"إننا لا نبكي الميت لذهابه عنّا وإنما لبقائنا دونه"
تملّك سامر الهلع والقلق الشديد، وتساءل: أين ذهبت شيرين؟! بالتأكيد ربيعة لها يد في اختفائها.
حمل هاتفه بغضب واتصل بربيعة وقال صارخًا: أين شيرين يا ربيعة؟ لن أرحمكِ إن تأذت، حذرتكِ مرارًا ولكن...
لم يكمل كلامه، قاطعته ربيعة وردت باستهزاء: لا أعرف أين ذهبت السنيورة، هل هربت منك؟! قلت لك أحضرها لنفتح المقبرة، وستنال مكافأةً كبيرةً.
غضب سامر من كلامها وقال محذرًا إياها: إياكِ أن تمسيها بسوء، حسابكِ معي قريبًا يا ربيعة.
أغلق الهاتف والتفت إلى علي مرددًا: قلبي غير مطمئن لربيعة، سأذهب إليها لأتأكد بنفسي، وأنت انتظر هنا حتى ينتهي الشيخ من القراءة، لعل شيرين تعود بأي لحظة.
غادر سامر على عجل، وقلبه ينتفض خوفًا وقلقًا على زوجته، يهمس لنفسه بحزن وألم "لا تفعلي بي ذلك يا شيرين، لا تتركيني وحدي في الحياة، فحبك هو حارس أمين على قلبي، جعلني أتمرد على حقد وشر ربيعة، وأعود للحياة بأمل واحد هو أنتِ، وجودكِ هو وطني ودونكِ لا وجود لسامر، أين أنتِ يا حبيبتي؟!"
وصل سامر إلى منزل ربيعة، ركل الباب بعنف ودلف وهو يرمقها بعصبية قائلًا: أين شيرين يا ربيعة؟ لا تراوغي، لا تنكري وجودها معكِ.
تحدث إلى ربيعة بوعيد وتهديد صريح، لكنها أنكرت وجود شيرين هنا، أو معرفة مكانها. دخل ابن ربيعة، فأمسك سامر به ووضع السكين على رقبته، مهددًا بذبحه إن لم تعترف، أقسمت له مرارًا بأنها لا تعرف عنها شيء؛ ألقى به أرضًا ودخل هائجًا باحثًا بجنون في كل الغرف عن شيرين، ولكن لم يعثر عليها، زاد خوفه وقلقه، اتصل علي به ليطمئن عليه، أخبره أنه لم يجد شيرين وانفجر باكيًا، خرج مندفعًا من منزل ربيعة، يمهس إلى نفسه "إلى أين ذهبتِ يا شيرين؟! أين أبحث عنكِ؟!
بعد أن جاب الشوارع ذهابًا وإيابًا عاد يلهث بحسرة وألم، وقف مذبوحًا وسط الشارع يصرخ، رأه علي فأسرع نحوه واحتضنه وسط دموعه، وهو يقول: هون عليك يا أخي، سنجدها بأذن الله، لا تقنط من رحمة الله.
تعالت صرخات سامر مرددًا: يارب، يارب لا تؤذيني فيها، يارب ردها إليّ سالمة.
فجأة ترآى إليه صورة قبر والديها، تذكر كلامها عن زيارتها للقبر وراحتها هناك، أسرع وخلفه علي متعجبًا من أمره، وصل إلى القبر ليجد شيرين جالسة أمامه تبكي، كانت مفاجأة ملجمة فعلًًا كأنّما علقت قدمه بالجمر المحرق؛ فلم ينبس ببنت شفة؛ فلدقائق ظلّ يحملق فيها فاغرًا فاه، حتى أفاق على صوتها تنتحب بشكل هستيري، احتضنها بحرارة شديدة، وخرجت كلمات ميتة من ريقها الجاف: حدثت أبي وأمي عن كل شيء، عن قسوة البشر وشرهم، عن الألم والدموع التي ترافقني دومًا، عن خوفي وفزعي دونهما، آه يا أمي ليتكِ معي الآن أنتِ وأبي، أو ليتني أنا معكما لأرتاح من ظلم ومرارة الحياة بعدكما .
بدت شيرين في حالة رثة، كانت في ذروة الإرهاق والحزن، جسدها يرتعش بعنف، ودموعها تندفع كفيضانات من عيونها الغائمة، وقف علي حزينًا بائسًا، لا يعلم ماذا يفعل!
حاول سامر إقناعها بالعودة معه، لكنها أبت أن تتحرك، كأن هنا ملجأها وملاذها الآمن. تحشرجت الكلمات في فمه وازداد قلقًا عليها، لم يكرر طلبه خوفًا عليها، بل ظل محتضنها بحنان وحب، تنهدت بحزن قائلة: دعني هنا وارحل، لن أبرح موضعي قدم واحدة، فلا مكان لي بتلك الغابة الموحشة.
صمت سامر ونظر لها بعين دامعة، ودموعها تتساقط تسأله: هل تحبني؟ إن كنت تحبني حقًا، اتركني هنا.
