في ماضٍ بعيد، كنتُ ساذجة حدّ الطفولة؛ من يحلف لي أعتبره مرآة الصدق، حتى لو شكت نفسي في كلماته، ألومها على ذاك الشك، فالذي يقسم بالله، كيف له أن يكذب؟ ولأن يمين الله عندي كان أقدس من أن يُحاك بالكذب، كنت أصدق بلا تردد، بلا ارتياب.
كنتُ ساذجةً حدّ الإيمان بأن كل من تحدثت معها أختٌ لي وصديقةٌ خالصة، أفتح لها خفايا قلبي وحياتي بلا تحفظ، ثم يأتي الندم كضيف ثقيل حين لا ينفع الندم.
كنتُ ساذجة لحد أنني كنت أرى كل من يصلي شيخًا، وكل من حجّ أو اعتمر ملاكًا طاهرًا لا يمسه الكذب ولا يناله الخطأ، ملائكةٌ طاهرون عادوا كيوم ولدتهم أمهاتهم بلا ذنب ولا رياء.
كنتُ ساذجة حدّ الانصهار في حزن العابرين، أذوب في آلامهم وأجرّع مرارة أوجاعهم أكثر مما يحتمل قلبي. كنتُ أبكي لمشهد مؤلم، ولو كان تمثيلاً على شاشة، كأنهم يكذبون بصدق يخترقني.
لكنني أدركتُ، بعد حينٍ، أنني كنتُ ساذجةً جدًا؛ ليس كل من يحلف صادقًا، وليس كل من تفتح له قلبك يصبح أخًا أو صديقًا. اكتشفتُ أن الفجوة شاسعة بين الصداقة الحقة، والزمالة العابرة، والمعارف السطحية. ليس كل من يصلي شيخًا، وليس كل من يبتسم صديقًا، ولا كل من يعبس عدوًا. بات النفاق والكذب بيننا كالهواء، والنفوس غريبة متقلبة، حتى إن المشاعر النقية تكاد تكون طيفًا يوشك على الانقراض.
كان يؤلمني غدر البشر، كنت أحتفظ بكل طعنةٍ في قلبي، حتى صار قلبي مقبرةً لخيباتٍ بآلاف الأضرحة. وها أنا اليوم، بابتسامةٍ هادئة، أتعهد ألا أعود لتلك السذاجة. لن أثق بوعودٍ مغلّفة بالحلفان، ولن أفتح قلبي كالسابق، فقد علمني الزمان ألّا أمنح ثقتي إلا لمن يستحقها بحق.