابق عهده ، الأيام قادمة وسوف أفعل كل ما بوسعي من أجل المنشية وأهلها ، نظرت إليه أمه وهى تعيد جديلتها الغليظة للخلف قائلة:

-وكيف ستفعل هذا ونحن لا نراك ألا كل عدة شهور؟! مال "زين" على يديها يقبلها قائلا:

-نسيت أن أخبرك ، لأنني عدت بالأمس متأخر ، ولم أراك آلا الأن ، لقد تمت ترقيتي إلى رئيس محكمة الجنايات بالمحافظة هنا ، وسوف أستلم مهام عملي الشهر القادم ، سوف أنتقل للعيش من جديد معك يا أمي ، أبتسمت أبتسامة عريضة ، فاتحة له ذراعيها قائلة وهي تضمه:

-مبارك يا "زين" ، سوف أذبح الذبائح من أجلك وأجل تلك المناسبة السعيدة ، كم شرحت صدري ، لكن أخبرني ، هل سوف توافق "ناهد" و"ريان"على الأنتقال معك إلى هنا ، وترك الحياة بالقاهرة؟ هب "زين" واقفا يستعد للرحيل قائلا:

-طبيعي أن يتبعونني أينما أذهب ، تلك هى طبيعة عملي وهم يعرفون ذلك ، ولا أرى سبب مقنع يجعلهم  يتركونى بمفردي ، أحيا بمكان أخر ، سوف أسافر الأن ، عليا أشياء كثيرة ، يجب أن أنهيها فى القاهرة ، سوف أعود فى غضون أسبوع بمشيئة الله ، صافحها ماضيا فى طريقه ، لم يصل إلى باب البيت ، حتى توقف فجأة ، كمن تذكر شئ ، استدار إلى أمه قائلا:

-نسيت أن أسألك عن شئ يا أمي ، انتبهت إليه ،عاد حيث كانت تجلس مردفا:

-تتذكرين "أسماعيل" الذى كان يعمل فى الأرض لدينا منذ سنوات عديدة ؟! اهتزت  يدها  بفنجان القهوة ، حتى وقع على ملابسها وقد جحظت عينيها قائلة :

-"أسماعيل" ؟! ما الذي  جعلك تتذكره الآن وبعد هذا الزمن ؟! ضيق "زين" عينيه متعجبا رد فعل أمه قائلا:

-ماذا حدث ؟! لم سقطت قهوتك هكذا؟! هل إسم "إسماعيل" ذكركِ  بشيء لا أعرفه؟! ماذا وراء هذا الأسم ؟! عادت بعينها إلى ملابسها ، تتحاشى النظر بوجهه ، حاولت أن تنشغل بمسح القهوة المتناثرة فوق ملابسها قائلة بغضب:

-نعم  أتذكره ، لقد قمت بطرده من الأرض والعمل لدينا ، لأنه سرق بعض المحصول و"حمزة" أكتشف ذلك ، وضع "زين" كفه فوق فمه ، يمنع تنهيدة آتية من أعماقه ، محملة بالكثير من الإنفعال قائلا:

-"حمزة" ؟! حسنا يا أمي ، حسنا سوف أعود وأري حقيقة هذا الموضوع ، وعدتك أنني سوف أعرف حقيقة كل شئ ، تركها ماضيا مغادر المنزل ، تضرب "آمنة" المنضدة أمامها ، بعنف كاد أن يكسر زجاجها قائلة :

-لم يا "زين" تفتح ملفات قديمة؟! لم تصر على تنقيب ما قد دفن منذ زمن؟! لقد اعتقدت أن كل شئ انتهى  ولم يعد له وجود ، ماذا عساي أن أفعل الأن ؟! لن أدعك تعرف شئ مهما كلفني الأمر.

                                "الفصل الحادي والعشرون"

             

                                     "الساقية  القديمة"

ندخر أجمل ما فينا بأماكن تظل محفورة بوجداننا ، نقصدها دوما حينما تضيق بنا الدروب وتطردنا الأماكن ، نأتيها نتلمس بين جدرانها ريح الأحبة ، نبحث بين ترابها عن لمساتهم،وما قد يكون سقط منهم سهوا، نهفوا إليها كلما غاب حبيب ورحل الأمان منا، ننتزع أنفسنا من كل شئ وأى شئ ،نأتيها كلما بخلت علينا الحياة برؤية من نحب ، نظل نبحث عن شئ منهم عالق بها، نتلمسه بأناملنا ، نضمه إلينا ، نبكي بها وكأنها أم، سوف تخفينا عن أعين البشر، نسمع  ضحكاتهم، نرى ملامحهم  ، نرانا نحن  أنفسنا كما كنا، قبل أن تترك الحياة بنا بصمتها وسوء تجاربها، نهرب إليها بحثا عن الأمان، كلما كشر لنا العالم عن أنيابه، وكلما تعبنا ووقفت بنا أقدامنا لا تقدر على حملنا ، من طول الطريق ومشقة السفر، نحتضن ما تبقي فينا، وما تبقي منا بين حوائطها، نبكي،  نضحك، نثرثر وكلنا أمان، أن لا أحد يرانا سوى أعين أحبتنا، وهى ترقبنا من بعيد، تعتذر لنا عن الرحيل، عن القسوة، عن برد المكان دونهم، نأتي الأماكن نعلنها صريحة، أننا أشتقنا إليهم حد الوجع، أننا نحتاج بياض قلوبهم وطهر نفوسهم، وسط عالم تزاحمت به الأنانية والنفاق.

أستقل "زين" سيارته، تارك البيت وبداخله عشرات الأسئلة تنهشه، والمخاوف تحتل قلبه، صوت يدق عقله قبل قلبه يخبره، أن شئ سوف يقلب حياته، رأسا على عقب، يغير أشياء كثيرة من حوله ظل يضرب مقود القيادة ، بيديه محاولا أن يكتم غيظ  كبير وثورة بداخله، قابله خاله "أمين" فى طريقه ذاهب إليه، كي يودعه قبل سفره،أخذ يناديه ؛ آلا أنه لم يسمعه، من كثرة ما يموج به عقله وقلبه، تعجب "أمين" الذى وقف مكانه، يركل حجر صغير أمامه قائلا:

-ماذا بك يا "زين" جعلك لا تري من أمامك حتى أنا ؟!  كنت تشعر برائحتي قبل أن تراني، قلبي به خوف مما حدث ليلة أمس ، من مقابلتك لهذا الرجل الذى يدعى "أسماعيل"، ومن صدمتك فى تصرفات "حمزة" ، لم أكن أتمني أن يحدث كل هذا، ولا أن تعود وقلبك ممزق، بين الحقيقة التى بدأت تتسرب إليك، وبين كذبة كبيرة، كنت تعيشها، تجعلك تحيا بسلام وإن كان سلام مزيف ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا، أكمل طريقه ذاهبا إلي شقيقته، يري ماذا حدث جعل "زين" شارد هكذا؟! توقف "زين" على جانب الطريق، فتح نافذة سيارته، شارد عبر الحقول الخضراء أمامه وطائر أبو قردان الأبيض الذى يملأها ، شرد فى المياه وهى تنساب تقبل وجه الأرض، تروي ظمأ عطشها، أغمض عينيه يتنفس بهدوء، عاد من جديد ينظر إلى ذلك الخاتم الفضي، الغافي بسلام بين أصابعه، تحسسه بأنامله هامسا دون صوت:

-أنت الشئ الوحيد، الباقي لي من كل ما مر من عمري ، باقيا كأنت لم تتغير،ولم يستطع الزمن أن ينال منك، وكأن بك شئ من طهر طفولتى وسلام روح من أهدتك إلي ، أشعر أحيانا أنها قرأت عليك تعويذة، كى تحفظنى من كل طمع وزيف، كثيرا ما أقسم أنها قرأت عليك، آيات من القرأن الكريم، كي تريني كل شئ على حقيقته، حينما وضعتك من جديد بأصبعي، وضحت الكثير من الأمور التى كنت  لا أراها، أخطأت حينما تركتك يوم، كما أخطأت خطأ لن أغفره لنفسي، لأنني تركت صاحبتك، تنهد مردفا يا الله ، لتلك الدرجة، هناك أرواح تحمينا حتى من أنفسنا، تغفر لك غبائنا وأسرافنا، وتكون دوما بصيرتنا، حتى وإن كان بيننا وبينها ألاف الأميال ،أغفر لي يا الله  ما أضعته، من بين يدي من نعمة أنعمت بها عليا، الأن فقط عرفت، أنني أضعت شعاع النور الوحيد الذي كان ينير لي الطريق، ويريني القلوب على حقيقتها، لكن وحدك تعلم أن ما حدث لم يكن بأرادتي، وأن كل شئ حولي كان أكبر مني ، لكنك وحدك تعلم أن هذا القلب، مرهون بها منذ زمن ولن يشغله أحد سواها، سوف أموت وهذا القلب مغلق عليها، سوف تصحبنى أيضا فى قبرى ،

فتح باب سيارته، ترجل منها قاصدا مكان، أخفت ملامحه، أشجار الكافور الضخمة، والتى فرشت الأرض من أسفلها بورقها الكثير، مال يمسك بعضها بين يديه وهو يبتسم، قربها من أنفه يستنشقها، خطي داخل من بينها، إلى المكان الذى تخفيه ، كأم تخفى طفلها عن الجميع خوفا عليه، كانت عيون الماء كما هى، لم تتغير منذ زمن يهرب، عندما كان يهرب من كل شئ إلى هذا المكان ، الماء يترقرق فيها عذب صافي، وصوت العصافير تملأ البراح من حوله، سار والحنين يعتصر ضلوعه ، شعر للحظات ، أن قلبه كاد أن يتركه ويطير، كغريب وجد وطنه ، نظر على مقربة منه حيث الساقية القديمة، التي ما تزال تحمل أثار كفه، أبتسم حينما رأها، تروي الأرض وصوت المياه المندفع منها، يخبر أن هنا حياة، نظر إليها نظرة طويلة، أختلطت بها كل المشاعر والمعاني قائلا:

