"كانت دموعنا رفيقة سنوات عجاف، صارعنا فيها الموت مرات وهذينا من الألم مرات، كنا نحارب في معارك لا يعلمها أحد حتى نبقى على قيد الحياة رغم الألم".
تلك المعارك التي خاضها سامر، والألم الذي تحمله من أجل شيرين وحبه لها، هل تأتي ربيعة وتمحوه بكلمة! لم يستوعب ما سمعه منها، صمت طويلًا يحاول أن يجمع شتات عقله ويستجمع قوته.
زفر سامر بضيق وقد نفذ صبره وأحمرت عيناه غضبًا: أي دم وأي مقبرة؟! ما هذه التخاريف يا ربيعة؟! الويل لكِ، الآن فقط عرفت نواياكِ نحو شيرين، وأحذركِ، لا تقتربي منها وإلا...
لم يستكمل حديثه فقاطعته ربيعة: لا أحد سيمنعني عنها، لا أنت ولا مئة غيرك، واقتربت ربيعة منها، وكادت تلمس يدها؛ ازداد سامر تذمرًا وتوجه نحوها غاضبًا؛ أمسك يدها بقوة وسحبها خارج الغرفة وخلفها تابعها وابنها، ونهرها قائلًا: قلت لكِ ابتعدي عن شيرين، فهمتي؟!
ازدادت ربيعة غضبًا من كلامه معها؛ ودفعته بقوة بعيدًا عنها، كادت رأسه تصطدم بالحائط من شدة الدفعة. لكنه تماسك ووقف أمام باب الغرفة يسد عليهم الطريق، حاولت ربيعة الدخول مرة أخرى، لكن سامر منعها مرددًا بصوت أجش: لا أحد سيدخل إلا بعد مواجهتي.
حذرته ربيعة وهددته.
خرج الطبيب من الغرفة على أصواتهم وصاح غاضبًا: نحن في مشفى، ما هذه الضجة؟!
لم تسمع له ربيعة ومن معها وتعالت أصواتهم محاولة اقتحام غرفة شيرين؛ استدعى الطبيب أمن المشفى وأخرج الجميع.
دخل سامر غرفة شيرين ونظر لها في أسى وحزن، وقلبه يتمزق خوفًا عليها، فأين يخفيها عن عيونهم؟! يريد أن يخبأها عن العالم كله، تنهد تنهيدة تكاد تحرق العالم حوله! ووضع يداه خلف رأسه ثم مد جسده على الأريكة المجاورة لسريرها، ظل منتبهًا كلما غفت عيناه هب واقفًا؛ يخاف أن تغيب عيناه عن شيرين، لم تذق عيناه طعم النوم ولا عقله كف عن التفكير.
وأكثر ما شغل تفكيره أين يذهب وقد احترقت الشقة وليس له أحدٌ يلجأ إليه؟! يفكر في الهرب مع شيرين بعيدًا عن عيون ربيعة ولكن إلى أين؟!
مع طلوع الشمس يسمع طرقًا على باب الغرفة؛ ينهض عن مقعده ويتوجه نحو الباب ليرى مَن جاء، يفتح الباب يجد سارة وزوجها علي، يقابلاه بابتسامة حانية، تدخل سارة لتبقى مع شيرين بينما يخرج سامر مع علي.
جلس سامر شاردًا بينما تحدث علي قائلًا: أعلم إن شيرين ستخرج اليوم من المشفى؛ لذا فكرنا أنا وسارة في مكان واقترحت شقة أخيها أحمد فهي مغلقة منذ سنين ولا أحد يسكنها والآن يتم تنظيفها.
بعد صمت دام دقائق، استطرد قائلًا: اعلم أخي أن الأمر صعب في بدايته لكنكما ستصمدان وستجدان حلًا للمشكلة. ثم ربت بيده على كتفيه مبتسمًا وهو يقول: اقبل يا سامر، ولو مؤقتًا حتى تجد حلًا للمشكلة.
أغمض سامر عيناه متأثرًا بكلامه، فكلمة أخي نزلت على قلبه بردًا وسلامًا؛ شعر بيد تمسك بيده وتمد له العون، استرجع حياته القاسية في بيت ربيعة حتى ظهور شيرين.
شرد قليلًا وهو يتحدث مع نفسه "أحقًا هناك بشر مثل علي؟!"
وجاء الرد من داخله يردد "نعم يا عزيزي، هناك مِن البشر مَن لا يحقد على أحد، ولا يغار من أحد، ولا يحسد أحدًا، ويتمنّى الخير لكل أحد، ولا يمتعِض لإنجاز أحد، ولا يبتئس لسعادة أحد".
