"ما السبب الذي يحول الإنسان المرح المتفائل المحب للحياة إلى كتلة من الصمت والانعزال؟! إنه البعد عن الله يصيب الإنسان بجميع أنواع الاكتئاب، والله الذي لا إله إلا هو البعد عن الله غربة ولو كان وطنك كل الناس!"
هكذا قالت سارة لنفسها وهي تفكر في ما حدث في حالة أمها وحالة شيرين!
صُعق سامر بعد سماع الخبر من ربيعة، فكيف وصلت لشيرين! وأين هربت بها! استشاط غضبًا ولم ينتظر أن يبلغ علي أو الضابط بما حدث، بل أوقف سيارة أجرة وأنطلق، وتركهما في حيرة من أمرهما.
ركب الضابط وأشار لمعاونيه بأن يتبعاه وانطلق بالسيارة بسرعة.
بينما ذهب علي إلى البيت ليطمئن على سارة وشيرين، وصل ليجد باب شقة سامر مفتوحًا، دخل مفزوعًا؛ ليجد سارة ملقاة على الأرض، ما أن رأته حتى ارتمت بحضنه وانتفضت مذعورة وبكت بشدة: شيرين، أخذوا شيرين يا علي! حاولت إنقاذها فدفعوني بقوة على الأرض.
اتصل علي بسامر مرات عديدة ولم يرد عليه؛ هنا أيقن أن ربيعة وراء ما حدث، وهي من اتصلت بسامر، لذا ذهب غاضبًا ولم يخبرنا بشيء.
وصل سامر إلى بيت متهالك في أحد الحارات، تعالت طرقات سامر المتتالية على باب المنزل، فتح له طفل صغير، دلف إلى الداخل بغضب مناديًا على رجب، هّم الطفل بغلق الباب لكن باغته الضابط وأتبع سامر إلى داخل المنزل.
أمسك سامر رجب وصفعه بقوة، مهددًا إياه: إلى أين ذهبت ربيعة؟ تكلم وإلا ذبحت ابنك، أين ذهبوا؟ أين تقع المقبرة الأثرية التي تريد فتحها؟!
ارتعش رجب خوفًا وأصفرّ وجهه، وتصبب العرق من جبينه، فمنذ أسبوع تعب بشدة في منزل ربيعة حيث يعمل معها، وتم نقله للمشفى لإجراء عملية استئصال الزائدة، لذا لم يذهب مع ربيعة.
عاد سامر لصفعه مرة أخرى، هنا تدخل الضابط ومنعه من ضربه، وجذبه بقوة نحوه مرددًا: لديك خيارين، أما أن تدلنا على مكان ربيعة ونعتبرك شاهد من أجل طفلك، أو نعتبرك متهم وتتحمل كل قضايا ربيعة وتعاقب بدلا منها، ويوضع طفلك في دار رعاية الأيتام حتى تخرج، ولا أعتقد إنك ستفلت من حبل المشنقة حكمًا على كل القضايا البشعة، قتل ..اغتصاب .. خطف .. سرقه .. وإلخ
غرق رجب في عرقه وخوفه وضم طفله بقوة، وتلعثم في الكلام مترددًا: لا، لن أترك ابني ليس له أحدًا غيري، سأدلكم على مكان ربيعة.
قادهم رجب إلى ربيعة، في منزل بإحدى القرى التي أوهمت سكانها جميعًا بوجود آثار تحت بيوتهم، فبدأ الحفر منذ سنوات للتنقيب عن الآثار، منهم من هدم بيته وبيت جاره، ومنهم ما زال ينقب مع أعوان ربيعة، أملًا في العثور على ذلك الكنز المفقود، أراد سامر اقتحام المنزل بثورته وغضبه، لكن الضابط منعه، وقال له: لا بد من خطة محكمة لضمان سلامة شيرين، انتظر يا سامر.
الوقت يمر وأعصاب سامر لا تحتمل.
قفز الضابط ومعه بعض رجال الشرطة إلى سطح المنزل، ونزلوا بحذر شديد لأسفل، بحثوا في كل مكان، لكن لا أثر لأحد، فتح الباب ودخل سامر ورجب معهم، هنا أشار رجب إلى بوابة سرية أسفل غرفة المعيشة، فتحها الضابط ونزل سلمًا خشبيًا وأتبعه الباقون، وجدوا أمامهم سرداب طويل لا ينتهي، وقد تم حفر الممر أسفل البيوت ولكن أين ينتهي وإلى أي مجهولٍ يقودهم، الكل في حالة تأهب وقلق وسامر قلق جدًا على شيرين، يتخيل كيف حالها الآن، ما ذنبها في كل هذا الفزع والرعب اللذان باتا شعارًا لحياتها؟! هل ستتحمل كل هذا الألم والمعاناة؟! تنهد بحرقة ونار تشتعل بداخله على قرة عينه وما أصابها، دعا الله أن يصل في الوقت المناسب وينقذها من بطش ربيعة.
سمع الضابط صوتًا فنبه الجميع بتوخي الحذر، ودخل مباغتًا الجميع، كانت ربيعة بيدها سكينًا وضعته على رقبة شيرين مستعدة لذبحها لفتح المقبرة المزعومة، صرخ سامر بها: اتركيها أيتها المجرمة، ألا يكفيكِ قتل والديها ووالديّ، هيا دعيها وإلا …
هنا أمسك بابنها ووضع حبلًا حول رقبته، وهددها قائلًا: سأقتل فلذة كبدكِ وحبيب قلبكِ، ابنكِ المدلل الذي طالما أخذ مالي وحقي.
تعالت صرخات ربيعة: دعه يا جبان، لن أتركها أبدًا، دع ابني يذهب ولا تقترب منه، سأنتقم منك يا خائن.
شد سامر الحبل حول رقبته بقوة، تألم وتعالت آهاته التي أحرقت قلب ربيعة، فابنها هو نقطة ضعفها الوحيدة، فتركت شيرين وأمسكت ابنها تتفحصه وتضمه خائفةً عليه، هنا لاحظ الضابط ديناميت في يد رجال ربيعة، فأمر سامر بالخروج مع شيرين بصحبة رجال الشرطة.
زاد غضب رجال ربيعة ومالك البيت وامسكوا ربيعة وابنها: لا أحد سيخرج من هنا قبل فتح المقبرة.
صارت بينهم مشاجرة كبيرة، حاول الضابط فضها دون خسائر ولكن أحدهم أشعل الديناميت بالخطأ، فانفجر المكان وتحول إلى رماد.
راح الضابط ومعه شرطيان شهداء الواجب، ومات رجب وربيعة وأعوانها تحت أنقاض المنزل وارتاح البشر من شرورهم، نظر سامر إلى المشهد وضم شيرين بحنان، وتخيل وجودها هناك، ماذا لو لم يصل وينقذها!
حمد الله كثيرًا وسجد شكرًا لله، وعادا مع رجال الشرطة، لكنه تذكر ابن رجب الذي ينتظر عند الجيران، أملًا بعودة والده لحضنه، ماذا سيفعل الطفل في ذاك الغابة الموحشة، تذكر ما حدث لوالديه وكيف وجد نفسه وحيدًا مثل ذلك الطفل، والعذاب الذي عاشه في بيت ربيعة، حدث نفسه هامسًا: لن أسمح لأحد بتعذيبه وسأتولى رعايته والاهتمام به.
مر سامر ومعه رجال الشرطة على منزل رجب، وأخذوا الطفل لدار رعاية مناسبة، وعزم سامر على زيارته كل فترة للاطمئنان عليه ورعايته، أحست شيرين بما يدور بخاطره؛ فربتت على كتفه وكأنها تقول له أنا معك في قرارك، لن نتركه وحده سنزوره معًا، لن يتكرر معه ما حدث لك أطمئن.
يصلا المنزل منهكين بعد يوم عصيب، يقابلهما علي وسارة بفرحة عارمة يردد علي: نعم لم ينتهِ الشر وهناك بدل ربيعة الكثيرات والكثيرون، ولكن الخير دائمًا ينتصر، والمظلوم ينصره الله ، وهذا وعد الله لنا في الحديث القدسي حيث قال الله عز وجل يخاطب النفس المظلومة (وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين)
فليس بين الله ودعوة المظلوم حجابًا.
تحتضن سارة شيرين آملة أن تكون الحياة بعد ذلك أفضل، متمنية لها السعادة.
تمر السنين ، يقف سامر وإلى جواره شيرين في قاعة كبيرة، في انتظار ابنهما عمر الذي تخرج منذ عام من الجامعة، وعروسه ندى ابنة سارة التي جاءت بعد سنوات صبر ودعاء، اليوم حفل زفاف عمر وندى، وأخيرًا تعم السعادة وترفرف على حياتهم، تشرد شيرين متذكرة كل ما مضى، تمتلئ عيونها بالدموع، تمنت لو كان والديها هنا، بينما سامر يربت على يدها بحب ودعم وجدتهما طوال سنوات مضت، هو الآخر يشعر بالفقد والشوق لوالديه ويغلبه الحنين، يهمس إلى نفسه مرددًا "مهما حاولنا أن ننسى، مهما حاولنا أن نبتسم، هناك ذكريات لا تُنسى، هناك حزن عميق وألم لن تمحوه الأيام والسنين، هناك جرح ما زال ينزف، قلب حزين يبكي، وحنين لا ينتهي أبدًا؛ تمر السنين ويبقى الحنين".
يرن هاتف سامر فيرد متعجبًا من الرقم ليرد المتصل قائلًا: أنا جلال زوج ربيعة!