-ما تزالين كما أنت ، رغم الزمن، ما تزالين كما أنت، تعطي الحياة لكل شئ حولك، خطى خطوتين ناحيتها، شئ ما ضرب قلبه، عاد يقف مكانه من جديد، ضيق عينيه ينظر إلى تلك الجالسة تحت ظل شجرة أمام الساقية، شعر بأن كل شئ به، أنقلب رأسا على عقب، شعر أن الأرض تميد به ، وأنه لا يقوى على الوقوف، ولا على الحراك، تنفس بعمق، أراد أن يأخذ كل ذرات الهواء المحيطة بالمكان، تمني لو كان بأمكانه، أن  يحتضن الأرض نفسها، التي خطت عليها تلك الجالسة، بدون وعي كمن سري بعروقه مخدر لا يعرف مصدره، سار باتجاهها، وقف على بعد خطوتين منها، ظل يتأملها وهي شاردة بمياه الساقية، المتساقطة فتنثر رزازها فوق وجهها، الذى ظل كما هو هادئ جميل، به شئ من طفولة غريبة، تجبر من يراه  أن يذهب معه، وقف يبتسم وعينيه تحتضنها، معتذرة لها بصمت ووجع، أنتبهت  فجأة إليه، رفعت رأسها تنظر، تري من الضيف، تعلقت عينيها به، أرتعش كل ما بها، خفق قلبها خفقة قوية،،  كادت تأخذ روحها، عادت برأسها مرة أخري، تنظر إلى المياه أمامها، عادت تهرب منه ومن نفسها، التي لولا خجلها لهرولت إليه، تضمه إليها دون أن تتركه، حاولت بكبرياء يئن، أن تحتفظ بهدوء أقرب للثورة، شعر بها ، شعر بكل ما تعانيه وما تحاول أن تخفيه، تمني لو كان بيديه، أن يلملم بعثرة روحه وروحها، هل تلك حقا بعثرة أرواح، تحتاج  أن تسكن بعضها؟! هل ما يحدث  إشتياق روح، إلى  أخري  كانت بعيدة عنها، والأن فقط أتت لديارها ؟! ما هذا الشعور القاسي رغم جماله؟! ما حقيقة تلك المشاعر التي تضربنا دون رحمة أو هوادة؟! ماذا حدث لكل هذا الأعصار،  الذى  يقتلعنا نحن ذاتنا من أنفسنا، من داخلنا، يسرقنا من بين ضلوعنا، يحدث دبيب، يجعلنا أول ما نفعل أن نجري إليهم، نخفي ألمنا بأحضانهم، وكأنهم ماء يطفئ لهيب مستعر، وكأنهم ملاذ أمان نحتمي به من وجوه نخافها  يتربصون بنا ، حتى أوطاننا التى أحتلت، ودمر الأعداء أجمل أشيائها، نجد بهم عوض وسلوي عن كل ما سُرق منا دون  إرادتنا، أقترب منها "زين"، جلس على ركبتيه أمامها يبكي، كطفل صغير، تنازل بكل سماحة نفس، عن كبريائه ومكانته، آتي محرابها كعابد، يبحث عن خشوع،  يكفر به عن سيئاته، جلس أمامها يحاول أن يتحدث، أن ينطق، أن يقول أى شئ ، لكن كل الكلمات خانته ورحلت عنه، وكأن كل كلمات الكون صغيرة، ضئيلة، لا شئ أمام ما يشعر به ، صمت ، وصمتت هي الأخري معه، نظرت إليه ، شئ ما ذُبح حينما رأت دموعه، حاولت أن تمد أناملها تمسح وجهه ، تخفي عينيه عنها ، همت أن تفعلها، لكن حتى يديها لم تقوي على فعل هذا ، حاولت أن تستجمع شجاعتها، أن تتذكر ما فعله بها، مرت دقائق حتى نجح فى أستدعاء صوته الهارب منه قائلا:

-"قمر"  أغمضت عينيها بشدة، كانت تحتضن صوته، الذي  إشتاقت إليه، كانت تتنفس من جديد بعد كل هذا الموت الذى عاشته، سمعت أسمها من فمه بعد هذا الزمن، عاد أسمها يليق بها، حينما نطق به، شعرت بمذاق الحروف والأسم ، بعد أن كانت فقدت مذاق كل شئ ، تنهدت بقوة دون أن تجيب، ناداها ثانية قائلا بصوت أخذ كل حنان الكون :

-"قمر"  جئت هنا ولم أكن أعلم أنني سأراك ، جئت دون ترتيب، هناك شئ قادني دون إرادة مني أنه الله الواحد، الذي يعلم مدى   اشتياقى و إحتياجي إليك ، نعم رغم الفراق ، رغم كل تلك السنين وما حدث ، لم يستطع الغياب أن ينسيني إياكِ، لأن الله جعل حبك هو زادي، وكأنك الوحيدة الموجودة بهذا الكون، والتي لم يعرف قلبي غيرها، أعلم ما فعلته بكِ، أعلم مدى جرحك مني وخيبة أملك في ، كما أعلم أنك تعذبتي كثيرا، وأنني الألم الوحيد، الذى عشته بكل كيانك ، شهق شهقة كبيرة وهو يبكي، جعلتها تنظر إليه من جديد مردفا:

-دموعي تلك دموع ندم وأعتذار، لكن الأكثر من هذا أنها دموع حنين وأشتياق ، لن أطلب منكِ أن تغفري لي ما كان ، لن أقول لكِ سامحيني ، لن  أكون أناني وأطلب منكِ أن تبقين على حبي ، لأنني أعلم جيدا، أنكِ ما زلتِ تحفظين عهدي ، وأن لا أحد سكن  قلبك غيري ، كل ما سوف أطلبه منكِ هو أن تعطيني فرصة أخيرة ، كي أجمع لكِ كل أعتذارت الكون ، أن أجمع نفسي وألقياها تحت قدميك كربان مني كي تصفحي ، تستحقين ما هو أجمل ، تستحقين ما هو أكبر من كل هذا ، أعطني فرصة أخيرة يا "قمر" كي أعطيك حقك ، مد يديه يمسح دموعه ، رأت الخاتم بين أصابعه جحظت عينيها حينما رأته ، نظر إلي الخاتم ثم إليها مبتسم قائلا:

- نعم ما زلت أحتفظ به وما زال غافي بين يدي ، كما زلتي  أنتِ غافية طمئنة بين ضلوعي وبداخل قلبي ، خرجت من بين شفتيها ضحكة ساخرة ، وقفت بعدها رافعة رأسها إلى أعلى قائلة وهي تهم بمغادرة المكان :

-لكنني لم أعد أحبك ، كنت بلهاء حقا ، عندما أعتقدت أنني أحبك وأن شئ ما يربط بيننا ، سيادة القاضى الكبير ، ليس كل البشر عبيد عندك ، تذكر هذا جيدا ، تذكر أنني حرة أبنة أحرار ، ولن أخضع لأحد مهما كان ، حتي وإن كانت روحي معه ، سأخنق تلك الروح وأسحق قلبي إن كان المقابل كرامتي ، تحبني؟! يا ليتها من عطية ، لكنني لا أحتاج عطيتك ، لأنني ببساطة لم أعد أحتاجك ، قاسية هي كلماتى ، لكن ما فعلته أنت بي كان أشد قسوة من مرارة الصبر .

                                     "الفصل الثاني والعشرون"

        

                                     "سبق إصرار وترصد"

متى ندرك أننا لسنا ملائكة لا تخطئ ؟! متى نعترف بكل شجاعة أننا أخطأنا فى حق غيرنا ؟! هل ننتظر لحظة شجاعة وصحوة ضمير ؟! أم أننا نتناسى ما فعلناه، نبقي دائما أمام أنفسنا ملائكة لا تذنب ؟! لا شئ بالكون كله أغلي من كرامة البشر، لا شئ يعوض إنسان، لحظة ظلم واحدة وقهر مشاعره، ليتنا نفكر ألف مرة ، قبل أن نرتكب جرم بحق غيرنا ، ليتنا نقف أمام مرأتنا ، نتطلع إلى وجوهنا، نسألها هل نحن حقا لم نخطئ يوم فى حق أحد ؟! أم أن هناك الكثير من الديون التى نحملها بأعناقنا،  وتحتاج لأن تُرد إلى أصحابها؟!

علينا أن نثق تمام الثقة أن الحياة تتقلب، لا شئ ثابت، اليوم لك وغدا عليك، ليكن لدينا  الشجاعة والقوة ونعترف بذنوبنا وظلمنا لغيرنا .

