أجمل من الخيال وأطيب من الورد ، تبدو كنجمة متألقة ، رقيقة كالنسمة ، خفيفة كفراشة تطيرمتنقلة بين أغصان الحياة ، تمتص رحيق الأزهار تستنشق أريجها ، تفوح رائحة الياسمين والعطور منها كأنها اغتسلت للتو بهما ، تضع مكياجا رقيقًا وترتدي ملابس بسيطة أنيقة ، تتزين بروحها المرحة قبل أشيائها الرقيقة مثلها !! تخلب الأنظار والقلوب بمجرد رؤيتها !!
تلك هي رماح !! فتاة حالمة أحلامها لا تنتهي ، في مقتبل العمر لم تبلغ الثامنة عشر من عمرها بعد !!، عرفتها منذ سنوات وأصبحت صديقة لي ، تكررت زيارتها لي عدة مرات ، أعتدت أن اسمعها بشغف ، وهي تحدثني عن أبيها وأسرتها الكبيرة.
صدمتني عندما أخبرتني إن أباها متزوج من أربعة نساء ، وأنهن يقمن جميعا في منزل واحد ، وقتها خطر بفكرِ مسلسل (الحاج متولي ) !! ..
قالت أن لها أثنا عشرة أخا وأختا !! وإنها تحب والدها حبا كبيرا ، فهو ملاك .. ويحب أمها أكثر وأكثر ، فهي الزوجة الصغيرة وآخر من تزوج وإنها الأثيرة لديه .. يدللها هي وإخوتي .. ويلبي ما تطلبه هي أو نحن الأولاد فورا و بكل حب و رضا .
انقطعت فترة قصيرة عن زيارتي .. وفي عصر أحد الأيام جاءتني باكية حزينة ، وآثار الضرب علي وجهها وجسدها ، و حكت لي عما تعانيه و والدتها من زوجات أبيها وأولادهن أثناء تغيبه .. فهو كثير السفر وقضاء أيام خارج البيت للعمل .. فينتهزون الفرصة ويثيرون معهم المشاكل ويضربونهم ويظهرون ما في نفوسهم من حقد وغيرة منها لأنها تكمل تعليمها بتفوق .. وهم لم يستطيعوا ذلك ، يغيرون من اهتمامه بهم وعطاياه لهم ببذخ وتدليل ، ولا يكفون عن تنغيص حياتها هي وأمها !!
هدأت من روعها محاولة أن أجد كلمة مواساة مناسبة .. حتى هدأت قليلا.. توطدت علاقتنا أكثر وأقوى ، وصارت تهاتفني يوميا .. تبث لي أشجانها وتفضفض بما يمور في نفسها .. وأحاول مساعدتها على اجتياز محنتها .. واللجوء إلى الثقة بأن الله سيفرج كربها .. فتهدأ .. كنت لها كقارب النجاة الذي تبحر به علي شواطئ الحياة ،هربا من الواقع !!
لم أعد أراها أو أسمع صوتها .. فقد غيرت رقم هاتفها ، بعد مضي أسبوعين كنت قلقة جدا عليها .. رأيتها تسير مع شاب وسيم ، سلمت عليها ، وظننت إنه أحد أقاربها .. إلا إنني اكتشفت أنهما حبيبان .. من خلال حديثهما معي .. ونظراتهما المتبادلة في سعادة وحب .
زارتني بعدها وكلها شوق ولهفة وفرحة ! لتحكي لي عن حبهما ، بل عشقهما ، شعرت إنها تورطت معه إلى حد الجنون !
كانت عيناها ترقصان سعادة وعشقا .. وأحلامها وصلت معه إلى عنان السماء ، بنت قصورًا وحدائق تتحدث عن ذلك الذي أحبته ، فكأن زهورا قد تفتحت وانتشر عبيرها ، فقد خططا لكل شيء الخطوبة والزواج ، حتى إنهما اختارا أسماء أطفالهما !!؟ فتمنيت لها السعادة من قلبي .
غابت شهورًا وقل اتصالها بي حيث انشغلت بحبيبها .
فوجئت بها تهاتفني باكية فقد منعها والدها ـ من كثرة تحريض إخوتها ـ من استمرار دراستها وأنها تشعر بأنه لا أمل من خطبتها أيضا !! لأن أم حبيبها رفضت ذلك باصرار !!
واسيتها ببعض الكلمات التي لا تسمن ولا تغني من جوع !! وطلبت منها الدعاء دوما ، فالله وحده هو المعين الموفق لكل خير .. و اذا كان مقدرا لها العودة للدراسة فستعود رغما عن الجميع ، واذا كان حبيبها مقدرا لها زوجا ، فسيكون !!
بعد أيام أتصلت بي وكانت سعيدة جدا وأحسست من صوتها أنها تكاد ترقص !! بعودتها للدراسة .. فرحت لفرحها وباركت لها وتمنيت لها النجاح والسعادة دوما .