يُقرب كفها من شفتيه ثم يطبع عليه قُبلة حنونة، يقول لها بهيام: لا يا شيرين، لا أحبكِ، بل أعشقكِ بجنون، كيف تقولين هذا الكلام، كيف اترككِ هنا؟! لا مكان لنا بين الأموات، وهل يترك الإنسان روحه ويرحل؟! هيا بنا نذهب للبيت، وهناك سنتفاهم على كل شيء، جلوسنا هنا في هذا الوقت خطر كبير، تعالت أصوات نباح الكلاب؛ فزعت واحتضنته بشدة، انتبهت فجأةً كأنها عادت من عالم أخر، زادت خفقات قلبها، وأخذت تنشج بصوت كسير، تنهدت بحزن سائلة: كيف أتيت إلى هنا؟! لا أتذكر شيئًا، هل جننت حقًا؟!
مسح سامر على رأسها بحب وحنان مردداً: لا تقولي ذاك الكلام ، أنتِ ست البنات وزينة حياتي وملكة قلبي.
كان علي قد ابتعد قليلًا، اتصل بسارة يبلغها بعثورهما على شيرين.
مسحت شيرين دموعها وهمت بالانصراف معه، لكن انقبض قلبها فجأةً وشعرت بضيق واختناق، وسقطت مغشيًا عليها، تلقاها سامر بيده وحملها إلى السيارة.
استقبلت سارة شيرين بحزن وألم على حالتها ووضعها، شمرت الأحزان عن ساعديها لتنهش قلوبهم، وعمّ الخوف والقلق الشديد، ليلة عصيبة تلوى فيها الجميع على بساط القلق والخوف.
أما سامر فقد طال به الحال وهو يفكر في حالة شيرين ولم ينتبه حتى سمع أذان الصلاة، فقام يجر قدميه بتثاقل شديد، كمن يحمل ثقل أسفار طال بها المرتحل، توضأ وصلى ودعا لشيرين، فلن يتركها أبدًا وحيدة، وليسامحه الله على عدم ذهابه للمسجد.
غفا قليلًا ثم استيقظ على صوت ضحكات شيرين الهستيرية، نظر إليها بحسرة، فلم تسلم من سحر ربيعة وشرها، مذ تناولت الطعام المسموم وحالتها تسوء يومًا بعد يوم، اتصل بالشيخ خالد ليحدد معه موعدًا الليلة، فالأمر لا يحتمل تأجيل، ضمها بشدة وهو يردد أية الكرسي والمعوذتين، ظل يكرر حتى هدأت واستكانت ثورتها، غفت قليلًا وقد اعتلت وجهها صفرة شديدة؛ فلم تتناول الطعام منذ عصر أمس، بجانب الخوف الذي أكل من قلبها نصيبًا وافرًا، تركها ترتاح واتجه إلى المطبخ يعد الطعام، جهز لها البيض بالزبد وكوبًا من القهوة السادة كما تحب، فكر في كسر جو التوتر قليلًا، فشغل لها أغنيتها المفضلة وهو يردد معها "يا صباح الخير يا للي معانا، الكروان غنى وصحانا"
فتحت شيرين عينيها، وعلى شفتيها ابتسامة باهتة، تناولا الطعام وخلدت للنوم مرة أخرى، جسدها متعب والحزن أكل من قلبها وروحها، باتت هامدة لا تقوى على الحركة.
مرت الساعات ثقيلة على سامر، بانتظار الشيخ خالد الذي حضر بعد صلاة العشاء، ارتمت شيرين في حضن سارة، تبحث عن الأمان والسكينة، قرأ الشيخ الرقية وهو يضع يده فوق رأسها، وجسدها ينتفض بشدة، والدموع تسيل من عينيها بغزارة وظهر في وجهها اصفرار، وهي تتثائب دون توقف، مع تنميل في جسدها، فجأة دفعت سارة بعيدًا وأخذت تسب وتلعن بأقذع الألفاظ، وصراخها يزداد، ظل الشيخ يقرأ حتى انتهى من الرقية، وغادر ووعد بزيارات متتالية حتى تبرأ تمامًا من السحر.
تكرر الأمر مرات حتى تحسنت شيرين، ونصحهما الشيخ بالمداومة على تلاوة القرآن وسماعه، والتحصن بأذكار الصباح والمساء وذكر الله .
مرات أيام لكن ربيعة لم تكف عن أذاها وخططها الشيطانية لشيرين ولغيرها، فكر سامر مع علي في خطة للإيقاع بها، كان لعلي صديق ضابط بالشرطة، قابلاه واتفقا على وضع كاميرات مراقبة لربيعة بإذن من النيابة بعد بلاغ سامر وأخرون عنها، وبالفعل ذهب سامر وحاول التمثيل بالعودة للعمل معها لاستدراجها، ووضع الكاميرات في كل مكان.
وقبل مداهمة وكر ربيعة، وصلها الخبر ففرت هاربة مع ابنها وعصابتها. وقف سامر في حيرة متعجبًا: كيف علمت بالأمر؟! بالتأكيد لها أعوان في مركز الشرطة.
نظر إلى الضابط بامتعاض مرددًا: هربت الشيطانة تلك المرة، لكن سأجدها وسأقتلها بيدي
ربت الضابط على كتفيه مرددًا: لا تغضب سنصل إليها قريبًا، ولن نرحمها، ينتظرها ملف مليء بالقضايا التي تحيلها للمفتي. رن هاتف سامر، كانت على الجانب الأخر ربيعة ، تتعالى ضحكاتها الساخرة، وهي تردد: السنيورة شيرين معي، وسلم لي على الضابط.