وصل "أمين" إلى بيت أخته "أمنة"، التى ظلت جالسة مكانها لا تتحرك، بعد أن غادر "زين"، وكأنه غادر وأخذ معه قوتها، وإن كانت الحقيقة التى جعلتها هكذا تبقي جالسة بلا حراك، هى ما فجره "زين" قبل سفره، عن كل ما حدث وما رآه باحتفال ليلة الأمس، دارت القصص والأحداث القديمة، جميعها برأسها دفعة واحدة، دون هوادة، وكأنها كانت قد أختفت منذ زمن، من أجل تلك اللحظة، من أجل أن تأتي جميعها تنهشها دون رحمة، وضعت وجهها بين يديها شاردة، منفصلة عن كل ما حولها، لم تنتبه لحضور "أمين"، الذي جلس أمامها، يمسك مسبحته يهمس ، داعيا الله عز وجل، أن يكون ما يشعر به كاذب، غير صادق، هو نفسه لا يريد أن يفتح دفاتر قديمة، طويت صفحاتها، لم يعد لديه القدرة أن يواجه ويدافع عن شئ، هو نفسه يدينه، لكن لم يدافع؟! ما الذى يجعله يبرر الخطأ ؟! وإن كان تبريره مجرد حفظ ماء وجه شقيقته، هى مذنبة ، وغيرها كذلك وهو يعرف كل شئ ، لم إذن يرهق نفسه ؟!ويحاول أن يفكر، كيف يخرجون جميعا سالمين من هذا المأزق ، هل إن فعل ذلك سوف يكون باستطاعته ، أن يقف فى الصف إمام فى الصلاة؟!هل سيكون بمقدوره، أن يقرأ على الصبية القرآن، يعلمهم آياته؟! تنهد يضرب المنضدة أمامه بمسبحته، كى تنتبه "آمنة" إلى وجوده، أنتفضت فى مكانها، تنظر إليه، حتى رأته يشير لها بيديه قائلا:

-أين كنتِ كل هذا؟! أنا هنا منذ زمن، إعتدلت فى جلستها تنظر إليه قائلة:

-أهلا بك يا أخي، لم أشعر بوجودك ، ضيق "أمين" عينيه قائلا:

-ماذا حدث يا "أم زين" ؟! أشعر أن هناك خطب ما، هل أنت بخير؟! هزت رأسها ببطء قائلة:

-أم زين تلك هى المشكلة يا "أمين"، "زين" هو المشكلة الكبيرة، التى لا تريد أن تتركني وشأني  نادي "أمين " على "سعدية"،طالبا منها فنجان من القهوة، عاد بعده ينظر إلى عيني شقيقته الزائغة والتى قرأ فيهما كل شئ قائلا:

-ما حدث من "زين" يربكك هكذا؟! "زين" طيلة حياته هادئ ومسالم، يحبك لدرجة أنه لا يعصي لك أمر، وأنت تعلمين هذا، لو كان ممن يغضب غيره، ما كانت حياته هكذا، ليته كان أناني ولو لمرة واحدة فقط، ليته أحب نفسه ولو يوم واحد، ما كان حدث ما حدث، وقتها فقط كان بمقدوره أن ينتزع حقه، من بين قسوة قلبك عليه ، رمته "أمنة" بنظرة غاضبة، لكنه لم يأبه لها قائلا:

-نعم  قسوة قلبك، تعلمين أن ما أقوله حقيقة، تعلمين أنك أضعت حياته دون ثمن، أو بمعني أصح أضعتِ حياته وقبضتِ أنت الثمن الذى يعجبك، كمن يبيع عبد، فى سوق النخاسة ويحدد قيمته ، دون حتى الرجوع إليه ،وكأنك خلقتيه  صنعتيه بنفسك، رفعت "آمنة" حاجب عينيها، التي كانت تنم عن ثورة  آتية قائلة:

-إذن أخبرني ماذا صنعت ؟! ضع يدي على جُرمي الذي تتحدث عنه؟! هيا قل لي كيف أضعت ولدي ؟! وهو من فعلت من أجله كل ما فعلت، أنظر إليه جيدا، أنظر عل بصرك قد ضعف، أخبرني ماذا تري أمامك ؟! قاضيا كبيرا له أسمه ومكانته، التى يحسب لها الجميع ألف حساب ، زوجته من أكبر عائلات مصر، لديه ولد من  أجمل وأنجح ما يكون، صنعت له هنا ثروة، لا يعرف هو ذاته، من أين تبدأ ؟ وأين تنتهي؟ هيا أخبرني وكن عادلا، فى أي شئ ظلمت ؟! وعلى من كانت قسوتي؟! إبتسم "أمين" أبتسامة ساخرة قائلا:

-كل شئ عندك ينحصر فى السلطة والمال، تقيمين الأمور، من منطلق واحد وهو النفوذ، تعتقدين دوما أن السعادة ، في منصب وجاه، طيلة حياتك قلبك جامد صلب، لا يعرف شئ أسمه الحب، هل تعتقدين أن ما فعلتيه مع "زين" ، يسمي زواج، به رحمة وود ورأفة ، لا أنه مجرد صفقة، لم يقبض مكسبها غيرك، لأنك أردتِ فعل هذا، وطبيعي فى قانون "آمنة المنشاوي"، أن ينفذ الجميع ما تطلب، أن لا يعصي أحد لها أمرا، مهما كان هذا الأمر، أنك وهبتي عمره وحياته لغيره، دون أن يشعر أنه يحيا، جعلتي منه دمُية ، تتحرك تأكل وتشرب دون إحساس، ذبحتي قلبه بسكين تسلطك، حبك له تماما، كحب دبة قتلت صاحبها بغباء قلبها، كل ما فعلتيه كان له هدف واحد فقط ، تعلمينه جيدا،أم تُراكِ  تغافلت عنه ؟! حسنا دعيني أذكرك به، ضغطت "آمنة"،على أسنانها فى غيظ ، حتى كاد "أمين " يسمع صوت أسنانها ، ألا أنه لم يهتم مردفا:

-كان كل همك أن تبعديه عن حب عمره ورفيقة دربه "قمر"، هبت واقفة كمن لدغها عقرب قائلة بصوت مرتفع :

-يكفي يا "أمين"، يكفي ما قلت، ألم تنسي تلك القصة السخيفة ؟! وقف "أمين" أمامها بتحدى غريب قائلا:

-لا تخافي لن أكمل ما فعلتيه، لأنكِ تعلمينه جيدا، تعلمين ما اقترفته، من ظلم فى حق "زين" وتلك المسكينة التى لم تقدم لك أي شر ، أخذت تفرك كفيها بشدة قائلة:

-أنا لم أفعل شئ ، كل ما فعلته أنني كنت أحمي ولدي، أردتِ له حياة سعيدة، مع زوجة تليق به ، بعيدا عن منشية "أبو القاسم" وأهلها، هم "أمين" بالإنصراف قائلا:

-تنازلي ولو لمرة واحدة عن غرورك ، إعترفىِ بأنك بشر والبشر يُخطئ ،قرى  بذنبك الذي اقترفته منذ عشرون عاما، ولا تُلقي كل شئ على القدر، مدعية أن ما حدث مجرد نصيب، النصيب برئ من هذا الظلم، من الممكن أن نسمي ما حدث نصيب، عندما نفعل ما بأيدينا وينفذ الله إرادته دون تدخل منا، وقتها سوف أُقر ما تدعيه، وأقول حقا أنه نصيب ، أما ما نفعله نحن بأيدينا ونُصر عليه، ونحن بكامل إرادتنا ونمتلك زمام أمورنا، يُسمي سبق إصرار وترصد، يعاقب عليه الله، ومن بعده يعاقب عليه القانون والبشر، ما يحدث الأن أنتِ شريكة فيه ، وعليك أن تتحملي تبعت جُرمك، أنتِ لستِ مجنى عليها،  بل أنت جاني يا "آمنة" ، عليك أن تتحملي ما تحمله الأيام القادمة، لأنني أراها تحمل الكثير لكِ ، علمتِ أن "زين" تم نقله إلى هنا ، وأيضا علمتِ أنه قابل "أسماعيل" بالأمس ، هل تتذكرينه ؟ أم أنك أيضا لا تعرفين من هو "أسماعيل" ؟! نسيت شئ آخر قبل أن أنصرف، لأنني كدت أن أختنق، الهواء هنا صار يحمل الكثير من الذنوب ، التي تكابرين فى الأعتراف بها، "زين" أيضا رأي "حمزة" للمرة الأولي من داخله، رأي قلبه الذى يشبه قلبك ، تتذكرين ما أتفقتِ معه عليه ، أم هذا أيضا نسيته ؟! إن كنتِ نسيتي كل هذا ، فتذكري أن الله لا ينسي

    

                                "الفصل الثالث والعشرون"

                                      " القسوة حب "

هل نقسوا لأننا نكره ؟! أم نقسوا لأننا نحب بعمق ؟! نحب حتى أخر أنفاسنا، وبكل ذرة فى كياننا إن كرهنا لا نقسوا، لأننا وقتها لا نتعذب بمشاعر مجروحة ما زلنا نخفيها، مدعيين كذبا أننا نكره ، نقسوا لأن ما بداخلنا، أكبر من أن نتحمله ، فيخرج من داخلنا فى صورة قسوة، نحاول من خلالها أن نحتفظ لأنفسنا بكبريائها ، نهرب مُحتمين بتلك القسوة، وكأنها أخر سلاح مقاومة لدينا ، إن كرهناهم ما قسونا عليهم، إن نسيناهم ما كنا تألمنا، القسوة حب، بل هى قمة الحب، نقسوا عليهم لأننا لم نستطع الهرب منهم ، والفكاك من بين أيديهم ، نقسوا لأنهم لا يتركوننا وشأننا ، نرى دوما بهم ضعفنا، الذى لا يترك لنا براح نفر إليه منهم، غبي من يعتقد أن الحب لا يعني سوى الرحمة والود، الحب له فى كل حالة طبع ، الحب له فى كل موقف رد فعل ، لا نقسوا سوى على من يلمسون الروح ، يختبئون بداخلها ، القسوة محاولة يائسة، نخبر بها من نحب أننا أقوياء ، لا شئ يؤلمنا ، وفى الحقيقة نقول لهم ، نقسوا لأننا غارقيين بكم  حتى النخاع.