وأخيرًا وافق على عرض علي وذهب لاستكمال إجراءات خروجها من المشفى، وخرجوا بشكل خفي هربًا من مراقبة أعوان ربيعة متوجهين إلى الشقة في السيارة. شردت سارة وتذكرت ما حدث لأخيها وأمل، يمر شريط الذكريات أمام عيناها، فبعد صراعات طويلة وافقت العائلتان على زواج أخيها من أمل، وظلت ربيعة ترسل مع غالية والدة شيرين تطالب والدة أمل بالحضور وبالأموال ولكنها رفضت تمامًا. أرسلت مرة مبلغًا لاتقاء شرها ثم رفضت أي تعامل معها بل خاصمت غالية أيضًا؛ لذهابها لربيعة وتعاملها مع دجالة مثلها ونصحتها مرارًا بعدم تصديق هذا الدجل واتباع طريق السحر والشعوذة، وندمها على الذهاب تلك المرة ولن تكررها. كانت غالية تذهب لربيعة من أجل مرض زوجها، تبحث عن حل لتخفيف ألمه لأن العلاج لا يجدي، أملًا في تحسنه وتتعلق بقشة كالغريق تمامًا، ولكن حدث ما لم يكن متوقع، طلبت ربيعة من السيدة غالية رش المياه التي أعطتها لها على باب أمل ووالدتها وذلك لحمايتهما من خطر ينتظرهما. ترددت غالية، ثم أقنعتها ربيعة بأن ذلك لمصلحتهما ففعلت.
بعد زواج أمل بأسبوع سافرت مع زوجها لقضاء شهر العسل في إحدى مدن الساحل الشمالي حيث قضت أجمل أيام حياتها مع زوجها، لكن عندما عادت بدأت الكوارث تحل عليها؛ وجدت الشقة غارقة بالمياه، أثار ذلك حزنها الشديد فعملت مع زوجها على تنظيف الشقة وأرسل أحمد إلى سارة للمساعدة. وعندما انتهوا خلدوا للنوم من شدة التعب، وصارت أمل تهب من نومها فزعة مرات عديدة، لا تعلم لم تهاب المكان وتشعر برهبة وخوف يعتريها. كوابيس النوم لا تدعها تهنأ بنوم وتشعر دومًا بالاختناق.
مر أسبوع أخر ومارس الجميع حياته بشكل طبيعي لكن استمرت أمل في خوفها وفزعها من الشقة، والكوابيس تطاردها كل ليلة، بدأ الإرهاق جليًا على وجهها، وهي تواري الصداع الحاد الذي تعانيه.
ذات يوم قامت من نومها فزعة على صوت تكسير قوي، نظرت جانبها لم تجد أحمد بجوارها؛ قامت رغم خوفها الشديد وفتحت باب الغرفة لتجد الأرض مليئة بالزجاج، كان ارتطام زجاج دولاب النيش بما فيه من أكواب وأطباق تهشم بالكامل دون معرفة السبب. هنا دخل أحمد عائدًا من صلاة الفجر بالمسجد، ليجد أمل واقفة وعلامات الفزع تتفرش ملامحها فهرع إليها، فارتمت في أحضانه منهارة باكية، فحاول احتوائها وطمأنتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وألا تحزن لفقدانها ما كُسر، لاحظ أن جسدها ينتفض بشدة، ولا تتحدث ولا يعلم كيف حدث ذلك!
مرت ساعات في تنظيف المكان، قام أحمد بكل شيء خوفًا عليها من أن تُجرح؛ وحتى تهدأ وتروي له ما حدث، وطلب منها عدم التحدث في الأمر مع أحد، ووعدها بتجديد كل شيء.
مرت أيام حاول أن يسألها عما حدث تلك الليلة وهي تتهرب من الإجابة، فلا تعلم حقًا ماذا حدث؟! تخاف أن تثير قلقه إذا أخبرته برهبتها من الشقة وخوفها.
وهي يزداد الحزن بداخلها كلما تذكرت موعد سفره، كم تعتصر ألمًا وهي تنظر إليه، وكأنه ثقل جاثم على صدرها، تتشبث به عند نومها، ولاحظ هو انتفاض جسدها أثناء نومها وفزعها المستمر؛ فحاول طمأنتها بأنها فترة بسيطة وسيكونان معًا بعد انتهاء إجراءات الاستقدام وستسافر له بعد انتهاء الامتحانات، زاد قلق أحمد عليها لفزعها من نومها فقام برقيها ودعا لها في سجوده أن يحفظها الله ويرعاها.
