اعتادت (هبة) أن تستقل القطار كل صباح ، للذهاب الي عملها في المدينة التي تبعد عن منزلها مسافة يقطعها القطار في ساعتين، حيث يكون القطار هو الأنسب والأسرع والأيسر .. كما إنها تجد راحتها فيه حيث تتاح لها حرية الحركة ،على عكس السيارة التي غالبا ما تكون متعبة لضيق المسافة بين المقاعد ..كما إنها تختنق منها !!
فالقطار رغم إنه يتوقف في كل محطة وأبوابه دائما لا تغلق ، ونوافذه مفتوحه على مدار العام إلا إنه بالنسبة لها ولغيرها من البسطاء وصغار الباعة ولأبناء القرى التي يمر بها .. يعد كنزا وسوقا !!
فتجد بائع الملابس يحمل بضاعته متنقلا داخل عرباته لعرضها رغم ـ كبر سنه ـ مناديا بأغنية ممتعة وظريفة من تأليفه لجذب الركاب له وابتياعهم منه !
وهذا بائع التسالي ( لب وسوداني وحمص وحلوى) ينادي بكلماته المضحكة فتبتسم رغما عنك !
وهذه بائعة الطيور ( بط وأوز و دجاج وحمام وغيره ) ، تحمل أقفاصها محاولة الركوب .. فتمتد إليها الأيدي لمساعدتها .. حتى لا يفوتها القطار ..
أما بائعة اللبن والبيض والجبنة ، فتفترش أرضية القطار بأريحية وبساطة ، كأنها في منزلها ، أوفى السوق وسط بضاعتها ، وهذه ابنتها تحمل معها زجاجات اللبن ، تجوب القطار ذهابا وإيابا ، عدة مرات دون ملل أو كلل لتعرض بضاعتها ، آمله أن يشتري منها أحد.
والكل يسعون .. ويتحايلون لجلب الرزق .. وكلهم يرتزقون !!
يجذب انتباهها فتاة تستقل القطار من إحدى المحطات ، كانت آية في السحر والجمال والبراءة ، تبدو صغيرة السن أو في العشرين من عمرها ، تحمل طفلة لا تتعدى العامين جميلة وخفيفة الظل ، ومعهما شاب قطعت أحدى قدميه يحمل (عكازا) ، رغم ذلك تلمع عيونهما من السعادة والرضا ، تنصت (هبة) عندما تبدأ الفتاة سرد قصتها لبائعة الطيور، يصل إلى سمع (هبة) حديث الفتاة مع بائعة الطيور .. وهي تحكي لها قصتها ..فعرفت إن إسمها ( جميلة) وهى حقا هكذا ، أن والدها أجبرها على الزواج من شخص لا تحبه بعد أن رفض حبيبها الذي رفضت أن تستكمل تعليمها من أجله ، لأنه لم يستكمل تعليمه ، وعمل سائقا ، فرفضه والدها ، لأنه لا يليق بها !
بعد زواجها عاندت زوجها ورفضت معاشرته .. وسجنت نفسها داخل حجرتها .. وهددت بالإنتحار إن اقتحام الحجرة !
وامتنعت عن الطعام أيامًا، حتي كادت تموت !! وطفح الكيل بزوجها .. فحطم الباب ، وأغتصبها دون رحمة ، ليزيح الشك الذى راوده في كونها ليست عذراء .. لم تستطع مقاومته لضعفها الشديد نتيجة عدم تناول الغذاء .. قدم لها كوب عصير مركز، رفضته .. فما كان منه إلا أن سقاها إياه عنوة .. حتى تسترد بعض قوتها !! ثم تركها ومضى خارجا من المنزل .. تنتهز الفرصة .. وتهرب وهي تنزف ، ممزقة الثياب ، متوجهة إلى بيت والدها، لتسقط مغشيا عليها ، تُنقل للمستشفى وتظل بها أياما
تعود بعدها لبيت والدها رافضة العودة إلى زوجها ، ويقف والدها معها ، ويطالب زوجها بطلاقها .. يرفض هذا الزوج الذى تجرد من كل معاني الإنسانية أن يطلقها .. تلجأ إلى القضاء ..
ويمرعامان ويحكم لها بالطلاق ، وتتزوج بمن تحب ، يعاملها كملكة وتنجب طفلتها ، يعيشون عاما ونصف في سعادة لا توصف ، حتى يفقد ساقه في حادث سيارة ، فتظل معه ترعاه بحب ورضا .. ترفرف عليهما السعادة ، يقبل رأسها ويديها أمام الجميع ، و يصفها بأنها هبة الله له.. ونعمة الله التى لا تضاهيها أية نعمة !!
