"وأن ما يقهرني أن ترى ألمي ولا تهتم، أن ترى دموعي ولا تواسيني، أن تمر على جرحي مرور العابرين، خيبتي في الجميع لم تتعدَ حدود قلبي، لكن خيبتي فيك تعدت حدود المجرة!"
هكذا يكون الخذلان من أقرب الناس لك، كلمات كتبتها أمل في مذكراتها، تلك التي وجدتها سارة بين أغراضها، لا تدري لم تذكرتها الآن، تلك الذكريات تلوح لها من بين دموعها وهي تحتضن شيرين الثائرة بالمشفى.
أسرع سامر هاربًا من جحيم ربيعة، وتركها خلفه تشتعل غيظًا منه، فلتحترق كما احترقت حياة آلاف الناس بالمعاناة والاكتئاب والتعاسة بسبب سحرها وجرائمها الشنعاء.
ما إن وصل إلى المشفى حتى ولج إلى الغرفة التي بها شيرين، يجدها تصرخ وتحطم كل ما تطوله يديها، نزعت محاليل العلاج والحقن من يدها، سال الدم منها وتلونت ملابسها والفراش باللون الأحمر، اقترب سامر واحتضنها محاولًا تهدئتها دون جدوى، بل زاد هياجها برؤيتها له، حتى تمكن الطبيب منها بمساعدة الممرضة وأعطاها حقنة مهدئة أخمدت نيرانها المتأججة واستكانت أخيرًا في فراشها واستسلمت للنوم.
لم تتمالك سارة نفسها، فزعت مما آل إليه حالها وتساقطت دموعها، وساعدت الممرضة لتبديل ملابسها، بينما خرج سامر غاضبًا، كور قبضة يده وظل يضرب الحائط حتى تأذت يده وسالت منها الدماء، وكأنه يريد بذلك مشاركة شيرين ألمها وتعذيب نفسه لما سببه لها من عذاب، هنا وصل زوج سارة وألقى التحية عليه، لم ينتبه سامر له إلا عندما اقترب منه وربت على كتفه مرددًا: هون عليك يا أخي، ليس لها من دون الله كاشفة، سلم أمرك لله وادعو لها بالشفاء.
ثم مد يده وصافحه وأعطاه مصحفًا مرددًا: لم أجد أفضل من كتاب الله هدية، توضأ واقرأ كتاب الله وانتظر الفرج.
خرجت سارة من الغرفة، وقبل الانصراف صافح زوجها سامر وهمس له: نستأذنك الآن سنذهب أنا وسارة ولا تقلق لن أمنعها من زيارة شيرين ولا مساعدتها، في الصباح ستأتي لتهتم بها وترعاها، هذا واجب الأخوة وصلة الرحم، استودعك الله يا أخي.
شكرهما سامر ممتنًا لسارة رعايتها لشيرين في غيابه.
دخل الغرفة ونظر إلى شيرين وهي نائمة، كان يحمل المصحف ودموعه تتساقط، تذكر أبيه وحضوره معه في دروس المسجد فأخر مرة قرأ فيها القرآن منذ كان في العاشرة، كان يحفظ الكثير ويشجعه أبيه بالهدايا مع كل سورة يحفظها، كان يجتهد في الحفظ وأبيه يردد: حفظك للقرآن يحفظك، ويتوجنا بتاج أنا وأمك يوم القيامة.
كان كلامه يسعدني ويحثني على الحفظ بسرعة لأنال رضاه وألبسهما أجمل تاج، لكن أين هما؟! وأين أنا؟! كل هذا أصبح هباءً منثورًا، كيف أقابلكما وبأي عين يا أبي؟! وكيف أقابل الله بعد كل ما اقترفت من ذنوب، هل من توبة؟! يا رب اشفها ولا تفجعني بفقدها، ليس لي طاقة للفقد.