تركت "قمر" المكان ، تفر بنفسها منه ، تحاول أن لا تجعله يري حبه بعينيها، ذلك الحب الذى ظلت محتفظة به، طيلة سبعة عشر عاما، دون أن يدرى به أحد ، سوى من يعرفون قصتها مع "زين"، سارت كمن تسير فوق شظايا بلور مكسور، مع كل خطوة  تخطوها يُدمي قلبها، مع كل خطوة تكتم صوت أهه، تريد أن تترك ضلوعها وتجوب الكون، سارت مبتعدة عنه، وكأنها كلما إبتعدت زادت النار إشتعالا، ألف أحساس يقاوم كي لا تسقط، ألف أحساس يُقبل قدميها، كى تتركه يذهب معه، يبوح فى حضرته، بكم يحبه، وكم يشتاقه، وكم يحتاج إليه، سارت غير عابئة بكل تلك الأحاسيس، فهي من تحملت أكثر من هذا منذ فراقه، تحملت لدرجة أنها صارت تعتقد أن لا أحساس صار يؤلمها مهما كان، حتى من حولها صاروا يرونها شخص قوي صلب، لا يهتز مهما حدث ، وهي فى حقيقتها طفلة صغيرة ، تتمني لو باعت الدنيا بمن فيها ، فى سبيل أن تأتيها لحظة ضعف واحدة ، تترك لنفسها فيها العنان ، تقول أنا متعبة ، تجري إلي صدر تختفي به ، لكن أين هذا ؟! وما قيمته إن لم يكن معه هو ذاته ، تتمني أن تشبعه ضربا ، ثم ترتمي بحضنه تضمه إليها

كانت "قمر" قاب قوسين أو أدنى، من ترك المكان ، لكنها إصدمت بمن جعلها تقف، تلتقط أنفاسها وتلملم روحها المبعثرة هناك عند أقدام "زين"، وقفت فزعة تنظر إليه واضعة كفها فوق قلبها ، أغمضت عينيها تتنفس الصعداء قائلة:

-"البدر" لقد أفزعتني ،  كاد قلبي أن يتوقف ، ما الذى  حضر بك إلى هنا ؟! إبتسم يضرب الأرض بعصاه التى  يتكأ عليها قائلا:

-الأرض بوسعها ملك لي يا "قمر"، هل نسيتِ أننى "البدر" ، أنام بالخلاء وألتحف  بالسماء، أعرف ما تخفيه ، وما يوجع روحك ، جئت إلى هنا الأن من أجلك ، ومن أجل "زين" أيضا ، مرت عاصفة بوجهها حينما سمعت أسمه ، أبتسم " البدر" عندما رأها قائلا:

-ما زلتِ تحبينه ، تلك حقيقة أراها بقلبي ، أستشعرها بروحي ، مهما حاولتِ أن تخفيها ، أشاحت "قمر" بوجهها بعيد عنه وقد أحمرت عينيها قائلة :

-كدت أن  أضحك على ما تدعيه يا "البدر"، لكنني نسيت الضحك منذ زمن بعيد ، مؤكد  أيضا تعرف من جعلني أنساه، أنت واهم فيما قلت، أنا لا أحب "زين" بل أكرهه، خرج صوتها مختنق بدموع، حاولت أن تحبسها بداخلها ، كى لا تفر هاربة من عينيها ، تنهد " البدر " مشيرا ناحية السماء قائلا:

-سبحان من وضع المحبة بقلوب الصادقين ، وحده القادر على أن ينتزعها أنتزاعا، لأنها تكون كالروح، سابحة بأنسجتنا ، مبحرة بدمائنا، مهما مر من زمن ، مهما سقط من سنوات وطوينا من صفحات  ووجوه وبشر ، يبقون مقيمين بين ضلوعنا ، مهما أهتز داخلنا لا يسقطون ، حتى كلمة أكرهه، التى نطقتِ بها الأن، هى فى حقيقتها  تعني  أحبه ، لو كرهتيه  يا " قمر" ، ما كنت أدعيتي كرهك له ، كلمة أكرهه تعنى أننى أكره حبي له وتعلقي به ، أكرهه لأنه جعلني أحبه ، كلمة  أكرهه هى ذاتها كلمة أحبه بشكل أخر، شكل موجوع وربما مهزوم ، تعني أكره ضعفي الذى ينتابني حينما أراه ، تحبينه يا "قمر"،  تحبينه لدرجة أن الزمن ذاته ، لم يستطع أن يجعلك ترين غيره ، رفقا بروحك التى تذبحيها كل يوم ألف مرة، "زين" أيضا يحبك ، نظرت إليه كمن يستجدي أحد كي يقسم،  أن ما يقوله حقيقة، وأن كلمة ما زال يحبك التى نطق بها منذ ثواني صادقة، نظرت إليه وبداخلها عشرات المشاعر والأحاسيس ، تتوسل إليه أن ينطقها مرة ثانية ، أن يُرد عليها روحها ، أن يُزيل عنها عبء السنين الماضية ، الذى جعل منها مجرد دمية متحركة ، حتى وإن كان ما قاله لن يرزقها شئ  جديد ، يكفي أنه سيرد لها كبريائها، ويبرهن لها أنها لم تكن خاطئة ، حينما أحبته ووهبت له قلبها ، هز "البدر" رأسه مبتسم لها ، أبتسامة مليئة بحنان أبوي يمسح بها رأسها قائلا:

-أقسم لك أن "زين" لم يحب أحد غيرك ، كأنت تماما ، وكأن كلاكما توأمين ، يربط بينكما حبل سري واحد ، قلبك لديه ، وقلبه لديك ، تعتقدون أنكما بعيدان ، وحقيقة الأمر أن كلا منكما ، مقيم عند الأخر،مدت يديها تحكم غطاء رأسها قائلة:

-وإن كان يحبني كما تقول ، لم تركني ؟! أين كان كل تلك السنين الماضية؟! كيف هان عليه كل ما حلمنا به وعشناه سويا؟! من أين لقلبه بكل تلك القسوة يا "البدر" ؟! مد يديه يمسك بذراعيها قائلا:

-أنتِ أكثر من يعرف "زين" حق المعرفة ، تعرفين أنه ليس قاسيا ، تعرفين أنكِ ما هونتِ عليه يوم وأن ما كان بينكما ، ما زال موجود حي يرزق ، "قمر" ما حدث قديما وفرق بينكما ، كان أقوى من أن يقف "زين" فى وجهه ، تعرفين كيف هى أمه ؟ وكيف هو "حمزة" ؟ إن كان أخطأ فهو أخطأ فى شئ واحد فقط ، أنه تزوج من غيرك ، لكنه وقتها كان ضعيف ، كان مجروح يبحث عن أى مخدر ، يهرب به من ألم الواقع وجرح قلبه ، الذى ما زال يحمله بداخله ، وإن كان جرح خفى لا يراه أحد ، كان يحاول أن يُبعد الدم عن الجميع ، ضحى  بنفسه أول ما ضحي ، وهو يعتقد أنه يحميك ويحمى كل من حوله من طوفان دم ، لم يكن يعلم أن هناك حقيقة لا يراها ، وهى أنه لن يستطع أن ينساكِ ، أو أن يُوقف ما كان يخاف منه ، "قمر" عليك أن تصدقين ما أخبرك به ، صدقيني مهما حدث، سوف تعودين إليه ويعود إليكِ ، الأرواح لا مكان لها سوى  داخل أجسادها ، اصبري  فقط ، لا أحد يعلم ما هو آتي، غير الله سبحانه وتعالى ، الأتى ثقيل وعليك أن تكوني كما أعرفك قوية ، لم تنطق بكلمة واحدة ، لم تجيبه بأى شئ ، وكأن ما قاله لا يوجد رد عليه ، تركته ماضية فى طريقها ، وبداخلها خوف وأمل ورجاء وترقب ، ألقاهم بداخلها " البدر" دون أن تعرف حقيقتهم ، ظل الأخير واقف مكانه ، يتبعها ببصره حتى غابت عنه ، رفع رأسه إلى السماء قائلا:

-يا مُجمع القلوب بعد تنافرها ، يا زارع المحبة دون إرادة منا ، أجمعهم بعد فرقتهم تلك ، أجبر كسر قلوب تحب بُطهر، دلف حيث الساقية القديمة ، وجد "زين" يقف شارد فيها ، وضع يديه فوق كتفه من الخلف ، أنتفض فى مكانه ، ناظرا إليه ، أبتسم له "البدر" قائلا:

-لا تخف أنا "البدر" ، هدأ "زين" حينما رأه ، هكذا هو دوما ، ثلاثة فى تلك الحياة  ، يمتلكون مفتاح قلبه وهدوء روحه دوما ، "البدر" وخاله "أمين" و"قمر" ، حتى "حمزة" ذاته رغم  إرتباطه الشديد به ، ألا أنه لم يستطع أن يكون ضمن هؤلاء بالنسبة له ، صمت "زين" وكأنه لا يريد التحدث مع  أحد بعد "قمر" ، كي يبقي صوتها يملأ الكون من حوله ، أقترب "البدر" من الساقية يشرب من مائها ويغسل وجهه قائلا:

-لا تصدق ما قالته لك ، كل ما قالته كذب ، نطق به لسانها فقط ، أما قلبها فهو ممتلأ بك ، ما قالته مجرد محاولة بائسة منها ، كي تُخفى ضعفها وجرحها منك ، عليك أن تتحملها ، وتتحمل كل ما قالته ، لأن لديها حق عندك ، تفهم ما أقوله ، مد "زين" يديه بداخل جيب سترته ، يخرج منه منديل أبيض ، أعطاه "للبدر" يمسح به وجهه من الماء قائلا:

-قست عليا بشدة ، دون أن تعلم ، قست وجعلت من كلماتها سكين يذبح روحي ، جعلتني أكره نفسي ، وأكره ما فعلته بها ، صدقني يا " البدر" ، تمنيت الموت على أن أسمع ما قالته "قمر" الوحيدة التي لا أتحمل كلمة قسوة أو كره منها ، أمسك بالمنديل يقلبه بيديه ، عائد به إلى "زين" قائلا:

-خذ منديلك لا حاجة لي به ، القسوة فى حد ذاتها حب أيها الأبله ، قست عليك لأنها تحبك حب ملك عليها شغاف قلبها ، نعم ما زالت تحبك ولن تحب أحد غيرك ، قسوتها تلك أكبر دليل على صدق كلامي ، كان عليك أن تفرح من ثورتها وقسوة كلماتها ، عليك أن تعرف شئ ، وقت أن تتركك دون عتاب ، وقت أن تتعامل معك بفتور ، عليك أن تخاف ، لأنك وقتها فقط عليك أن تتأكد ، أن مكانتك بداخلها أصبحت لا شئ ، كلما أحببنا ، وخاب ظننا فيمن نحب ، كانت قسوتنا أشد ، قست عليك لأنها تريد أن تخبرك حقيقة واحدة دون كلمات ، حقيقة تقول أنها ما زالت متيمة بك، أقترب "زين" منه يحتضنه بشدة ، يحتضنه فرحا بما قاله ، ضحك للمرة الأولى من قلبه منذ زمن قائلا:

-أُصدقك ، وأصدق كل ما تنطق به، لأنني  أعلم أنك تري بنور الله ، تري القلوب من الداخل وتعلم ما تحمله ، لا أعرف كيف أُجازيك على هذا الأمل الذى زرعته بداخلى ، كلماتك تلك جعلتني أتنفس وأشعر أن لي قيمة بتلك الحياة ، جعلتني أشعر أن هناك من يجب علي أن أحيا من أجله ، ضمه "البدر" بشوق أكبر ، مقترب من أذنيه قائلا:

-القادم أصعب مما مر يا "زين" ، لم يعد لديك سوى  فرصة واحدة فقط ، بتلك الفرصة سوف يكون أمامك خيارين ، إما أن تنتصر للحق والعدل ، وثمن هذا سوف يكون رقاب تحبها ، وإما أن تغمض عينيك وتترك الحق يضيع ، ومعهما ضميرك وأيضا "قمر"، الأختبار صعب جدا ، وقتها فقط سوف تكتشف نفسك على حقيقتها ، لا أستطع أن أقول لك شئ ، سوى شئ واحد ، أعانك الله على ما هو آتى.

                                 "الفصل الرابع والعشرون"

                                       "قرار صعب "

لا يتضح عمق المحبة ألا عندما نُوضع فى أختيار حقيقى، لا نعرف حقيقة مشاعرنا، وكم هى صادقة ؛ألا عندما نمتلك حريتنا كاملة أمام لحظة حاسمة يُفرض علينا فيها ، أن نُقر بما نريد ونحب؛ تجبرنا الأيام أن  نتحمل تبعة تعلقنا بشئ، نري فيه الحياة، نعلم أننا سنُخلف دوما خلفنا شئ منا، وكأننا نقدمها قربان، كي نحتفظ بمن نحب دوما معنا وبين أيدينا وبأحضاننا.

كانت الساعة تزحف إلى السابعة مساء، حينما وصل "زين" إلى فيلته الفخمة بالمريوطية، ترجل من سيارته وفوق ثغره أبتسامة لم تزوره منذ زمن طويل، تركت كلمات "البدر" بقلبه شئ من السعادة، روحه بها شئ تغير، هو نفسه لا يعرفه ، ربما رحلت كأبة الماضى ، ربما مسح أحدهم على قلبه وأخذ منه كل حزن ، ونثر بين أوردته فرح عذب ، رأه البواب فهرول إليه مرحبا به، يشكر الله على سلامته، يصافحه "زين" فى ود كبير، شاكرا له صنيعه قائلا

-هل "ريان" بالداخل ؟ لم يسأل عن أحد سواه ، لم تكن عينيه تشتاق رؤية أحد بعد رؤيته "قمر" غير رؤية "ريان" ، حتى "ناهد" ذاتها ، لم تشغل حيز من تفكيره ، لم يتذكر أن يسأل إن كانت بداخل أم لا ، نرى أبنائنا دوما أول من نري ، مهما كان حولنا من بشر ، قلوبنا دوما تبحث عنهم ، تراهم حتى وسط الظلمة ، من رأهم القلب قبل العين ، كيف لا نراهم ولو كان بيننا وبينهم زحام بشر، أومأ البواب برأسه قائلا:

-نعم سيدى ، هو بداخل لم يبرح الفيلا منذ أن سافرت ، ضيق "زين" عينيه بقلق قائلا:

-لم هل هو متعب؟! هل ألم به مكروه؟! لم ينتظر إجابة من البواب ، قصد باب الفيلا وقلبه يدق خوفا على أبنه ، ما أن وصل حتى أخذ ينادي عليه قائلا:

-"ريان" أين أنت؟! قد أشتقت إلى رؤيتك، كان الأخير يمكث فى غرفته، يُكمل رسم هذا الطيف الذى هبط عليه من السماء، دون سابق معرفة ، ما أن سمع صوت أبيه حتى ألقي بالفرشاة أمامه ، تاركا غرفته وهو يهرول إلى البهو بالأسفل؛ ألقي بنفسه بين أحضان أبيه يضمه فى حب كبير واحتياج أكبر، ضمه "زين" إلى صدره يبحث عنده عن الأمان ، مر بعض الوقت وكلاهما داخل حضن صاحبه .

يمر الوقت ، تسقط الساعات دون أن ندري ، دون أن نحسب لها حساب ، يمر كل شئ من حولنا ونحن فى غفوة أمنة مطمئنة، داخل حضن من نحب، بهذا البراح الذى لا يشاركنا به أحد ، نسكن ، نهدأ، نُسقط منا كل وجوه خذلتنا، كل ذكرى ضربتنا بسياط أوجعتنا، نتجرد من كل كبرياء ونحن راضيين، طائعين، هادئين، لا يشغلنا شئ ، سوى أننا نحيا بأرض غير الأرض، أرض لنا فقط ، خُلقت على مقاس قلوبنا، بألوان أحلامنا، ننام وقد عودنا أطفال صغار، كل ما بجعبتهم ، أقلام ألوان، وطائرة ورقية، وعروسة سكر، وكأننا ملائكة بقلوب بيضاء، إن جاء أحد يسألنا ما أسمائنا ؟ أقسمنا أننا بدون أسماء ، فقد ولدنا لتونا ، صفحتنا خالية من كل ما كان ، حتى الذنوب والمعاصي نحن منها براء.

ترك "ريان" حضن أبيه يداعبه قائلا:

-نسيت أبنك يا سيادة القاضي الكبير، عندما رأيت جدتي وجدي "أمين" وعمى "حمزة" ، تنسي الجميع بهم ، كم يوم قد مر وأنت بعيد عني ، لولا إتصالي بك وإخبارك بخبر ترقيتك ، ونقلك إلى الصعيد، مؤكد كنت ستمضي ، بضع أيام أخري هناك ، أخذه  "زين" تحت ذراعيه ، سائر به ناحية أحد المقاعد قائلا:

-لا يوجد أحد بهذا الكون يمكنه أن يأخذني منك، أنت قلب أبيك الذي ينبض فيهبه حياة ، كل ما هناك ، أنك تعلم أنه يجب علي ، أن أحضر أحتفال نصف شعبان ، وجدتك لم تراني منذ فترة طويلة ، بسبب أنشغالي الدائم ، لا  أكذب عليك ، أنا الأخر كنت بحاجة لتمضية بعض الوقت بالمنشية ، قرب جدك "أمين" وعمك "حمزة" ، كاد أن ينطق بأسم "قمر" ، لكنه توقف فجأة ، وكأنه أنتبه لحاله وما كان ينوي النطق به ، نظر إليه "ريان" بتعجب قائلا:

-ماذا كنت تنوي قوله وصمت يا  أبي؟! هل هناك شئ تود أخباري به ؟! أبتسم "زين" يمسح على شعر "ريان" قائلا:

-يوم ما سوف أجلس معك ، جلسة طويلة ، أخبرك فيها كل شئ ، الأن أخبرني متي تنهي  إمتحانات  أخر العام ؟! إعتدل "ريان" فى جلسته ينظر إلي أبيه قائلا:

-أسبوع واحد وأنتهي من إختباراتي جميعا ، لكن لم هذا السؤال ؟ إن كنت تنوي  أصطحابي فى رحلة ترفيهية ، إلى جزر المالديف ، لا مانع عندي ، ضحك "زين" وهو يضربه فى صدره برفق قائلا:

-لا سوف  أصحبك إلى مكان أخر ، أعتقد أنك تحبه ، لكن دعني أتحدث معك قليلا ، وفى نهاية الأمر لك الحرية الكاملة ، أن تختار ما يروق لك ، وأنا ما علي ألا الطاعة والرضا بما سوف تختاره ،"ريان" كما تعلم لقد تمت ترقيتي إلى منصب أكثر أهمية وحساسية مما أنا فيه الأن ؛ويجب علي أن أكون قدر تلك المسؤولية  لأنها أمانة فى عنقي؛ بعد تفكير ، قد قررت أن أنقل حياتي ومعيشتي كاملة  إلى منشية "أبو القاسم"؛ سوف أقيم من جديد ببيت جدك ، كي أكون بجوار عملي ، السفر من هنا إلى الصعيد سوف يكون صعب ومرهق بالنسبة لي؛ كما أنني مللت الحياة بهذا الزحام ، أود أن أحيا سنوات عمري القادمة بجوار جدتك وقبر جدك ، فقد كبرت وتحتاج إلى وجودي بجوارها ، حقها علي أن أكون سند لها فى مثل سنها هذا ، لقد قمت بترتيب كل شئ هناك ، وأنت من السهل أن تنقل دراستك إلى الجامعة بالصعيد ، وسوف يكون لديك حجرة جميلة ، تشبه حجرتك هنا ، كما أن السائق والسيارة ، سوف يكونون تحت أمرك فى  أى وقت ، تريد أن تتنقل بأي مكان ، لكن رغم كل ما قلته ، سوف أترك لك حرية الأختيار، قرر ما تريده دون أن تخجل أو تفكر في ، ومهما كان قرارك وأختيارك سوف أحترمه ، أهم شئ لدي هي سعادتك وراحتك ، هم "ريان" أن يجيب " زين"، لولا أن رأي "ناهد" تدلف من باب الفيلا ، عائدة من نزهة مع أحدي صديقاتها، كانت تحمل بيديها الكثير من الهدايا والأكياس التي تحوي ملابس لها ، ما أن رأها "زين" حتى تبادل النظرات مع "ريان"، الذي مد يديه يمسك بأحد المجلات الملقاة أمامه فوق المنضدة ، رفع "زين" حاجبيه ينظر إليها بأستغراب قائلا:

-أعتقدت أنك بغرفتك ولم تشعري بوجودي طيلة هذا الوقت ، لم أكن  أعرف أنك بالخارج ، أين كنت كل هذا الوقت ؟!

