الفصل الحادي عشر
"هزمنا الصعاب، قاومنا الألم، تحملنا مرارات الفقد وخيبات الخذلان، لكن هزمتنا دموعنا عندما هبت رياح الذكريات وأشعلت نيرانًا بقلوبنا!"
مر شريط الذكريات أمام عيون سامر وهو مصدومًا مما سمع، وشعر بغصة بقلبه ودموع تخنقه وتملأ حنجرته كاد ينفجر باكيًا، تذكر يوم حضور أمل إلى ربيعة، مكسورة، حزينة، شاردة، وضائعة، تحدثت إلى ربيعة عن السحر وما فعلته لأمها ولغالية، تعالت أصواتهما وهي تتهم ربيعة بتدمير حياتها وحياة والديها، وتهديدها ووعيدها لها، ظلت ثائرة حتى وضعت ربيعة المنوم في البخور فسقطت أمل مغشيًا عليها، وأشارت ربيعة إلى أحد رجالها فحملها لغرفة أخرى، عندما استعادت وعيها تعالت صرخاتها الهستيرية، لكنها أعدت لها كوبًا من العصير ووضعت لها حبوب هلوسة، ما إن شربته حتى بدأت تضحك بهستيرية، رددت ربيعة على سمعها كلمات كوساوس من شيطان رجيم: إن غالية وأمكِ هما من دمرتا حياتكِ، ليست أنا، وأعطتها شريط حبوب يساعدها على النوم، وورق يحمل كلمات باللون الأحمر أشبه بطلاسم، وطلبت منها حرقه بالشقة لفك السحر، وألبستها قلادة، نفذت أمل كل أوامرها وأصبحت تتردد كل أسبوع على ربيعة، مرة غاضبة منها، ومرة مسالمة مكسورة.
تمتم سامر مع نفسه "أخر مرة رأيتها يوم شاهدت الفيديو الخاص بها، وهي في أحضان شخص غير زوجها، وهددتها ربيعة أن ترسله لزوجها أن لم تعطيها مجوهراتها، فأعطتها كل شيء ترتديه حتى هاتفها الخلوي تركته ورحلت تائهة، مصدومة، ومرعوبة، لعلها كانت آخر ليلة لها في الحياة، هل انتحرت يومها؟!"
انتبه سامر من شروده على صوت شيرين تسأله: من ربيعة؟! ولماذا ذهبت أمل إليها؟ ولماذا كنت هناك؟!
حاول سامر التهرب من أسئلتها ومن الشك الذي يراه في عيونها، وتعلل بذهابه إلى الحمام. ظلت شيرين تنتظره في حيرة وأفكار كثيرة وظنون تجمعت عليها، تأخر سامر عليها فخرجت تبحث عنه لتجده نائمًا على الأريكة في الصالون.
ودت أن توقظه ليفسر لها كل شيء، لكن تذكرت عدم نومه وتعبه معها بالمشفى فتركته ودخلت برفقة حيرتها وحزنها، حاولت النوم مرارًا لكن هيهات لم تغفُ عيناها ثانية واحدة.
أغمضت عيناها لتستريح لكنها أحست كأن أحدهم يراقبها وشعرت بأنفاسه حولها، تملكها الرعب وارتعشت أوصالها، ولم تجرأ على فتح عيونها من شدة الفزع، تزامن ذلك مع دقات على زجاج النافذة، وهطول الأمطار مع صوت الرعد، هنا كاد قلبها يسقط بين قدميها وتسارعت أنفاسها، كادت تفقد وعيها عندما شعرت بيد تقترب من غطائها وتحاول نزعه، صرخت وفتحت عيناها لتجد سامر أمامها تحتضنه باكية، فمن شدة الفزع لم تنتبه لدخوله.
ظلت تبكي وهو يضمها ويحاول طمأنتها، تعالت أصوات أذان الفجر في المآذن، قامت شيرين للصلاة بينما ظل سامر جالسًا، هنا رن جرس الباب فتعجب من سيزورهما في هذا الوقت؟!
فتح الباب ليجد علي أمامه، جاء ليصحبه لصلاة الفجر في المسجد، تلعثم سامر في الرد، فماذا يقول وكيف يهرب من ذلك المأزق، لم يصلِ طوال سنوات مضت، فكيف له أن يدخل المسجد بكل ذنوبه وآثامه، اعتذر منه متعللًا بمرض شيرين وعدم قدرته على تركها وحدها، فتركه علي وذهب للصلاة.
عاد إلى شيرين وظل بجوارها حتى نامت، بينما هو شغله التفكير في ما كان وما سيكون، غفا قليلًا ليستيقظ على رنات جرس الباب، فتح الباب وهو حذر ليجد علي، عاد لاصطحابه لصلاة الظهر، لم يستطع الهرب هذه المرة، دخل ليخبر شيرين ونزل معه، طوال الطريق وسامر شارد يفكر في شيرين، وكيف تركها وحدها في حالتها هذه؟! ما إن وصلا إلى باب المسجد ود لو فر هاربًا، كأن شيئًا ما يطبق على صدره ويلجمه ويخنق أنفاسه، وقف سامر صامتًا مترددًا في الدخول، فمد علي يده وجذبه إلى داخل المسجد حتى لا تفوتهما الصلاة، توضأ ولحق بعلي ووقف بجواره، تعالت أصوات دقات قلبه، مشاعر متناقضة سيطرت عليه، راحة وتعب، ألم وأمل، خوف وسكينة، تساقطت دموعه في سجوده خجلًا من رحمة الله وخوفًا من ذنوبه وجرائمه.
انتهت الصلاة وجلس علي يسبح ويدعو، وسامر يحاول إخفاء دموعه وحيرته، في طريق العودة للمنزل شكر سامر علي لاهتمامه ومساعدته له. ود لو صارحه بكل أحزانه وهمومه، لعله يملك حلًا يريحه من ربيعة وجحيمها، لكنه تراجع فلا أحد سيفهم الأمر، لن يستطيع أحد مساعدته ولا التغلب على شرور ربيعة، قرر ألا يقحمه بالأمر خوفًا عليه.
دخل سامر الشقة، ظل ينادي على شيرين فلم يجد ردًا، ظن أنها نامت، تحرك بحرص حتى لا يوقظها، فتح الباب بحذر ليطمئن عليها، لكنه لم يجدها! فهرع إلى باقي الغرف يبحث عنها وينادي، غالبته الظنون والأفكار، هل أتت ربيعة وخطفتها؟! هل حدث مكروهًا لها؟! ظفر بغيظ وضرب بكفه على الحائط وهمٌ بالخروج من الشقة بحثًا عنها، ليُفاجأ بشيرين أمام الباب، يضمها بشدة ويحمد الله كثيرًا، فقد ظن أنه فقدها، تعجبت هي من تصرفاته ودخلت في حيرة من أمره.
سألها مستفسرًا: أين كنتِ يا شيرين؟ لقد قلقت عليكِ.
نظرت إليه غاضبة: لا داعي للقلق، أنا بخير، استوحشت المكان قليلًا فصعدت إلى سارة؛ بانتظار عودتك من الصلاة.
ارتاحت نفسه وهدأ قائلاً: لا تخافي، طالما أنا معكِ لن يمسكِ أحد بسوء.
ردت شيرين وعلى وجهها ابتسامة سخرية: السوء لم يأتِ إلا منذ أن أصبحت معي! فقدت والديّ، وكدت أفقد حياتي، والآن أعيش في رعب وتوتر، لا أعرف سببه وأي عدو يطاردني، طوال عمري أمقت الكذب والخداع. لماذا خدعتني بالحب وأوهمتني بالسعادة التي لم أجدها؟! لماذا دخلت حياتي؟! ما ذنب أهلي وذنبي وأي ثمنًا ندفع؟! إن لم تحكِ لي كل شيء سأذهب ولن تعرف مكاني أبدًا.
استمع سامر إليها دون أن ينبس ببنت شفة، ود لو انشقت الأرض وابتلعته الآن، فماذا يقول لها؟! هل ستتحمل كل ما حدث؟! كيف يشرح لها أنه يعمل مع دجالة؟ وأنها مطلوبة لفتح مقبرة أثرية، أن من تطاردهم تريد حياتها، حدّث نفسه"أي ورطة هذه؟! لا أمتلك الشجاعة لأواجهكِ بالحقيقة يا شيرين، لن تتحملي الألم والصدمة".