في السيارة تنظر سارة لزوجها (علي) بقامته الفارعة وشعره ذي السالفين الطويلين وشاربه المهذب، ولحيته الطويلة، وعيناه التي تمتزج فيهما الطيبة والذكاء تتأمله طويلًا، فهو نعمة كبيرة وهدية الله لها، طوال عمرها تحلم بزوج صالح وتدعو كل صلاة في سجودها بزوجٍ هينٍ لينٍ، يعفها ويحفظ عليها دينها وينفق عليها مالًا حلالًا. وقد منّ الله عليها بأفضل مما تمنت ورزقها زوجًا كان لها أبًا وأخًا وصديقًا وسندًا لها في دينها ودنياها. حمدت الله سرًا على نعمه وفضله، لكن سعادتها لم تكتمل لحزنها على أخيها أحمد وتلك الذكريات التي تطاردها أينما ذهبت، تذكَّرت قصة حبه مع صديقتها أمل...
يدخل أحمد صانع البهجة والسعادة -كما أسمته هي- فما إن يدخل الشقة حتى يشع نور السعادة والدفء وتدب الحياة وتتعالى ضحكاته ونكاته، فبعودته تعود الحياة للمنزل، حتى جدرانه يدب فيها الحياة بقدومه، يومها زادت السعادة بنجاحه.
عاد مبتهجًا ودقات الباب تتعالى طبلًا مع رنات الجرس مرددًا: وحياة قلبي وأفراحه وهناه في مساه وصباحه دا مفيش فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاحه، الناجح يرفع أيده . نجحت، نجحت، ويمسك يد سارة ويدور معها بسعادة بالغة.
تعم الفرحة وتتعالى زغاريد أمه ويضمه أبوه مهنئًا له، يقف أحمد مرة واحدة ويردد لتكن الفرحة فرحتان يا كرام؛ فقد قررت بعد أذن أبي الكريم وأمي الحبيبة خطبة جارتنا الجميلة أمل، فمتى نذهب قبل سفري إلى السعودية وحرمانكم من طلتي البهية؟ الكل يعلم أنني محظوظ والوظيفة تنتظرني هناك في شركة والد صديقي وأخي حسين، ولكم مني جزيل الحب وخالص التقدير، والسلام ختام يا أهل الدار الكرام.
تتعالى ضحكات سارة، ويصفق أبيه بحرارة وسعادة فها هو قرة عينه وفلذة كبده ابنه الوحيد الذي يتشرف به دومًا بأخلاقه وعلمه وتفوقه الدائم، أصبح مهندسًا والوظيفة تنتظره واختار زينة البنات لتكون زوجة له. بينما تثور أمه غاضبة: تخطب منْ؟! وسحر ابنة خالتك، لقد وعدت أختي بأنها لك منذ صغركما والكل يعلم بذلك، هل جننت؟!
يحاول أحمد إرضائها بضحكه ونكاته، لكن هيهات أن ترضى أو تهدأ، تغادر الغرفة غاضبة معلنة رفضها التام لأمل، وتتحول السعادة إلى حزن وقلق وتعبس الوجوه التي كانت مبتهجة منذ دقائق قليلة.
في شقة أمل لم يكن الأمر أقل توترًا، حيث اتفق أحمد معها منذ ساعة على إخبار الأهل اليوم استعدادًا للخطوبة قبل سفره. كانا يحلمان أحلامًا وردية، لكن الواقع حطم كل ذلك.فقد رفض والدها ارتباطها بأحمد متعللًا بوعده لابن أخيه بالزواج من أمل منذ سنوات. فلن يكسر قيود التقاليد مرة أخرى ويسبب العداء مع أهله بعد أن صفت النفوس أخيرًا. خيم الحزن على قلبيهما ومرت أيامٌ وليالٍ مريرة عليهما، كأن لعنة الحزن حلت على الجميع.
تجتمع أمل وسارة وشيرين في شقة شيرين لمناقشة الأمر ومحاولة الوصول لحل، تتدخل والدة شيرين مقترحة الذهاب إلى الشيخة ربيعة لعمل حجاب لتسهيل الزواج مرددة: إنها شيخة مبروكة ولا يستعصي عليها أمرًا.
ترفض سارة الأمر تمامًا، مستنكرة الاستعانة بالسحر والدجل مرددة: هل بعد دراستنا في الجامعات نذهب للسحر والشعوذة لتيسير أمورنا؟! أين الدعاء والتضرع إلى الله وصلاة الحاجة والاستخارة وقراءة القرآن والاستغفار؟! تلك هي الطرق السحرية والشرعية للوصول لأحلامنا وليس طريق المشايخ والأولياء والدجل والشعوذة.