وضعت ما كانت تحمله بيديها أمامها على أحد المقاعد ، ملقية بنفسها على مقعد مقابل لمقعد "زين" و" ريان" ، واضعة ساق فوق ساق قائلا:

حمد لله على سلامتك ، أنرت  بيتك، عل كل من بالمنشية بخير، وضعت بفمها سيجارة تشعلها ، مما جعل "زين" يستشيط غيظا قائلا بعصبية:

-أتركي هذا السم الذى بيديك ،على الأقل أحتراما  لزوجك وخوفا على أبنك ، وجاوبيني أين كنت؟

زفرت "ناهد" دخان سيجارتها فى الهواء قائلة:

-كنت فى إحدي حفلات عروض الأزياء ، أحاول أنا الأخري أملأ وقت فراغي مثلما تفعل بالضبط ، أنت تملأ وقتك كما تحب بالمنشية ، وأنا أملأه هنا كما أحب ، أظن أن كلانا ترك للأخر الحرية فى كل شئ ، حتى فى طريقة عيشه نفسها ، نسيت حقا أن أُهنئك بالترقية ، لكن أخبرني كيف ستعيش هناك بمفردك ؟!

أنقبضت أسارير "ريان" وهو يستمع إلى أمه، التى أشعرته أنها قررت شئ لا يعرفه ، فهم "زين" على الفور ما ترمي إليه زوجته، ما كان منه ألا  أنه أبتسم بهدوء يخفى خلفه إعصار قوى ، حاول أن يجمحه كي لا يطيح بكل شئ قائلا:

-أحيا بمفردي؟! من قرر هذا ؟! من الواضح أنني  أصبحت طفل صغير،تقررين لي ما علي فعله ، الجملة كى تكون صحيحة، يجب أن تنطقيها بصيغة الجمع ، تُراك نسيت اللغة العربية آيضا ، عادت "ناهد" بظهرها إلى الخلف قائلة ببرود :

-لا لم أنسي كيف يكون الجمع يا سيادة القاضي ، فكما تعلمت هناك بمنشية أبو القاسم ، على يد الشيخ "أمين" النحو والصرف ، فقد كان أبي يأتي لي بعشرة مثله ، يعلمونني آيضا  أصول النحو والصرف ، لكن الجملة كي تكون صحيحة ، يجب أن تكون كما نطقتها ، بصيغة المفرد ، لأنني لن أتي معك ، ولن أحيا بمنشية أبو القاسم ، و"ريان" هو الأخر لن يترك هنا ، ويدفن نفسه بالحيا هناك ، وسط بشر وعادات وتقاليد بالية ، فرك "زين" جبينه وهو ما يزال على هدوئه ، كمن كان يعلم كل حرف سوف تنطق به زوجته قائلا:

-معك كل الحق ، لقد كان أبيك يأتي إليك بعشرة مثل خالي "أمين" يعلمونك أصول النحو والصرف ، لكنهم فشلوا جميعا ، فى أن يعلمونك ما هو أهم من هذا ، فقد فشلوا أن يعلمونك كيف تكون المبادئ ؟ وما هى الأصول ، تعرفين ما السبب ؟ حسنا دعيني أخبرك أيضا ، لأن لا أحد منهم يشبه الشيخ "أمين" ، أبيك كان يحضرهم إليك بالمال ، أما الشيخ "أمين" فكان ما  يحضره إلي كى يعلمني ،  ضميره فقط ، هل عرفتي الآن لماذا بقيتِ جاهلة كما أنتِ ؟! ما يشتري بالمال لن تجدين صداه مهما فعلتِ ، والأن كى ننهي تلك السخافة ، أنا سوف أعود غدا ، إلى الصعيد ، وعليك أن تختاري إما الأتيان معي ، وإما البقاء هنا دون علاقة لكِ بي ، أما بالنسبة "لريان" له مطلق الحرية فيما يريده ، هم "زين" أن يترك المكان ويصعد حيث غرفته ، آلا أن صوت "ريان" أوقفه قائلا:

-وأنا أخترت أن أذهب معك يا أبي ، لن أستطيع العيش هنا بدونك ، هبت "ناهد" واقفة فى مكانها كمن لدغها عقرب قائلة:

-"ريان" ماذا تقول ؟! تريد أن تتركني وتذهب مع أبيك ، حيث الدم ولغة الثأر ، نظر "ريان" إليها يستجديها بعطف قائلا:

-من فضلك يا أمي ، لمرة واحدة فقط أفعلي شئ من أجلي ، تنازلي عن رأيك فى مقابل  إرضاء أبنك ، دعينا نرحل من تلك الحياة الباردة ، دعينا نذهب مع أبي ونحيا جميعا معا ، هناك الدفء والجذور والحياة الحقيقة وسط أهلي وعزوتي ، أنا هنا أحيا بمفردي كما ترين ، أنتِ مشغولة عني طيلة الوقت ، دعينا نجرب يا أمي لن نخسر شئ  ، رفعت "ناهد" ذقنها فى خيلاء قائلة:

-ردي عليك وعلي عرض أبيك جملة واحدة فقط ، نظرت حيث وقف "زين" مردفة:

-أريد ورقة طلاقى منك  غدا.

                                   "الفصل الخامس والعشرون "

                                  "حلاوة العمر ومره"

يظلون أجمل ما في العمر، حتى وإن أعطونا بعض من مرارة الفراق ، نظل نراهم سر الحياة ، يبقون كقطعة سكر، نتذكرها، نُذيبها داخل إناء أرواحنا، كي نستطع البقاء ، بالضبط كدواء مر ، يحمل به سر الشفاء ، كترياق به شئ من سم ، لكنه ليس سم قاتل ، بل سم يحمل سر البقاء ، هم هكذا سم وترياق ، مرارة وشهد، كلما أختنقنا بُجرحهم ، تذكرنا شئ جميل أهدونا إياه ، فعلوه لنا ، يبقون دوما البراح الأخضر وسط الخراب الذى نحياه ، يظلون شهقة نفس، نخرج بها من ألم المخاض إلى نور الحياة ، حتى وإن شاب الشعر ورحل البهاء، يبقون أحلى ما فى العمر وأمر ما فيه.

نسمة رقيقة من نسمات شهر نوفمبر، أخذت تمسح وجه "قمر"، وتداعب شعرها ، وهي جالسة تحت شجرة العنب الكبيرة فى حديقة بيتهم،  تركت نفسها مستسلمة لها  تماما، كمن يرفع الراية البيضاء ، يعلن بها هدنة أمام حرب مع نفسه غرق بها زمن طويل، أغمضت "قمر" عينيها لا تريد أن تنطق كلمة، أو تسمع شئ من أحد ، كان وقع لقائها "بزين"، ما زال يخدر أعصابها ، رغم صعوبته، رغم مرارته، ألا أنه ترك شئ بها، هادئ ، حلو المذاق ، شئ ترك قطعة ثلج فوق جمر جرح لا يريد أن يندمل، خرجت "غالية" تبحث عنها، ممسكة مصحف بيديها، وما أن رأتها هكذا ، حتى سارت إليها، وقفت أمامها تتأملها وهى تبتسم، شعرت أنها مسافرة بعيد عن الأرض، تحيا حلم جميل، لم تريد أن تخرجها منه ، جلست جوارها بهدوء، تمر فجأة نسمة قوية أطاحت بوشاح رأسها ، إنتبهت "قمر" فجأة تنظر حولها، رأت "غالية" تجلس بجوارها تقرأ فى المصحف الذى تحمله بين يديها ، مالت "قمر" تمسك وشاحها قائلة:

-منذ متي وأنت هنا يا "غالية"؟! رفعت الأخيرة عينيها عما تقرأه قائلة:

-منذ فترة دون أن تشعري بي، أخبريني أين كنتِ تسافرين؟! شعرت أنك لست هنا، غمزت لها بعينيها متابعة حديثها :

-هل هناك من شغل قلب القمر دون أن أدري؟! ضحكت "قمر" بصوت مرتفع وهى تضرب كفا بكف قائلة:

-لا  أعرف من أين تأتين بمثل هذا الكلام ؟! هل كبرتي يا "غالية" دون أن أدري؟! أم أنني من وقفت بي الحياة ، ولم أعد أشعر بالسنين وهى تمر من حولي؟! أقتربت منها غالية، تجلس أمامها مباشرة واضعة رأسها فوق كفها قائلة بهدوء شديد ، كمن شعر بما تحمله "قمر" بقلبها:

-إن كنتِ كما تقولين قد كبرت، أجعليني صديقة لك ولو لبضع دقائق، وأخبريني ما تحملينه بهذا القلب، وتخفيه عني، حتى بت أراه واضحا جليا، أمام عيني، لكنني لا  أستطع أن أتبينه، أو أن أقف على حقيقته، أشعر أنك تحملين حمل ثقيل يا "قمر"، أعلم أنك دوما تحتفظين بكبريائك ، الذي يقف حائل بينك وبين التحدث فى شئ من الممكن أن يؤلمك ، مدت "قمر" يديها تأخذ منها المصحف الذى تمسك به قائلة :