مرت الأيام .. وكان الاتصال بيننا قليلا .. فقد انشغلت بالدراسة .. حتى انتهت من امتحاناتها .. وهنأتها بالنجاح موصية أياها أن تحافظ على تفوقها .. وذات ليلة اتصلت بي لتخبرني أن حبيبها تقدم لخطبتها بعد أن أقنع والدته .. فرحت وهنأتها متمنية لها إتمام الزواج إن شاء الله .. إلا إنها استدركت باكية .. لكن إخوتي يحاولون الضغط على والدي لأنه محام ، غيرة منهم وحسدا .. مما جعل والدي يطلب منه الانتظار متعللا بعلل واهية .. تنطوي على الرفض !
ورجتني الدعاء لها بأن تنزاح تلك الغمة .. ويوافق والدها !! فهي تحبه ولا تتخيل نفسها مع أحد غيره أبدا ، فهو بالنسبة لها ليس مجرد حبيب فحسب .. بل هو أبوها وأخوها و صديقها ، ولن ترضى بغيره مهما حدث !!.. فكم كان إنسانا شريفا معها .. فهي تأمنه علي نفسها ولا تخشى منه أن يخذلها أو يغرر بها .. ودللت على ذلك بأنها قد زارته في بيته عندما علمت إنه مريض ، ولم تكن والدته بالبيت ، وأعدت له طعامه واطمأنت عليه وأعطته دوائه ، و قبل أن أعاتبها وألومها واستنكر ما فعلته ..
قالت : أرجو ألا تلوميني فإنني أحبه ، وهو يخاف علىَ من نفسه .. ويحميني ويحفظ شرفي وكرامتي .. لقد عشقت رجولته .. وكان كل يوم يمر وكل لقاء بيننا يثبت لي ذلك وأكثر !! أحببته كثيرا و لن يفرقنا إلا الموت !!
أخافني كلامها وخشيت أن تُصدم نفسيا مالم يجمعهما القدر وأن تؤدي صدمتها إلى ما هو أشد وأصعب !! ظللت أدعو لهما دوما في صلاتي ، أن يجمعهما الله ويجمع كل متحابين ، وألا يكتب الفراق أبدا على عاشقين لأنه مرير وموجع !
مرت شهور، كنا نتهاتف .. كل فترة وكانت تزورني قليلا .. نتحدث ونحكي .. وتحدثني عن آمالها وأحلامها وأمنيتها الكبرى أن يوافق والدها !
قبل العيد بأيام حدثتني بالهاتف وهى تبكى .. وأخبرتني بأن والدها رفض تماما حبيبها .. بل وافق على آخر .. تحت إلحاح إخوتي وتحريض أمهاتهم .. ازداد نحيبها وبكاؤها .. ظلت تبكي وهي تردد " لن أتزوج غيره و إن أجبروني سأنتحر " !!
حاولت تهدئتها بكلماتي وأن هذا هو قدرها ، ولترضى فقد يتغير الحال .. ولكن لم يفد كلامي معها شيئا .. فقد تملك حبه كل جوارحها .. واستولى على قلبها مستبدا .. ولم أملك إلا أن أدعو الله أن يعينها على ما في قلبها .
بعد عودتي من إجازة قصيرة قضيتها في قريتنا بمناسبة العيد .. اتصلت برقم رماح هاتفيا لأطمئن عليها .. لم تكن هي صاحبة الصوت .. سألت عنها .. وأين هي ؟ .. كان الرد صادما .. نزل عليَ كالصاعقة .. لقد ماتت رماح !؟ وأذهلتني الفاجعة !؟ كيف ماتت وهي بُرعم لم يتفتح بعد ؟! .. استغفر الله .. غفرانك يا الله !! ..
يا إلهي يا رماح ماذا فعلتي بنفسك يا صغيرتي ؟!
توجهت إلى منزلها للمواساة .. والعزاء .. أخبرتني أختها أنها بعد رفض أبيها حبيبها وإصراره على أن تترك التعليم لتتزوج من اختاره لها .. لم تتحمل ذلك .. وألقت بنفسها من النافذة منتحرة .. نفذت ما أرادت .. وفضلت الموت على الحياة دون حبيبها !!
رحماك يا رب بها وبنا .. تٌرى هل كان حبيبها يستحق أن تخسر حياتها من أجله ؟!
وماذا فعل ؟ أوماذا سيفعل ؟! هل حارب العالم من أجلها ، كما فعلت هي ؟! هل كان فعلا بطلا كما كانت تراه ؟!
لا شيء يستحق أن تخسرحياتها من أجله ! .. سيعيش هو حياته وسينساها ليبدأ قصة حب أخرى وتصبح هي مجرد ذكرى حب مضى .. وصفحة انطوت في حياته !
أي حزن هذا وأي ألم سببتِهِ لي .. ولأهلكِ يا ( رماح) ؟! فراقك صعب جدا ، يا رحمة الله احتويها و احتويني !!