يتوقف القطار في محطة تالية .. تركب سيدة كبيرة ومعها إبنتها ، تجلس بجوار (هبة) المندهشة مما ترى ، فقد أوثقت الأم يدي أبنتها بحبل تمسكه بقوة ، الكل ينظر مستنكرا واتهامات في عيون الجميع للأم بالقسوة ، تدمع عينا الأم وتروي للجالسين قصتها .
ما إن أنهت إبنتها الجامعة حتى تم تعيينها بإحدى المحاكم .. تقدم لها ضابط وتمت الخطبة وتم الإعداد للزفاف الذى تم تحديد موعده .. ولكن قبل زفافها بيومين يستشهد خطيبها .
تصاب بصدمة تفقدها النطق ، تطورت حالتها لاكتئاب ، حاولت الانتحار مرات ، رفضت العلاج ، وهربت من المنزل عدة مرات .. وكنا نجدها بعد مشقة وتعب .. ففكرت أن أربطها حتي لا تهرب مني وأذوق مرارة بعادها و فقدها ، تبكي الأم محتضنة ابنتها ، يتأثر الجميع .. ويدعون لإبنتها بالشفاء .. ولأمها بالصبر .
تشعر(هبة) بالحزن والألم وتدمع عيناها .. وتتراءى لها ذكريات الماضي المؤلم ، حيث فقدت أخاها الشاب في حادث صعق كهرباء منذ عامين فتتساقط دموعها !! وتحمد الله على أنها لم تقع فريسة الحزن و تتعلم ألا تتسرع في الحكم علي الأخريين !
بعد عدة محطات يركب شيخ مسن ، لا يقدر على الوقوف .. يساعده بعض الركاب ويجلسونه على أحد المقاعد الشاغرة .. يشكرهم ويدعو لهم بالسلامة وأن يجنبهم الله شر الحاجة والابن العاق .. داعيا علي ولده الوحيد ، الذي طرده إلي الشارع بعد أن سجل المنزل باسمه وحرم بناته من حقوقهن فيه .. ولم يدر إلى أين يذهب .. نام ليلة بجوار البيت في العراء .. لما علمت إحدى بناته ، سارعت إليه .. واصطحبته إلى بيتها .. وأخبرت أختاها .. فهرعتا إلى والدهما .. وعيونهم تذرف الدموع الثخينة حزنا على ما أصابه من أخيهم العاق .. ويقبلن رأسه ويداه .. ويطلبن منه الدعاء لهن رغم إنه قد ظلمهن وفضل الولد عليهن .
المحطة قبل الأخيرة تدلف إلى القطار امرأة معاقة تتسول من الركاب ، ما يعينها على متاعب الحياة .
منهم من يعطيها برضا ، ومنهم من يستنكر فعلتها ويطلب منها أن تعمل بدلا من أن تهين نفسها بالتسول ومنهم من يدير الوجه عنها !!
تشرد (هبة ) قليلا تفكر ماذا ستعد علي الغداء اليوم ، تنتبه من أفكارها ، علي صوت الركاب والباعة ، وهم يتسامرون مع بعضهم ، فتشعر كأنهم عائلة واحدة ، رغم أنهم لا يلتقون هنا إلا بضع ساعات أو دقائق ، معهم تنسى همومها ، ومشاكلها و عناء سفرها الطويل، تستمتع بأحاديثهم
عندما ترى أحوالهم ترضى بأقدارها ، تشعر بتفاهة معاناتها ، متأملة هؤلاء الأبطال الذين يرتادون القطار كل يوم ذهابا وإيابا ، حاملين أمتعتهم الثقيلة ، وهموهم علي ظهورهم ، ساعيين على أرزاقهم برضا ويقين في الله وأن الرزق بيد الله وحده .
متحملين الحر الشديد صيفا، والبرد القارس شتاء ، دون شكوي أو تذمر .. على مدار العام .. وكلهم يعرفون بعض .. حتى (هبة) أصبحت معروفة لديهم ، يحيونها كل يوم صباحا ومساءا ، ويفتقدونها إن غابت يوما ، ويسألونها عن بناتها فقد شاهدوهن معها بضع مرات ، الكل هنا.. زملاء رحلة واحدة .
إنها رحلة الحياة بما تحمله من عناء السفر والعمل والسعي علي الأرزاق .