"ثمة غياب لا يشبهه أي غياب، ثمة فَقْد لا يساويه فقد آخر، ثمة فراق ليس كمثله شيء، وثمة فراغ لا تملأه الدنيا بأسرها".
في مكان أخر تقف سارة تصنع القهوة لوالدها، تتصاعد أبخرة القهوة الحارة لتلامس برودة مساء شتوي طويل، قدمت القهوة إلى أبيها، وهو جالس متكئ على مقعده واهن الجسد، منهك من شدة الألم، يشاهد نشرة الأخبار في التلفاز لملء فراغ وقته وخواء قلبه، يستجدي شيئًا يشغله فلا يفكر في أي شيء آخر. محاولًا نسيان ذكريات تطارده ودموع تملأ عينيه وفقد يستبد به.
تركته وتوجهت نحو غرفة أمها التي بادرتها بالكلام، سألتها عن أخيها فأجابت: لا، لم يتصل أحمد بعد، ولم يرجع.
كانت الأم تنتظر عودة أحمد، ولكنه لن يعود أبدًا، فقد مات هناك في السعودية في حادث سقوط الرافعة في الحرم المكي، وهي لا تصدق أو لا تريد ذلك، هل لأنها لم ترَ جثته لدفنه هناك أو ربما لأنها لا تستوعب أنها فقدت ابنها الوحيد؟!
ثم سألتها عن خالتها غالية وابنتها شيرين! لماذا لم تعد تزورني؟! فطال الصمت، لا تعرف بما تجيبها! ولا تقوى على إبلاغ والدتها بموت أختها وزوجها بالحريق!
في مكان آخر، وقفت شيرين صامتة قليلًا ثم غص صوتها بالبكاء، ابتعدت عن سامر وارتفع صوتها بالصراخ والولولة على والديها، جرت نحو النافذة محاولة فتحها ومهددة بإلقاء نفسها منها، أمسكها سامر وحملها إلى الداخل، وصفعها بقوة على وجهها، عقبها بصياح: ماذا تفعلين؟! هل جُننتي يا شيرين؟!
شعر بضعفها ودقات قلبها المتتالية فأشفق عليها وهدأ قليلًا مرددًا: تحاولين الهرب ثم تحاولين الانتحار! ماذا تظنين نفسك فاعلة؟! هل ستجدين الأمان بعيدًا عني؟! هيهات يا شيرين، أنتِ لا تعرفين ما ينتظركِ من جحيم خارج هذا الباب؟! هل ستواجهين العالم بهلعكِ وبراءتكِ هذه؟! نحن في غابة، والوحوش تفترس كل ما تقابله، بأي سلاح ستحاربين؟!
خيم السكون على ربوع المكان لكن الصمت لم يستغرق طويلًا، عاد صوت سامر الهادئ بعد غضبه الجشيم، عندما اقترب منها وضمها إليه باكيًا: أحبك يا شيرين، صدقيني لن يحبك أحدٌ مثلي، أرجوكِ لا تتركيني، أنا لا أسجنكِ هنا كما تظنين، أنا فقط أحميكِ من شرور الناس ووحشيتهم، أنتِ لا تعلمين ما ينتظركِ بالخارج!
تعود الكهرباء، تبكي شيرين وتتعالى نهنهتها مبتعدة قليلًا عنه: أنت تردد دائمًا "أنتِ لا تعلمين" ولماذا لا أعلم؟! أخبرني لأستريح من الأفكار التي تطاردني ليل نهار، لو كنت تكن لي ما تدعيه من حب، أخبرني الحقيقة ليتوقف الصراع بين قلبي وعقلي.
يسود الصمت مرة أخرى، يقترب سامر منها، وينظر إليها نظرات مفعمة بالحب: ماذا تقولين يا شيرين، أدعي حبكِ؟!
يمسك يدها ويضعها علي قلبه، أنتِ بقولك هذا جعلتي غصة تستقر هنا، هنا حيث لا أحد غيركِ وتساقطت دموعه.
سرت قشعريرة في جسد شيرين، أحست معها بأن ناقوسًا يدق في أعماقها، معلنًا حبها له، وخفقات قلبها تزداد، تود لو قالت له أحبك، لكن يمنعها الحاجز الذي بينهما من خوف وشك وصراع مع عقلها الذي يرفض هذه المشاعر وضعفها أمامه.
مرت ساعات الليل المؤرقة لم يدن النوم من جفنيهما، وقعا كلاهما فريسة الأفكار والألم، ظل سامر يفكر كيف يكسب ثقة شيرين ويمنحها الأمان، كيف يحميها من سحر ربيعة، ويتخلص من نفوذها وسيطرتها عليه، هل يحكي لشيرين ما حدث قديمًا، هل ستتقبل الحقيقة وتتعايش معها؟! بينما شيرين تفكر هل تصدق سامر وترضى بقدرها؟ هل تسير خلف مشاعرها وتبادله الحب وتنسى كل هواجسها وخوفها منه؟! أم تحاول الهرب مرة أخرى؟ ولكن لو هربت فإلى أين؟! لم يعد لها أحد تأوى إليه بخوفها وحزنها! تساقطت دموعها حزنًا على والديها.
عند بزوغ الفجر، نهض سامر وأعد وجبة الإفطار، بينما كانت شيرين تصلي، نظر لها متمنيًا السجود الذي حُرم منه؛ يبكي قلبه ويدعو الله خفية بما يجول في نفسه، يتناولان الطعام ويقدم لها سامر كوبًا من العصير، ما أن تشربه حتى تميل برأسها على مقعدها؛ يحملها سامر إلى فراشها ويضعها ويُقبلها مرددًا: أتمنى أن تسامحيني يا شيرين، وضعت لكِ المنوم في العصير خوفًا عليكِ؛ رغبتكِ الجامحة في الهروب تقلقني عليكِ، لم يكن لي خيارًا آخر.
ينظر إليها ويتلكأ قليلًا، متمنيًا لو ظل جوارها، لكن يتذكر ربيعة تلك المصيبة، قدره العسر واللعنة التي لا يستطيع الخلاص منها.
يصل متأففًا إلى ذلك المكان المقيت، منزل ربيعة وشياطينها، يتمنى لو أحرق المنزل بهم؛ ليريح العالم من شرورها. طوال اليوم تمارس أعمال السحر والشعوذة، والنصب على عباد الله، هذا يشتكي ضيق رزقه، وهذه تشتكي عدم نومها وكوابيس تطاردها، وآخر يبكي عدم قدرته على معاشرة زوجته، وتلك تعاني السحر وكل حياتها متوقفة، وأخرى حضرت مع أمها مرغمة فهي ترى كل عريس يتقدم شيطانًا ولا تقبل به، كلهم يبحثون عن حلول لمشاكلهم عند ربيعة، تلك الكاذبة التي تخدعهم بألاعيبها وبركتها المزيفة، تبيع لهم الوهم وهم راضون!
دخلت أخر حالة إلى ربيعة، فتاة في ربيع العمر، جميلة الوجه والهندام، تبدو من أسرة ثرية، تتخفى خلف نظارتها الشمسية، كانت مقهورة باكية، تروي قصتها لربيعة: تزوجت منذ خمس سنوات، بعد قصة حب طويلة، لكن حُرمت من نعمة الإنجاب، لم ندع طبيبًا إلا ذهبنا إليه، ولا مانع لدينا، عانيت من كلمات الناس الجارحة، ونظرات الشفقة والشماتة، أخاف أن يسمع زوجي كلام والدته ويتزوج غيري، تعبت ودلتني صديقة عليكِ، لعلي أجد حلًا لمشكلتي، ساعديني يا شيخة ربيعة. تقولها باكية، منكسرة، وكأنه أملها الأخير.
تمارس ربيعة شعوذتها من بخور وكلمات غير مفهومة، وغلق وفتح المصابيح، مع حركات الشعوذة والترهيب لتخدع الفتاة، وتطلب المال؛ تعطيها الكثير دون تفكير ولا وعي منها، تسحبها للداخل في تلك الحجرة المظلمة. بعد أن فقدت توازنها من تلك الأدخنة والبخور الذي يحتوي على مواد مخدرة، تضعها على ذلك الفراش، وتربت على كتف سامر وتتركهما معا؛ لممارسة دوره العلاجي بالنوم معها، أقترب سامر منها ليجد صورة شيرين أمامه، كأنها تنهره عن فعلته تلك، ابتعد صارخًا محاولًا الهرب، تمسك به ربيعة وتستنكر فعلته، تعنفه بقوة مرددة: هل جننت؟! أم تريد لنفسك ولحبيبة قلبك الأذى؟! أما أن تنفذ أوامري أو تتحمل عواقب ذلك!
يحاول أن ينفذ ما طلبت وكله ألم، فلا يستطيع، انفجر سامر باكيًا رافعًا وجهه إلى السماء وهو يصرخ ..آه .. آه .. آه .. تعبت يا رب، رحمتك.
يخرج من الغرفة هاربًا، يركض بعيدًا عن ربيعة، يريد الهروب من نفسه، ومن حكايته؟! من مشاهد وذكريات أطلت من مكانها على غير توقع. كان يرتجف كالمحموم، يسير بلا هدف، هائمًا على وجهه لساعات لا يعرف عددها، خائفًا ومتألمًا، بالخوف يكفر الله ذنوبنا، تتطهر أرواحنا بالألم لنستحق أن نهنأ بالحب بعد ذلك. توقف فجأة في الشارع، جلس على الرصيف، أفاق من شروده على رنات الهاتف، كانت ربيعة، زفر بضيق وتذكر شيرين، وزاد قلقه عليها بعد أن تردد كلام ربيعة في أذنيه، وتهديدها له، أسرع إلى المنزل؛ فتح الباب ليجد النيران مشتعلة في كل أرجاء الشقة، اتجه مسرعًا إلى الداخل يبحث عن شيرين وهو يصرخ.