-الأن فقط تأكدت أنك كبرتي، وأنك صرت تفهمين كل ما يدور حولك، الأن كلي ثقة أن لدي صديقة كبيرة وشقيقة وآبنة، مؤكد سيأتي اليوم الذى أروي لك فيه كل شئ ، أتركي كل ما تريدين معرفته للأيام، الأيام دوما تأتينا بكل ما نبحث عنه ، فى دقيقة معينة دون ترتيب أو أتفاق، نعرف كل شئ ، والأن أخبريني هل أنتهيتِ من حفظ سورة الرحمن، التى أعطيتك إياها بالأمس ؟ رفعت "غالية" قدميها ، تضمهما إلى صدرها قائلة :

-نعم حفظتها ، أريدك أن تختبريني بها، لكن إن وجدتيني لست على ما يرام ، لا تعاقبينني ، أتفقنا هزت "قمر" رأسها متعجبة من حديثها قائلة:

-إن وجدتك لم تحفظينها كما يجب ، سوف  أعاقبك عقاب شديد ، سوف أجعلك تحضرين لي كوب من الشاي ، هيا  أقرئي ، أخدت "غالية" تقرأ أيات الله بهدوء، و"قمر" تقرأ معها بصوت منخفض، قرأت "غالية" حتى منتصف السورة وتوقفت ، نظرت إليها "قمر" نظرة تسألها بها لم توقفتِ ؟! عضت "غالية" شفتيها ، كطفلة صغيرة تخاف العقاب قائلة:

-لم  أستطع أن أنتهي من حفظها كاملة اليوم ، لكن غدا أن شاء الله ، سوف أنهيها ، أغمضت "قمر" عينيها وأخذت ترتل باقي السورة بثبات كبير، حتى أنتهت منها ، صفقت لها "غالية" قائلة:

-أخبريني من كان يقرأ عليك القرأن وأنتِ صغيرة حتى أستطعتِ أن تحفظينه بتلك السهولة؛ ولم تنسيه حتى  الأن ؟! ضمت "قمر" المصحف إلى صدرها قائلة:

- "زين" هو من علمني كيف أحفظ القرأن ، كان يقسم بيننا السور إلى أيات ، كنا نتسابق فى حفظها ، ومن كان ينجح فى ذلك ، كان يحضر لمن لم يحفظ قطع سكر ، كي يشجعه أن يلحق به ، هكذا كنا نحن ، نفعل كل شئ مع بعضنا ، مهما كان صعب حينما كنا نقتسمه ، كنا نجده أسهل ما يكون ، "زين" هو من علمني كيف أتحمل وأصبر وأكافح ، ولا أقف عاجزة يوم عن فعل شئ ، ضيقت "غالية" عينيها تنظر إليها بتعجب قائلة:

- "زين" من الذي تتحدثين عنه يا "قمر" ؟! ألم تخبريني من قبل أن الشيخ "أمين" هو من علمك القرأن الكريم ؟! جحظت عيني "قمر" لا تدري ماذا قالت؟! ولا تعرف ما نطقت به ولا كيف باحت ؟! تنهدت بقوة قائلة وهى تتحاشي النظر بعيني "غالية" :

-أنه مجرد أسم نطقت به خطأ، أقصد أن عمي "أمين" هو من علمني القرأن، كباقي أبناء القرية كما تعلمين، أغلقت المصحف بتوتر واضح، وقد أشاحت بوجهها بعيد، تريد أن لا يراها أحد ، تريد أن تفقد الذاكرة وتنسي ما قالته، فما نطقت به نبش ذكري دفنتها منذ زمن، أو ظنت أنها دُفنت ، لكن الأن علمت أنها ما زالت حية، تعيش بداخلها، ترتوي من دمائها ، أخفتها بداخلها تعيش على أنفاسها، وهى من ظنت أنها أعلنت التحلل منها، همت "غالية" أن تنطق، أن تقول شئ ، لكن "قمر" لم تترك لها الفرصة، هبت واقفة دون كلام ، تاركة المكان ، تهرب من كل شئ حولها سمع ما قالته، حتى لو كان الهواء الذى يحيط بها، قصدت البيت ، تختفي بين جدرانه بعيد عن نظرات أختها التى ظلت جالسة مكانها قائلة:

-أقسم أن ما نطقتي به يا "قمر" صدق ، وأن "زين" أسم له وجود ، أكاد أجزم أنه نفسه  ذلك الرجل الذى تقابلنا معه ، ليلة  الأحتفال ، وسمعت "زاد" يناديه بهذا الأسم ، نعم أنه هو ، تلك النظرات التى رأيتها تحدث بينه وبين "قمر" ، وحفاوته بنا ، شئ بداخلي يقول أن وراءه حكاية كبيرة ، وما نطقتِ به الأن دون أن تدري يؤكد لى ما أقول ، لكن من هو ؟! لماذا تخفينه عني؟! ما السبب وراء غضبك منه بهذا الشكل ؟! لا أعرف ، سوف أظل أبحث عمن يخبرني كل شئ ، ولن أجد غير "زاد" ، لكنه أيضا لا يتحدث مثلها تماما ، لا يهم ، سوف أصبر وحتما سأعرف.

صعدت "قمر" إلى غرفتها ، أغلقت الباب خلفها ، لا تريد أن يراها أحد ، كى لا يراه بعينيها ، تعلم جيدا أنه بعينيها، هي نفسها تراه بهما، كلما نظرت بمرآتها، لم يبرحهما طيلة عشرين عاما ، كانت كلما اشتاقت إلى وجهة ، نظرت فقط فى مرآتها كى تراه ، جلست فوق حافة فراشها تخفي وجهها بين راحتيها تقاوم أن لا تسقط قائلة:

-تريدين أن تعرفي يا "غالية" من هو "زين" ؟! حسنا سأخبرك ، أنه عمري بأكمله، أنه من عرفت معه معني الحياة، تربيت على يديه ، أخذت منه ، من روحه ، من ملامحه ، أنه حكاية لا أعرف متى بدأت ؟ ولا متي  ستنتهي ؟! لأنها لم تنتهي بعد ، حتى وإن أدعيت كذبا أنها أنتهت، تريدين أن تعرفي من هو ؟! أنه  مر العمر وأحلاه.

                                 "الفصل السادس والعشرون"

                                        " دعنا نبدأ "

الصفحة حينما تتمزق علينا أن نغلقها، نتوقف عن قراءة سطورها الباهتة، لا نحاول أن نجمع كلماتها المزيفة، كل صفحة بحياتنا لها وقت وتنتهي، لأنها لا تعطينا شئ ، تشغل حيز فقط دون فائدة، الصفحة كلما تفرقت حروفها كان علينا أن نمتلك الشجاعة الكافية كى نمزقها، نتركها للهواء يحملها بما تحمله بعيدا عن أرضنا، ننهي صفحات، لنفتح صفحات جديدة، ترزقنا ميلاد وحياة ، إذا ما وصلنا يوما لأخر السطر علينا أن نضع نقطة توقفنا لنبدأ فى كتابة شئ جديد .

نزلت الجملة الأخيرة من كلام "ناهد"، كصاعقة فوق قلب "ريان" قبل "زين"، الذى وقف ينظر إليها بتعجب شديد، كان يتوقع منها أى شئ، غير أن تضعه وتضع أبنها معا فى كفة، وتضع ما تريده هى فى الكفة الأخرى، أبتسم "زين"، أبتسامة ساخرة قائلا:

-ما تلك البساطة التى تتحدثين بها ؟! أشعر أنك تريدين ورقة طابع بريد، هل أنت تشعرين بما نطقتِ به ؟! أم أنها مجرد جملة خرجت من لسانك ، جراء انفعال غير مسؤول؟! أقترب "ريان" من أمه ، يمسك كفها يقبله قائلا:

-أمي أستحلفك بالله، أن تقولي أن ما نطقتي به الآن مجرد دعابة، تريدين بها معرفة مدي حبنا لكِ ، نحبك كثيرا وأنت تعلمين هذا، ظل "زين" واقف ساكنا مكانه، واضع يديه بجيب بنطاله ، كمن لا يهمه الأمر، سحبت "ناهد" يديها من يد "ريان" قائلة:

-لا ما قلته كله صدق ، أنتهي الأمر بنا لهذا الوضع ، سيادة القاضي يبحث عما يريد، وأنا الأخري حقي أن أبحث عما أريد، لن أذهب إلى منشية أبو القاسم، حتى وإن انطبقت السماء على الأرض، أظن أن أبيك هو الأخر، يريد التحرر من قيدي، يكفي سبعة عشر عاما ،عشناهم لا يربط بيننا شئ ، غير وضع أجتماعي خطأ، لا روح فيه ولا حياة ، حاولت كثيرا كي لا أكون ظالمة ، أبيك هو الأخر حاول كثيرا ، عاملني معاملة حسنة، لم يبخل علي يوما بأى شئ ، إلا شئ واحد، بخل على به دون إرادة منه ، لم يستطع أن يحبني ، أو أن يعطيني ولو جزء يسير على هامش قلبه ، لا ألوم عليه ، فالقلوب وحدها بيد الله ، لا يستطع أحد مهما كان أن يجعلها تميل أو تُحتل بحبه ، فى نهاية الأمر فعلنا ما علينا لأخر نفس  نمتلكه، لكن هنا نهاية الرحلة، لن أتحمل الحياة أكثر من هذا لأنني أعلم أن قلب أبيك ليس معه، رفع "زين" عينيه يحدق بوجه "ناهد" التى بادلته النظرة مردفة:

-نعم سيادة القاضى أعلم كل شئ ، أعلم مع من قلبك ، الذى لم يعد ملكك ولم يعد لك عليه سلطان ، أعلم لم فشلت فى أن تحبني ولو ذرة من حبك لمن سكنت شغاف قلبك حتى أخر أنفاسه ؟! عشرون عاما كنت تحيا معي جسد فقط دون روح ، يُخيل إليك أنك أستطعت أن توهمني أنك تشعر بي ، وأن وجودي له معني ، حقا كنت ودود معي قدر أستطاعتك ، كنت تفعل ما يجعلني فرحة ، لكنك أبدا لم تنجح فى أن تجعلني أحيا ما تفعله من أجلي ، لا تعتبر كلامي هذا عتاب أو أتهام ، بل هو توضيح حقائق ليس أكثر ، كي لا يتهمني "ريان" بأنني مُقصرة ، وإن كانت الحقيقة أنني حقا قصرت فى شئ واحد فقط ، هو أنني توهمت أن العشرة والسنين من الممكن أن تجعل بيننا من الحب ما يجعلنا نستمر، أنا آيضا حاولت أن أحبك ، أن أراك رجلي ، لكن من الواضح أن القلوب أذكي منا ، أوضح من تجملنا ، القلوب لا نستطع أن نخدعها حتى وإن كنا كاذبين ، فهي تري وتعرف من يحبها ومن يكرهها ، "زين" من فضلك دعنا نفترق بهدوء ، أنا لن أحاول من جديد ، لن أستمر فى التمثيل أكثر من ذلك ، فقد أتخذت قراري وأنتهي الأمر، وأنت يا "ريان" أذهب حيث شئت ، أنا لن أبقي هنا بمصر ، هز "زين" رأسه متعجبا قائلا:

-لن تستمري هنا فى مصر؟! إلى أين ستذهبين ؟! إن كنتِ لا تريدين العيش معي تحت سقف بيت واحد، حسنا سوف أترك لك الفيلا تعيشين بها بمفردك، ويأتي "ريان" إليك كلما أراد رؤيتك أو المكوث معك بضع أيام ، أنا بطبيعة الحال سوف أبقي بمنشية أبو القاسم من أجل عملي ، مالت "ناهد" تمسك الأكياس التى كانت معها عند دخولها من الخارج قائلة:

-شكرا على لطفك، أنا سوف أهاجر إلى أمريكا وأعيش هناك، تعلم أن أبي لديه فرع شركة هناك ،وقد قررت أن أعمل به وأمضي الباقى من عمرى كما أحب، أقترب منها "ريان" بأنفعال واضح قائلا:

-قررتي ماذا يا أمي ؟! قررتي أن تحيين بعيد عني وبدوني، تهاجرين بتلك البساطة وكأن لا شئ لكِ هنا، ببساطة تتنازلين عني، حاولت أن تمسك بيديه ألا أنه أبتعد عنها ، تنهدت وهى تهم بالمغادرة قائلة:

-لم تعد صغير يا "ريان" ، لقد سرت رجل ، تختار حياتك بمفردك ، وقد أخترت أن تحيا مع أبيك بعيد عني ، وأنا قررت أن أحيا دونك ، ضرب "ريان" الحائط بيديه قائلا:

-إذن تعاقبني  على أختياري الحياة بالمنشية ؟! كان الأولي بكِ أن تسألي نفسك، لم قررت هذا؟! إن لم يكن لديك إجابة مقنعة ، دعيني أنا أخبرك ما السبب وراء قراري هذا ؟ السبب هو أنني لا أجدك معي ، لا أراك ولو ساعة واحدة فى اليوم ، طيلة الأسبوع مسافرة أو تحضرين عرض أزياء ، أو بعيد ميلاد  إحدي صديقاتك ، هل تتذكرين أخر مرة جلستِ بجواري ؟! هل تعرفين ما يضايقني وما يفرحني ؟! ما هى أخر مشاكلي يا أمي؟! ما هى  طموحاتي؟! أخبريني أين حقي أنا؟!  ووقتها فقط سوف أعطيك كل ذاتي ، تريدين الرحيل عقابا لي على أختياري ، حسنا إن قلت لكِ الأن لن أسافر مع أبي  تظلين هنا معي؟! همت "ناهد" أن تتحدث لولا أن قاطعها صوت "زين" قائلا:

-لا يا "ريان" حتى وإن عدلت عن قرارك لن تعدل هى عن قرارها ؛ رفعت حاجب عينيها تنظر إليه كمن يريد أن يقتنص ممن أمامه باقي حديثه الذى يخفيه ، كي يحضر دفاعه ، وقف "زين" بجوار "ريان" يربت كتفه مردفا:

-أنت كاذبة يا "ناهد" تعلمين أنك كاذبة،  ورغم ذلك تريدين أن تحملي غيرك تبعت كذبك ، نعم أنت كاذبة، لأنك ببساطة قد  أتخذتِ قرار سفرك منذ أكثر من ثلاثة شهور، جحظت عينيها وهى تنظر إليه هز لها رأسه قائلا:

-نعم أعلم كل شئ ، أعلم أنك أتفقتِ مع منير أخيك على أن يرسل لكِ دعوة لزيارة أمريكا ، وبطبيعة الحال أنت تحملين الجنسية وسوف يكون أسهل ما يكون بقائك هناك ، لا تتعجبين كيف عرفت؟! فقد أتصل بي منير يخبرني بأنه يريد  أن رسل لي  أنا الأخر دعوة،  للذهاب معكِ ومن االسهل  أن يوفر لي عمل هناك، كان يظن أنني أعرف أنك مهاجرة إليه، عرفت كل شئ وبقيت صامتا ، أري  ماذا ستفعلين ؟! وبالفعل  أنتظرتي قرار "ريان" كي تبنين عليه ما تريدين دون علمنا ، وفى نهاية الأمر تبقين ضحية ونحن مجرمين، لكن هناك شئ واحد لم أستطع أن أعرفه ، هل كنتِ ستطلبين الطلاق مني كما فعلتيها الأن؟! أم كنت سوف تهاجرين وتبقين زوجتي؟! ضغطت "ناهد" أسنانها بغيظ شديد قائلة:

-لا كنت سأطلب منك الطلاق أيضا، خطت "ناهد" باتجاه الدرج تصعد حيث غرفتها، يوقفها فجأة صوت "زين" قائلا:

-أنت طالق يا "ناهد"، لم تعبأ بما سمعت، لم توقفها الجملة التى  إهتز لها جسد وقلب "ريان" ومن قبله "زين"، استدارت  تنظر إليه قائلة:

-شكرا لك لقد حررتني من قيد دام عشرون عاما، أقترب "زين" يحيط "ريان" بذراعيه ، ليرتمي داخلهما يختفي بحضنه وهو يبكي كالصغار، ضمه إليه بقوة يعتصره بين ضلوعه هامسا له:

-لا عليك يا "ريان" لا عليك ، ما فعلته كان إصلاح وضع خطأ ، أعلم أن الثمن باهظ ، لأن الثمن روح وقلب وعمر، لكن كان لا بد مما فعلت ، كي نستطيع أن نحتفظ  بباقى العمر نقي، وبما تبقى من قلوبنا وأرواحنا ، كي نستطع أن نكمل ونبدأ من جديد ، صدقني كل جرح فى أوله كحريق ونار مستعرة ، لكن مع الوقت يهدأ ويطيب، سامحني على ما فعلته ، لكن لم يكن بيدي شيء  أخر أفعله ، فعلت كل ما بوسعي، نزفت يدي وأنا متشبث بحياتنا كى لا تسقط من يدي ، أزهقت روحي وأنا أُرممها  كي  تبقى أنت واقفا دون جروح أو كسر خاطرك ، لكن لم أستطع أن أفعل شئ ، لننسى كل ما كان ، ونبدأ معا من جديد .

إحصائيات متنوعة

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↑1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑2الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓-3الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↑4الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة حسن غريب
9↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
10↓-2الكاتبمدونة آيه الغمري
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑25الكاتبمدونة نورا شوقي200
2↑19الكاتبمدونة رشيد سبابو212
3↑17الكاتبمدونة محمد جاد78
4↑14الكاتبمدونة غازي جابر67
5↑9الكاتبمدونة خالد دومه30
6↑9الكاتبمدونة شيماء عصام124
7↑8الكاتبمدونة احمد كريدي98
8↑8الكاتبمدونة نجلاء محجوب142
9↑7الكاتبمدونة محمود سليمان (الشيمي)158
10↑6الكاتبمدونة مها الخواجه29
11↑6الكاتبمدونة سعاد سيد187
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1069
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب690
4الكاتبمدونة ياسر سلمي652
5الكاتبمدونة مريم توركان573
6الكاتبمدونة اشرف الكرم568
7الكاتبمدونة آيه الغمري496
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني424
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة402

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب330688
2الكاتبمدونة نهلة حمودة186885
3الكاتبمدونة ياسر سلمي178535
4الكاتبمدونة زينب حمدي168931
5الكاتبمدونة اشرف الكرم127969
6الكاتبمدونة مني امين116116
7الكاتبمدونة سمير حماد 106367
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي97322
9الكاتبمدونة مني العقدة93886
10الكاتبمدونة مها العطار87399

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15
2الكاتبمدونة عزة الأمير2025-06-14
3الكاتبمدونة محمد بوعمامه2025-06-12
4الكاتبمدونة محمد عسكر2025-06-04
5الكاتبمدونة عبير سعد2025-05-23
6الكاتبمدونة هاله اسماعيل2025-05-18
7الكاتبمدونة اريج الشرفا2025-05-13
8الكاتبمدونة هبه الزيني2025-05-12
9الكاتبمدونة مها الخواجه2025-05-10
10الكاتبمدونة نشوة ابوالوفا2025-05-10

المتواجدون حالياً

1292 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع