"لا تحكم عليها بأنها كئيبة أو كسولة أو مهملة فقد تكون فقدت شغفها وحماسها بسبب ظروفٍ ما؛ قتلت إقبالها على الحياة فأردتها ذابلة منهمكة!".
هكذا تبدو أمل لمن يراها تهزل يومًا بعد يوم، تزداد اضطرابًا وشحوبًا وتواري ذلك خلف بسمات مصطنعة لا تمت إلى وضعها النفسي المؤلم.
ما إن سمعت أمل طرقًا على باب الغرفة حتى جذبت الغطاء ودفنت رأسها أسفل وسادتها كأنها تختبأ من مجهول قادم، انتفض جسدها وازدادت دقات قلبها كأنها تهرب من وحش يطاردها. ظلت تردد آيات من القرآن وتدعو الله أن يحفظها، تعالت أصوات الطرق مزامنة مع طرق أسفل شرفتها، تلعثمت في قرأتها وتساقطت دموعها فزعًا.
فجأةً وجدت من يجذب عنها الغطاء؛ فصرخت وصوتًا يأتيها من بين صراخها: اهدئي يا أمل، أنا سارة، وقربت لها كشاف الضوء الذي تحمله.
فتحت عيناها لترى سارة أمامها، احتضنتها بشدة ثم ضربتها ضربًا خفيفًا وهي تردد: لقد أفزعتني يا سارة، سامحكِ الله، ظننتكِ شبحًا!
تعالت ضحكات سارة وهي تردد: كنت أعرف أنكِ ستخافين ولكن لم أتوقع أن يصل حالكِ لذلك الرعب، إن خيالكِ واسع، لا تشاهدي أفلام رعب كثيرة، لا يوجد أشباح هنا!
غضبت أمل منها فقد كادت تموت خوفًا وها هي سارة تسخر منها، فقالت لها : أنتِ لم تجربي شعوري بالوحدة والخوف كاد قلبي يتوقف حقًا، تخيلت أشباح وصور مخيفة، أتمنى لو كنت مثلكِ امتلك قلبًا قويًا، فقد أوشكت على فقد عقلي من وساوس أخر الليل ومسرح الرعب الذي يراودني كل ليلة.
ترد سارة: اعتذر لكِ، ولكن دعينا ننام الآن لا أحب السهر، رأفة بكِ تركت مملكتي لأبقى معكِ حارسًا أمينًا، هذه وصية أخي.
ابتسمت أمل أخيرًا وزال عنها الفزع: شكرا يا سارة، لن أنسى تضحياتكِ، بعد فترة سأسافر وسأرحمكِ من حراستي.
وضعت سارة الكشاف جانبًا وجلست بجوار أمل على الفراش، وسحبت الغطاء استعدادًا للنوم؛ لكن مع بكاء أمل اعتدلت وضمتها محاولة تهدئتها ومعرفة ماذا بها!
ظلت أمل تبكي ووسط دموعها التي تتساقط ومن بين نهنهاتها قالت: لا أعلم ماذا بي؟ حزن عميق ينخر قلبي؛ موت أبي ومرض أمي كانا كرصاصة أطلقت في قلبي ولا أقوى على نزعها؛ نزيف الدموع لا يتوقف والألم يزداد، الفراق مرير يا سارة، نعم تزوجت من أحب وحامل في طفلي كل هذا تتمناه أي فتاة لتكون سعيدة، لكن سفر أحمد وافتقادي له، وموت أبي وافتقادي لأمي؛ جعل السعادة هجرت حياتي وعشش قلبي الأسى والحزن، أحاول الخروج من دائرة الألم مرارًا ولكن دون جدوى.
تربت سارة على كتف أمل وهي تضمها قائلة: هوني على نفسكِ حبيبتي، سيمر كل ذلك، هذه سُنة الحياة، أعلم أن الأمر ليس هينًا؛ فقدان الأب صعب، ولكن صبرًا جميلًا يا صديقتي، ستُشفى والدتكِ بأذن الله وتعود سالمة، وستسافرين لأحمد قريبًا. وستعود السعادة ترفرف على حياتك من جديد بإذن الله.
ربتت سارة علي شعر أمل بيدها وظلت تتلو عليها آيات القرآن حتى أغمضت عيناها وغفت.
"الفقد هو أصعب شعور يمر به الإنسان، أن تفقد إنسانًا غاليًا، أن يغلبك الحنين كل حين، تطاردك الذكريات ويقهرك الحزن، فلا تحسبوه هينًا!"
تمنت سارة لو ظلت معها طوال الوقت لتؤنسها في وحدتها خاصةً بعد ما رأت فزعها، أو أن تنتقل أمل للعيش بشقتهم، لكنها تذكرت كيف تتعامل أمها بقسوة مع أمل وكأنها سرقت منها ابنها الوحيد، وكيف تقف بينهما حائرة خاصةً وإن أمل صديقتها، وأمها تعتقد أنها السبب في زواجهما، حاولت كثيرًا إصلاح ما بينهما لكن أمها ترفض، حتى أنها تمنع مبيت سارة معها، لولا انقطاع الكهرباء لما سمحت لها بالنزول.
نظرت سارة لأمل بأسى ودعت "اللهم أصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا واهدنا سبل السلام"
مرت أيام وليالٍ لم تسلمْ أمل من جندِ الخوفِ وشيطانِه بلْ أنّه قد التهم من قلبِها نصيبًا وافرًا، واعتلتْ وجههَا صفرةٌ شديدةٌ وامتنعتْ عن الأكلِ ذلكَ من شدةِ خوفِها وقلقِها على والدتِها، كانتْ تخافُ أن تفقدَ والدتَها على حينِ غرةٍ، وتدعُو لهَا بالشّفاءِ أناءَ الّليلِ وأطرافَ النّهار، فهي لا تقوَى علَى أن تعيشَ دونَها.
إلى جانب قلقها على طفلها وتعب الحمل، كان عدم نومها والأرق الذي يرافقها؛ نتيجةَ هذا خرتْ قواهَا وضَعُفَ جسمُها ووهنتْ فلم تعدْ تقوَى على أداءِ أشغال البيت أو المذاكرة؛ نصحتها سارة بالذهاب إلى المشفى لمتابعة الحمل والاطمئنان على صحتها، وبعد عدة أيام صحبتها للفحص، جلست أمام الطبيبة التي توجهت إليها بالكلام: حالتكِ حرجة جدًا، لماذا تهملين صحتكِ وصحة طفلكِ؟ التحاليل سيئة ولا بد من نقل دم حالًا، إن لم يهمك نفسكِ ما ذنب طفلكِ؟!
بكت أمل بشدة وارتعشت أوصالها خوفًا، تحدثت الطبيبة إلى سارة على انفراد: يبدو أن المريضة تعاني من اكتئاب شديد ولا بد من عرضها على طبيب نفسي، الأمر جدي ولا مجال للإهمال.
احتارت سارة ماذا تفعل فاتصلت بأبيها، فحضر إلى المشفى سريعًا وأتم إجراء نقل الدم، وأخبرهما الطبيب بحجزها بالمشفى حتى تتحسن حالتها، فقررت سارة مرافقتها.
وعندما علمت والدة سارة بالأمر حزنت على حظ ابنها ورددت كلامها المعتاد : إنها لم تكن تصلح زوجة لابني، ألم أقل لكم أنها لم تأتِ إلا بالهموم والمشاكل! ليته سمع نصيحتي وتزوج ابنة خاله.
تركها زوجها غاضبًا من كلامها ودخل غرفته، بينما بدلت سارة ملابسها وأخذت بعض المتعلقات وعادت إلى المشفى لأمل.
كادت دموع سارة تسيل فمنعتها، الدموع عندما تسقط تحرق عينيك ولكنك حين تحبسها داخل عينيك ألمها دومًا أكبر.
وصلت السيارة إلى الشقة، وترجل الجميع بينما سارة شاردة، نبهها علي مرات ثم ربت على كتفها حتى انتبهت له، وعادت من رحلة ذكرياتها التي شردت بها طوال الطريق .
وصعدوا جميعًا لأعلى، دخلت شيرين مع سارة الغرفة بينما ظل سامر مع علي في الصالة.
حاولت سارة ألا تبكي؛ فشيرين في حالة نفسية صعبة ولا مجال لذلك تمالكت نفسها وأخفت دموعها، وتصنعت الفرحة وهي تردد: هيا يا صديقتي المتعبَة بدلي ثيابكِ سريعًا واستريحي حتى أجهز الغداء، أعددت لكِ كل ما تشتهي من طعام، ولكن لا تتعودين على هذا التدليل، سنأكل غدًا من يدكِ، اتفقنا؟!
ابتسمت شيرين ابتسامة باهتة، وهي لا تقوى على الكلام ولا الجدال، كأنها دمية تحركها الأيدي هنا وهناك. جلست على الفراش وبيدها الملابس ودموعها تسبقها فهي الشيء الوحيد الذي ما زال حيًا بها، كانت الثياب مُلكًا لأمل صديقتهما حيث خسرت شيرين كل شيء في الحريق.
تذكرت شيرين أمل، فبعد أيام من زفافها حضرت مع سارة للتهنئة وجلسن هنا على الفراش تتعالى ضحكاتهن وهي تروي لهن ما حدث ليلة زفافها عندما نسى أحمد مفتاح الشقة ووقفا على الباب ينتظران سارة لإحضاره، لكن المفاجأة أنها لم تجده، حتى النسخة الاحتياطية اختفت تمامًا. فكر أحمد أن يكسر الباب لكن أمل رفضت أن تبدأ حياتهما بكسر وتشويه الباب؛ صعدا لشقة والده، كان أحمد غاضبًا فقد تبددت أحلامه الوردية لكابوس، والورود التي جهزها وملأ بها الشقة ذبلت أمامه، ظل شاردًا يفكر أين ذهب المفتاح؟! بينما أمل وسارة جلستا في سعادة تامة تشاهدان صور وفيديوهات حفل الزفاف وتتعالى ضحكاتهما. رفض أحمد نصيحة والده بتبديل ثيابه والنوم بغرفته، ما زاد حزنه عدم قدرته على النزول لصلاة الفجر كعادته فكيف ينزل بثياب الزفاف؟! ماذا سيقول الناس عنه؟ ما إن أشرقت الشمس حتى اتصل بنجار لفتح الباب دون كسره، وصنع مفتاحًا آخر.
دفنت وجهها في وسادتها قبل أن تطلق آهات مكتومة وهي تشعر أن جدران الغرفة تكاد تنطبق على صدرها، ظلت هكذا حتى عادت سارة وضمتها لتهدأ من روعها وحاولت مساعدتها على تبديل ثيابها.
تنهدت شيرين مرددة: تلك الأيام ليتها دامت! تعلمين يا سارة كلما تذكرت أيام دراستنا وطفولتنا وذكريات الأيام الماضية والسعادة التي كانت ترفرف علي حياتنا والأمل والحب الذي ملأ قلوبنا تمنيت لو ظللنا هناك حيث أحلامنا وضحكاتنا والأمان والدفء في أحضان عائلتنا، أين ذهب كل ذلك؟! لا أحد كان يعلم ما سيحدث، كيف ذابت السعادة وعمَّ الخوفُ والقلقُ الشّديدُ، كيف شمرتْ الأحزانُ عن ساعديْها لتنهشَ من لحمِ عوائلنا؟!
حتى تلك الذكريات الجميلة مؤلمة، لأنها صارت ذكريات، فقد رحلوا من كانوا يشاركوننا فرحنا بها، نبتسم لطيفهم كلما مر بمخيلتنا، وكان سرعان ما تباغتنا الدموع، إن الذكريات ناقوسٌ يدق ليحرمنا نعمة النسيان!
ساد الصمت لحظات لم ترد سارة على تساؤلات شيرين، قطع الصمت نداء زوجها علي، فخرجت مع شيرين لتناول الغداء، ثم استأذنت سارة وعلي تاركين شيرين وسامر للراحة.
انتفض جسد شيرين عندما اقترب سامر منها، ثم أمسك يديها وطأطأ رأسه على يدها ودموعه تنهمر من عيونه الذابلة بفعل السهر، محاولًا مواساتها وطمأنتها ولكنها ابتعدت ودخلت حجرتها وسامر خلفها، وأغلقت الباب وقالت وهي تبكي: دعني وشأني يا سامر، لا تقترب مني أبدًا، أريد أن ننفصل بهدوء.
رن هاتفه كانت ربيعة تتصل؛ غضب بشدة وقذف الهاتف في الحائط بعنف مرددًا: تبا لكِ يا ربيعة، عليكِ اللعنة!
وقف سامر أمام الغرفة صامتًا ثم طرق الباب طرقًا خفيفًا مناديًا شيرين وراجيًا إياها أن تسمعه وتفتح الباب وسيصلح كل شيء .
وقفت شيرين شاردة أمام صورة زفاف أمل المعلقة بالغرفة.
ثم فتح سامر الباب ودخل واعتذر لها عن كل ما حدث، ووعدها بحل كل شيء وإيجاد شقة قريبًا، لاحظ شرود شيرين في الصورة المعلقة يقترب منها، ويسأل شيرين مفزوعًا: صورة من؟!
ترد بأسى: أمل صديقتي وزوجها أحمد ابن خالتي، هذه شقتهما.
يرد سامر مصدومًا: غير معقول، يا إلهي إنها هي، نعم هي!
نظرت شيرين متعجبة: هي من؟! هل تعرف أمل؟!
يضع يده على رأسه مرددًا: رأيتها عند ربيعة منذ عام أو أكثر، أين هي؟!
بأسى وحزن شديد ترد شيرين: أمل ماتت، انتحرت!