مرت الأيام وجاء يوم سفر أحمد، لم تكف أمل عن البكاء وظلت تترجاه ألا يسافر ويتركها هنا وحدها، طلب منها أن تنتقل وتقيم مع أبيه أو تنتقل لبيت أهلها حتى لا يشعر بالخوف عليها، جاء الجميع لتوديع أحمد، وقفت أمل تنظر إليه بأسى وفجأة سقطت مغشيًا عليها قبل مغادرته، اتصل أحمد بالطبيب الذي حضر على الفور، بعد الكشف عليها بارك لهما بالحمل وانتظار مولودهما الأول.
عمت الفرحة الجميع وتبادلوا التهانئ والمباركة، قام أحمد بتأجيل سفره وتحديد موعد آخر للسفر للاطمئنان على أمل.
بعد أيام قليلة ودع أحمد أمل بشوق وحب وأوصاها بنفسها وبصحتها والمتابعة المنتظمة للحمل، وطلب من سارة المكوث مع أمل بالشقة حتى تهدأ وترتب حالها وتنتقل لبيت أبيها.
في الصباح استيقظ الشارع كله على صوت سارينة الإسعاف فقد أُصيب والدي أمل باختناق من جراء تسرب غاز سخان المياه؛ ونُقلا للمشفى في حالة خطرة؛ هرعت أمل وبصحبتها سارة ووالدها إلى المشفى، وكانت فاجعة كبيرة حيث مات والد أمل فور وصوله المشفى، وأصيبت أمها بشلل لاستنشاقها كمية كبيرة من الغاز؛ صُدمت أمل وانهارت في بكاء وصراخ ونحيب. ظلت على حالتها أيامًا طويلة؛ تحولت فيها فرحة زواجها إلى أحزان. كانت تحتاج أحمد ليكون سندًا لها وعونًا، وترتمي في أحضانه وتحتمي به من فواجع القدر، كانت من أصعب اللحظات عليها.
اتصل أحمد كثيرًا للاطمئنان عليها ومواساتها في مصابها، وأوصى سارة بها ألا تتركها. لكن أمل لم يكفِها ذلك، كانت تحتاجه بشدة.
حدثت نفسها مرددة "احتجت إليك ولم أجدك، وأن ما يقهرني أن ترى ألمي ولا تهتم، أن ترى دموعي ولا تواسيني، أن تمر على جرحي مرور العابرين، خيبتي في الجميع لم تتعدَ حدود قلبي، لكن خيبتي فيك تعدت حدود المجرة".
بعد خروج أمها من المشفى أصرت خالتها على انتقالها لمنزلها لرعايتها؛ فأمل حامل لن تقوى على تحمل ورعاية أمها بجانب إنها تكمل دراستها في السنة النهائية في الجامعة وبعد الامتحانات ستسافر إلى زوجها. رفضت أمل ذلك وغضبت من خالتها غضبًا شديدًا، فهي أولى برعاية أمها ولن تستطيع السفر للاطمئنان عليها كل يوم؛ فبيت خالتها في بلدة بعيدة ولكنها أصرت وأخذت نادية وتركت أمل لحزنها ووحدتها.
وانتقلت أمل إلى بيت والد زوجها وظلت مع سارة، لكن أم زوجها كانت تعاملها معاملة سيئة فلا تتقبلها أبدًا؛ فشعرت بالحزن الشديد وعادت لشقتها وحيدة، تصاحبها لعنة الحزن التي تطاردها دومًا في حياتها، وها هي تجلس بائسة حزينة بين أربعة جدران، شعرت بكآبة وأسى ودموعها تتساقط حزنًا على موت والدها ومرض أمها وفراقهما وبعاد أحمد عنها في وقت كانت في أشد الحاجة إليه. مرت ليالٍ طويلة باردة دون أن تنام، طوال عمرها تخاف الوحدة وتشعر بوحشة لو جلست في غرفة مغلقة. الكوابيس تطاردها والوساوس تعشش في رأسها ليلًا، وحكايات الجن والسحر التي سمعتها من أمها وصديقاتها تسيطر على أفكارها فتزيد رهبتها وفزعها. أصبحت تخاف أن تغمض عيناها، تشعل أنوار الشقة كاملة ليلًا، وتفتح النافذة وتدير التلفاز بصوت عال ليؤنسها في وحدتها، كل ليلة يتكرر السيناريو وهيهات أن يغمض جفنها، والدموع لا تنضب من عيناها على ما آل إليه حالها.
وذات ليلة انقطعت الكهرباء وساد الظلام من حولها وتملكها الخوف لدرجة أنها لم تستطع أن تتحرك من مكانها؛ تعالت دقات قلبها وكاد يسقط بين قدميها من الخوف؛ أغمضت عينيها، فإذ بطرق خفيف على باب الغرفة يزيد من فزعها.