ظل حديثهن لساعات واتفقن على الدعاء والتضرع لله وحده من أجل إزاحة الهم والحزن وجمع الشتيتان في عش الزوجية السعيد. كانت سارة أكثرهن إيمانًا والتزامًا؛ شرعت في حفظ القرآن منذ عامين وقربت على ختمه وتحضر دروس العقيدة والفقه في المسجد مع زميلاتها، بينما شيرين كانت غارقة في متابعة المسلسلات التركية والهندية والأغاني وروايات العشق وقصص الحب والغرام والضحك والهزار، أما أمل كانت بين بين، تجمع بين ذلك وتلك فحينا تذهب مع سارة لحضور الدروس بالمسجد، وأحايين أخرى تعتكف على قراءة روايات ديستويفسكي فتميل للكآبة والحزن، وقصص والدتها عن أيام البيت الكبير.
لم تكتفِ والدة شيرين بالنصيحة للبنات لكنها اتصلت بنادية (والدة أمل) وأشارت عليها بالذهاب معها للشيخة ربيعة ولا داعي لإخبار أحد من البنات، واتفقتا على الذهاب يوم الجمعة بعد العصر إلى الحسين ثم لها دون أن يعلم أحد بالأمر موصية إياها "لا تنسِ إحضار شيءٍ من ملابس أمل"
تغلق الهاتف معها وتحدث نفسها "لا بد أن أنقذ أمل من العذاب، لن أسمح لهم بتعذيبها وتجرع المر الذي شربته سنوات هناك، حتى لو تعلم ابن عمها وسافر فقد رضع الحقد والكراهية من أمه التي أعمت الغيرة قلبها وكادت لي المكائد مع الأخريات هناك"
تتذكر نادية ما حدث، رواية روتها لأمل مرات ومرات وبالمثل روتها أمل لصديقتيها شيرين وسارة: عندما تزوجت وذهبت لتعيش مع زوجها في بلدته، لم يوافق أهله وتزوجا رغمًا عنهم فقد كانت تقاليد عائلته ألا يتزوج الشاب إلا ابنة عمه، وزوجها كسر التقاليد وغضب أبيه عليه ولم يسامحه إلا بعد مرضه الشديد، أرسل له، وليته ما فعل؛ قرر زوجها العودة لبلده للحصول على رضا والده المريض، ودخلت البيت الكبير وهي لا تعلم أنها تخطو بقدميها لقدرها العثر، دخلت بيت الجحيم وليس بيت العائلة، هذا البيت الذي لم تنعم فيه بالراحة ولا بالنوم ليلة هادئة، منذ دخوله والنساء فيه لا تكِنْ لها سوى الحقد والكره، لدرجة أن أسموها المصراوية التي سحرت لزوجها ليعشقها ويتزوجها وبدأت الحرب الشنعاء ضدها ولا ذنب لها غير أنها جميلة تمتلك عيونًا خضراء وشعرًا أصفر وبشرةً بيضاء، كن يقمن برش المياه وعمل السحر للتفريق بينها وبين زوجها. تساقطت دموعها وهي تتذكر كيف كرهها زوجها وتحول حبه إلى حقد، كيف تبدل حاله وتغير طبعه خلال أيام فقط، أصبح يسبها ويضربها ويهجرها في الفراش لشهور طويلة، كانت تستيقظ مفزوعة على دقات الباب أو النافذة وأصوات تُنادي باسمها.
سمعت حكايات من جارتها -الوحيدة التي أحبتها في تلك البلدة- عن النداهة والسحر الأسود والدجالة التي ذاع صيتها في قرية مجاورة ويأتيها الناس من شتى أنحاء الجمهورية لتيسير أمورهم، مرت ليالٍ طويلة قاحلة وشديدة السواد، لم يكن لها رفقاء سوى الأرق، السهد ،الدموع ،والرعب الذي بات قدرًا لها. حتى جاءت تلك الليلة التي رأت فيها شبحًا يتحرك في غرفتها؛ كاد قلبها يسقط بين قدميها من شدة الفزع؛ صرخت صرخة مدوية أيقظت أهل البيت بأكمله.