رسالة إلى كل مغترب:
لماذا تركت زوجتك وأبناءك؟ هل كان المال يستحق التضحية بأعز ما تملك؟! ماذا جنيت بعد سنوات الغربة؟ مالٌ وسيارةٌ ومنزلٌ كبير؟! لعلك تظن أنك كسبت، لكن الحقيقة أنك خسرت... خسرت ما لا يُعوَّض، خسرت أبناءك وزوجتك، وخسرت نفسك معهم.
فهل تعرفهم حقاً؟! من هم أصدقاؤهم؟ متى تضيء الفرحة وجوههم ومتى تكسوها الكآبة؟ ما الذي يعتري قلوبهم؟ وما الذي ينقصهم؟ ليس ما ينقصهم مالاً، بل دفء الحنان ونعمة الأمان. ينقصهم الحب الذي لا يُشترى، ينقصهم حضورك أنت.
وجودك بينهم أثمن من كنوز الأرض. فما جدوى المال إن كان بلا أمان أو دفء أو سكن؟! ستبقى أرواحهم تتأرجح بين الأمل والخذلان، وسيظل في حياتهم فراغ لا تملؤه المقتنيات الثمينة. فهل فكرت يوماً في حالهم، أو حال تلك الزوجة التي اختارت أن تكون الأب والأم معاً؟ إنها تؤدي كل الأدوار التي غابت عنها، المعلمة والممرضة، الطاهية والصديقة، الأم والأب. هي كل شيء لأبنائك، وهي وحدها تواجه قسوة الأيام بينما أنت هناك بعيداً.
ندرك تعبك وجهدك في الغربة، لكنك لا تدرك أن كل دولار تكسبه هناك، قد تفقد مقابله مشاعر تُدمَّر، ونفوس تُنهك. يا سيدي، إن الحياة بلا أب هي حياة بلا أمان، وإن كانت الأبناء تبدو بأجساد سليمة، فإن الأرواح تكون منهكة، مُرهَقة.
سيأتي اليوم الذي تعود فيه إليهم، قد يكونون على قدر من النجاح والأخلاق، لكن جرح الغياب سيظل ينزف. ستبحث عن حضن أبنائك، عن الحب الذي افتقدته طوال تلك السنوات، فهل ستجده؟ هل غرسته فيهم لتجني ثماره؟! قد تواجه ما لا يسرك. ستحتاج إلى دعمهم وسندهم، لكن هل كنت السند الذي احتاجوه وهم صغار؟ هل احتضنتهم عندما سقطوا في أول خطواتهم؟
قد تجد نفسك وحيداً بينهم، وسيبقى في القلوب غربة، وستدفعون جميعاً ثمن الغربة، ثمناً باهظاً لا تُعوضه كنوز الدنيا.
المال ليس كل شيء، فحتى إن منحك أبناؤك طاعة ظاهرية وصلة رحم واجبة، فإن ذلك سيكون بلا مشاعر، بلا روح، مثلما كانت علاقتك بهم حوالة مالية تُرسل كل شهر. يقول الله تعالى: "وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" [الإسراء: 24]. فالتربية ليست مجرد إنفاق، بل هي حياة تتغذى على الأحضان والحنان والمشاعر.
أيها الأب، نحن لا نمنعك من السفر، لكن إن اضطررت، فاجعل أسرتك رفيقة الغربة. فالأسرة وحدة واحدة لا تتجزأ، ومهما حاولت تعويض غيابك، لن يكون ذلك كحضنك الدافئ بينهم. أنت تغترب هناك، وهم يعيشيون في اغتراب داخلي، في فقدان للأمان، وجفاء يكبر كلما طال البُعد.
يا سيدي، أبناؤك هم ثروتك الحقيقية، فاسقِ زرعك بالحب والرعاية، كن لهم ملاذاً وسكناً قبل أن تبني لهم بيتاً. كن الأب والأخ والصديق، ليكونوا لك كذلك في شيخوختك.
فكِّر جيداً قبل أن تغادر وتتركهم بلا سند، فالأمان ربٌّ ثم أبٌّ.