انتبه من شروده على رنين هاتفه، نظر في الهاتف ليرى اسم ربيعة؛ ازداد غضبًا وتوترًا وخوفا على شيرين التي تنظر إليه بريبة وشك منتظرة أجوبته، لا يرد على الهاتف، ثواني وتصله رسالة من ربيعة تتضمن "لا تظن أنك هربت مني، أعرف مكانك يا سامر، لا تحارب في معركة خاسرة، احضر شيرين بيدك خلال يومين، وإلا تعرف بأي طريقة سأحضرها أنا"
غضب سامر وقذف الهاتف أرضًا مرددًا: تبًا لكِ يا ربيعة، وتبًا لكل شيء .
تراجعت شيرين للخلف خوفًا من غضبه، وانفجرت في البكاء، متجهة نحو غرفتها، وخلفها سامر يحاول معالجة الأمر وإنهاء التوتر والقلق، مسك يديها قبلهما وهي تجلس على الفراش، ووعدها بأن يحكي لها كل شيء غدًا، والآن عليها أن ترتاح بعد يوم عصيب.
ظل بجوار شيرين حتى نامت، أما هو فلم يغمض له جفن، ظل يفكر ويتقلب في فراشه، فأين يهرب من ربيعة؟ لا مفر من مواجهتها ولكنه لن يتغلب عليها دون مساعدة.
استيقظت شيرين على صوت الأذان، توضأت وصلت، وبحثت عن سامر لم تجده، ظنت أنه ذهب إلى عمله، تعجبت من نفسها "زوجي ولا أعرف ماذا يعمل؟! لا بد أن أضع اليوم حدًا لكل ذلك، إن لم يخبرني كل شيء عنه وماذا يحدث معنا، سأتركه بلا رجعة".
رن جرس الباب؛ فتحت شيرين لتجد أمامها شاب يحمل أكياسًا، يسلمها لها على أن زوجها أرسلها، أخذت الأكياس إلى المطبخ، كان طعامًا شهيًا من رائحته، فتحت لتجد البيتزا التي تعشقها والبطاطس المقلية المقرمشة مع بعض العصائر، دخل سامر وألقى السلام فلم ترد لأنها غاضبة منه.
جهزت الطعام ونادت عليه، جلسا معًا على المائدة وبدأت تأكل بنهم شديد فمنذ أمس لم تتناول شيئًا، نظر إليها سامر مندهشًا من انشغالها بالطعام، لم تنظر له ولم تنتبه أنه لم يتناول شيئًا، هنا تعالت ضحكاته وهو يردد: ماذا حدث لكِ يا شيرين؟! على مهلكِ، ألهذا الحد تحبين البيتزا؟!
نظرت له وهي تشتاط غضبًا: نعم أحب البيتزا جدًا والبطاطس، شكرًا لك على إحضارك الطعام ، كنت أتضور جوعًا.
نظر سامر مندهشًا من كلامها: أي طعام تقصدين؟! لم أحضر شيئًا، نزلت للصلاة مع علي، كنت على وشك شراء الطعام لكنه أخبرني أن الثلاجة بها طعام كثير، شكرته على كرمهم معنا وعدت.
توقفت شيرين عن تناولها الطعام، وتأوهت من الألم وهي تمسك بطنها مسرعة إلى الحمام، وخلفها سامر مفزوعًا عليها، يناديها من خلف الباب مستفسرًا عن حالتها، لا ترد عليه؛ يزداد قلقه؛ يفتح الباب ليجدها ملقاة على الأرض؛ يحملها بفزع ويخرجها إلى الفراش محاولًا إفاقتها، لكنها لا تستجيب، يحملها ويتجه مباشرة إلى المشفى والدموع تتساقط من عيناه.
دخلت غرفة العمليات لإجراء غسيل معدة، ووقف سامر مكسورًا، منهارًا، وتذكر كلامها عن إحضار الطعام، هاجمته الظنون واقتحمت قلبه غصة، ويد الإتهام تشير إلى ربيعة في هذا الأمر.
كور قبضة يده وضرب الحائط بغضب شديد حتى سالت الدماء من يده، خرجت الممرضة ووجهها عابثًا، اتجه مسرعًا نحوها يتملكه الفزع مستفسرًا: طمئنيني على شيرين، هل هي بخير؟
هزت الممرضة رأسها بالنفي بأسى وبدا على ملامحها الحزن الشديد ودموعها تتساقط.
كاد قلب سامر يتوقف، وانعقد لسانه عن النطق وهي تربت على كتفه لتواسيه.